شكل فيلم الرسوم المتحركة/الأنيمي «The King And The Mocking Bird» للفرنسي «بول جريمو» إلهامًا كبيرًا لـ«إيساو تاكاهاتا»، حيث يحكي معلم الأنيمي الياباني -الراحل عن عالمنا مطلع هذا الشهر- أنه لو لم يشاهد هذا الفيلم لما فكر أبدًا أن يطرق عالم سينما الرسوم المتحركة. الفيلم الذي كتبه جريمو رفقة الشاعر جاك بريفيير عن قصة للدنماركي هانز كريستيان أندرسون فتح عيني تاكاهاتا على إمكانيات فن الرسوم المتحركة.

كان تاكاهاتا مأخوذًا تمامًا بالقدرة التعبيرية المذهلة للأنيمي، استخدام التعبير البصري للتعبير عن عواطف وانفعالات يستحيل تنفيذها بممثلين حقيقيين وشريط صورة/سينماتوجرافي حي. فالطائر الذي يعد رمزًا للحرية لم يكن له اختيار، لم يكن الأمر مجرد خيال يحكي حكاية تحرر من القمع والدكتاتورية، بل كان يكشف عن الحقيقة التراجيدية للقرن العشرين عبر سيل من الصور المفاجئة والأفكار غير المتوقعة.


«الوابي» عند إيساو تاكاهاتا

خلافًا للعوالم المغوية لرفيقه الأبرز معلم الأنيمي «هاياو مايازاكي» الغارقة في الفانتازيا والسحر، كان تاكاهاتا يناضل من أجل تحقيق أقصى واقعية ممكنة، وأن يجذر مشاعر أبطاله فيما هو إنساني أصيل حتى لو احتوى عالمه على عناصر فانتازية. عالم تاكاهاتا هو عالمنا المألوف، وشخصياته أيضا تنتمي لهذا العالم، والدراما التي تتكشف مع السرد هي صراعات الحياة اليومية.

يقع فن الرسوم المتحركة في منطقة وسط بين المحاكاة والتجريد؛ أي بين رسم تفاصيل الواقع بدقة بالغة عبر الحوار والحركة والتعبير عما لا يعبر عنه. هنا تكمن القوة الحقيقية لفن الأنيمي، إنه ليس خيالًا مبالغًا فيه بل تعبيرًا عن المشاعر الإنسانية الأصيلة على نحو مجازي. استطاعت سينما تاكاهاتا أن تجسد هذه القوة بطريقة استثنائية. في فيلمه «Only Yesterday» نرى كيف صور مشاعر الوقوع في الحب لأول مرة بطريقة واقعية عبر الخجل والحوارات المرتبكة، ومجازيًا بتصوير بطلته الطفلة، وهي تصعد نحو السماء لتحلق فوق العالم بأجنحة الحب. دائمًا التحليق فوق العالم هو مجاز الحب في سينما تاكاهاتا.

في الجماليات اليابانية فئة جمالية تتمثل في مفهوم «الوابي» ويعني هذا المفهوم في مجال التطبيق أنه كلما كان الوعاء أكثر عادية -بل أكثر فقرًا- كان التأثير أكثر قوة، فالعادي، والخشن، والمألوف، يعد بمثابة أفضل قنوات التوصيل للروح الجمالية. تنتمي جماليات تاكاهاتا لهذا المفهوم الجمالي، والذي كان يميز أيضًا أعمال المخرج الياباني «ياسوجيرو أوزو» الذي تأثر به تاكاهاتا، والذي تظهر سينماه الزخم العاطفي لحياة اليابانيين العاديين.


خصائص أسلوب إيساو تاكاهاتا

يتميز أسلوب تاكاهاتا الإخراجي بحس «مينمالي Minimal» عالٍ (حيث يحتوي المشهد على أقل قدر من العناصر وأكثرها ضرورية)، فالكوادر فارغة، حيث تحرك هذه المساحات الخالية داخل الكادر مخيلة المشاهد ليملأ هذه الفراغات بذكريات أو مشاعر تخصه حسب سياق الكادر، وهو ما يجعل المشاهد شريكًا فعالًا في العمل الإبداعي وليس مجرد مشاهد سلبي.

إصرار تاكاهاتا على وضوح وحدة خطوط الرسم للإبقاء على فكرة اصطناعية الوسيط «Artificiality Of The Medium»، وهو تأثر واضح بالموجة الجديدة الفرنسية، والتي كانت تسعى دائمًا عكس السينما الكلاسيكية إلى كسر الإيهام وجذب انتباه المشاهد إلى أنه يشاهد فيلمًا وليس واقعًا حقيقيًا، أو كما عبر تاكاهاتا:

يتجنب تاكاهاتا لقطة وجهة النظر الذاتية ويفضل عليها دائمًا وجهة النظر الموضوعية في لقطات بعيدة ما يتيح للمشاهد التأمل دون أن يتوحد مع شخصياته. يرفض أيضًا تاكاهاتا بذلك منطق الشخصية الرئيسية التي يتوحد معها الجمهور غالبًا على حساب بقية عناصر الصورة أو فكرة البطل الذي يقود السرد الفيلمي ويوجهه.


ثلاث تحف رسومية تكفي لتتويجه معلمًا لفن الأنيمي

نستعرض في هذه المساحة ثلاثة أفلام، هي أفضل ما أنجز تاكاهاتا، ومن أفضل الأفلام في تاريخ فيلم الرسوم المتحركة. يمكننا أيضًا أن نشير إلى إنجاز آخر لا يقل أهمية أو تأثيرًا من أفلامه هو تأسيسه مع رفيقيه المخرج هاياو مايازاكي، والمنتج «توشيو سوزوكي» استوديو «جيبلي»، والذي أصبح سريعًا أحد أشهر استديوهات الرسوم المتحركة في العالم. حيث رسخ عبر أفلامه صورة مختلفة لفن الأنيمي.

