لم يكن يظن أحد أن «كيانو ريفز» نجم أفلام الحركة في التسعينيات، والذي بدأ مشوار نجوميته بفيلم «Speed» منذ 25 عامًا، وتوهج بشدة في «The Matrix» منذ 20 عامًا، سيظل نجمًا لأفلام الأكشن في عصرنا هذا، خصوصًا بعد أن خفت نجمه تدريجيًّا طوال العشر السنين الماضية، وبعد أن بلغ من العمر 54 عامًا بالتمام والكمال.

لكن ريفز فاجأ الجميع بسلسلة أفلام أكشن تبدو اليوم أكثر استمرارية حتى من سلسلة «ماتريكس»، وذلك من خلال سلسلة «John Wick» التي يدور مقالنا اليوم عن الجزء الثالث منها، والتي يشارك كيانو ريفز فيها صديقاه، المخرج «تشاد ستهلسكي»، والكاتب «ديريك كلستاد»، اللذان رافقاه لسنين عملا فيها كمؤديين للمخاطرات (Stuntman) في أفلام الأكشن.

تبدو سلسلة «جون ويك»، ومنذ بدايتها في عام 2014، وفية تمامًا لأكشن الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وهو الأكشن القائم على مهارة بطل لا يملك أى قوى خارقة، سوى التزامه وتفانيه وشجاعته، بطل يمكن إلحاق الأذي به ويمكن قتله بسهولة أيضًا، وهو في النهاية أكشن قائم على خطط وحبكات متداخلة، وتتابعات من مشاهد القتال بالأيدي والأسلحة النارية.

لكن رجال المخاطرات القائمين على صنع سلسلة «جون ويك» قد أضافوا لكل هذا خلطتهم الخاصة، وهي الخلطة التي لا نبالغ إن قلنا إنها غيرت شكل الأكشن في هوليوود منذ إطلاق هذا الفليم وحتى الآن.

في الجزء الثالث من جون ويك والمعنون «Parabellum» أو «الحرب تبدأ»، يعتمد صناع ويك على تتابعات متصلة من القتال، عنف مستمر لمدة 120 دقيقة من فيلم زمنه 130 دقيقة، لدرجة تبدو معها أي حبكة غير مهمة مقارنةً بهذا الإبهار الحركي.

هل فقدت سلسلة ويك بهذا النهج صلتها بالحبكة الرئيسية التي بدأت بانتقام البطل في الجزء الأول؟ أم أن هذا العنف المستمر يحمل في طياته فلسفة تبدو أهم من أي حبكة؟ هذا ما نتتبعه معكم اليوم.


التنفيس والعنف المستمر

العنف في سلسلة جون ويك يبدأ منذ الجزء الأول. بطلنا الذي نتعرف عليه كقاتل محترف متقاعد يعيش الآن وحيدًا بعد وفاة زوجته، يعتدي عليه وعن جهل مجموعة من توافه المجرمين، ومنذ ذلك الحين وويك في محاولة للانتقام من كل شيء. يتخلل ذلك تورطه في مهام قتل جديدة للهرب مما تورط فيه في رحلة الانتقام.

من هنا يأتي التنفيس أو كما يسميه أرسطو «التطهير» لدى الجمهور، حيث يشاهدون بطلهم وهو يعاني في مأساة مستمرة، يفرض فيها المعاناة أيضًا على خصومه، لينتفي معنى القتل بتكراره، ويصبح متعة بصرية.

وهكذا يأتي دور المخرج تشاد ستهلسكي، الذي صنع بصمته المميزة منذ الجزء الأول من خلال اعتماده على تتابعات طويلة من مشاهد القتال، يتم تصويرها في كادرات بعيدة وواسعة، لا نرى قطعات مونتاجية كثيرة في أفلام ويك، وذلك على خلاف ما اعتدنا عليه في أفلام الأكشن، يتيح لنا ستهلسكي مشاهدة القتال بكل تفاصيله، أجوائه، ما يمثله المكان، كيف يتحرك الجميع، وبالتاكيد كيف يتلقى بطلنا الضربات وكيف يوجهها، ولا يكتمل هذا بالتأكيد إلا ببطل قادر على أداء معظم هذه التتابعات بنفسه، وهذا بالتحديد ما يصنع قيمة تواجد كيانو ريفز على رأس هذا العمل.

في هذا الجزء بالتحديد يبدو ستهلسكي وكأنه في منافسة مستمرة مع نفسه، فبعد أن أبهر الجميع بمشاهد القتال بالأسلحة النارية المستوحاة من أكشن هونج كونج في التسعينيات، أو ما يسمى «جن فو»، يرفع ستهلسكي الرهان هنا من خلال ثلاثة تتابعات مميزة للغاية، يعتمد أولها على القتال بالسكاكين، والثاني على مطاردة دراجات نارية وفرس، والثالث على مطاردة يقوم ببطولتها مجموعة من كلاب الصيد.

هكذا يجمع صناع جون ويك بين شعور التنفيس والمتعة البصرية، وهكذا يصبح العنف المستمر هو نقطة القوة الأهم جماهيريًّا بالنسبة لمحبي السلسلة.

لكن ماذا عن الحبكة؟


عالم الكونتينينتال والعنف ما بعد الحداثي

في بداية سلسلة جون ويك نتعرف على عالم فنادق الكونتينينتال، عالم توفر فيه هذه الفنادق ملاذًا آمنًا للقتلة المحترفين، يوجد فيها كل ما يحتاجونه من غرف لشراء الأسلحة، مصممو بذلات خاصة مضادة للرصاص، مقدمو خدمات علاجية للمصابين، بالإضافة لإقامة مريحة وفارهة، وفي قلب هذا العالم بالطبع مجموعة من القتلة القدامى الذين يحظون بتقدير واحترام الجميع.

ينتهى الجزء الثاني من السلسلة بكسر جون ويك للكود الوحيد الذي يجب عدم كسره في هذا العالم، وهو قتل أحد رواد فندق الكونتيننتال داخل جدرانه، وهو ما فعله ويك وبالتحديد في فندق الكونيننتال بمدينة نيويورك.

يبدأ ويك الجزء الثالث وهو هارب، هارب من جميع المنتمين لهذا العالم، والذي ندرك في المشهد الأخير من الجزء الثاني أنهم في كل مكان في مدينة نيويورك، سائقو تاكسي، هائمون في الشوارع، بائعو سوشي، في كل مكان حرفيًّا.

هذا العالم الذي شاهدنا يُبنى لبنة لبنة هو ما يعطي لسلسلة جون ويك فرادتها، وهو ما صنع الحبكة التي رسم على هوامشها صناع السلسلة تتابعات القتال التي تحدثنا عنها من قبل، لكن هذا العالم يوشك على الانهيار في هذا الجزء.

فبينما تعرفنا على العالم في الجزء الأول الذي تم بناؤه بدقة على خلفية انتقام ويك من قاتل جروه وسارق سيارته، وتعرفنا أكثر على عالم الكونتينينتال في الجزء الثاني الذي كسر فيه ويك كود القتل على أرض المؤسسة، فوجئنا في الجزء الثالث بهرب مفاجئ لجون ويك من أرض نيويورك إلى