Grave of the Fireflies – 1988

أول أفلام تاكاهاتا بعد تأسيس استوديو جيبلي، عن رواية للياباني «آكايوكي نوساكا».

البعض يرى في «قبر اليراعات Grave of the Fireflies» أكثر أفلام «جيبلي» قتامةفيلمًا صادمًا عن بشاعة الحرب وعن عذابات الحياة في زمنها. تدور تحفة تاكاهاتا في الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية، حيث يرصد تاكاهاتا المحاولات اليائسة لـ«سيتا» (14عامًا) وهو الأخ الأكبر لـ«سيتسوكو» طفلة في الرابعة من عمرها، من أجل البقاء ومواصلة الحياة وحيدين بعد أن تهدم بيتهما وقتلت أمهما تحت القصف الأمريكي.

الفيلم يبدأ بروح سيتا وهي تخبرنا «هذه هي الليلة التي مت فيها»، حيث نعلم منذ البداية أنه سيموت مشردًا وجائعًا في إحدى محطات القطار ليصحبنا بعد ذلك عبر تجربة شعورية تجبرنا على معايشة أهوال الحرب مع الطفلين، ونشهد سيتسوكو الملائكية وموتها البطيء والمرير كمرثية حزينة لاغتيال البراءة في زمن الحرب. ينتهي الفيلم بلقطة بعيدة لشبحيهما يتأملان اليابان المعاصرة ربما كروحين حارستين. يقول الناقد الأمريكي الأشهر «روجر أيبرت»: «إن أي قائمة لأعظم أفلام الحرب ستضم بلا شك قبر اليراعات لتاكاهاتا».

Only Yesterday – 1991

بعد ثلاث سنوات من تقديمه «قبر اليراعات» يقدم تاكاهاتا هذه الدراما المعاصرة معتمدًا على مانجا (قصة مصورة) بنفس العنوان لهوتارو أوكاموتو . فيلم عن الطفولة والذكريات عن الأحلام الضائعة، يدور خلال إطارين زمنيين؛ أحدهما ثمانينيات اليابان، حيث تذهب تايكو الفتاة غير المتزوجة في رحلة إلى الريف لتقيم في منزل أختها الكبرى. والثاني هو ستينيات اليابان، حيث ذكريات تايكو الطفلة التي تباغتها خلال رحلتها في الريف.

يميز تاكاهاتا بين الزمنين عبر الصورة، فالصورة في زمن الذكريات تبدو حلمية وباهتة عبر أطراف الكادر كما لو كان ذلك بفعل الزمن أو للدلالة على ضبابية الذكريات. بينما ما يعتبر الزمن الحاضر يبدو براقًا وبألوان مشبعة ومشهدية تعكس جمال وبساطة الحياة في الريف. دراما عائلية ومشاعر إنسانية خاصة تبدو غريبة أن يتم تناولها عبر فيلم رسومي لكن تاكاهاتا يصنع منها تحفة رائعة.

The Tale Of The Princess Kaguya – 2013

لا أريد للجمهور أن ينسى أن ما يشاهده رسوم متحركة، وهذه الخطوط المرسومة ليست حدود الشيء الحقيقي فقط، بل قدرتها أيضًا على اقتناص تعبير وأحساسيس هذه الأشياء. أريد المشاهد أن يستدعي واقعه الخاص لا أن يصدق أن ما يشاهده هو واقع فعلي.

بعد غياب 14 عامًا يعود تاكاهاتا لإخراج ما سيصير فيلمه الأخير وتحفته الأجمل. «حكاية الأميرة كاجويا» هي إعادة تشكيل لواحدة من أقدم الحكايات الفلكلورية اليابانية، حيث يعثر قاطع خيزران وزوجته على أميرة ولدت بشكل سحري من نبتة خيزران وتنمو سريعًا بشكل إعجازي. ونلاحظ أنه حتى حين يقارب تاكاهاتا حكاية فانتازية كهذة الحكاية فإنه يسعى لتحقيقها بأقصى واقعية ممكنة.

باستخدام الألوان المائية يشكل تاكاهاتا عالمه وشخصياته بأسلوبيته المميزة وحسه المينمالي وببساطة تحاكي البساطة النثرية للحكاية يخلق تاكاهاتا ما يمكن أن نسميها أنشودته الأخيرة عن المسرات الأرضية وعن جمال العابر. كان على تاكاهاتا أن يمدد الزمن في فيلمه أكثر منه في الحكاية، والتي فيها تكبر الأميرة من طفلة إلى مراهقة في ثلاثة شهور من أجل أن يجعلها تختبر أقصى قدر ممكن من البهجة المتاحة في هذا العالم، متعة الحياة وسط الطبيعة والكائنات وتكوين روابط عاطفية مع الآخرين.

في النهاية تكتشف كاجويا حقيقتها ومن أين أتت لكن هذه البهجة التي اختبرتها كاجويا أثناء إقامتها القصيرة في هذا العالم المليء بالآلام والأحزان تجعلها تفضل الإقامة هنا بدلًا من العودة إلى مملكة القمر المضيئة والخالدة، حيث تنتمي. مثل ملاك يفضل السقوط إلى هذا العالم الأرضي عن الإقامة في سماء النعمة.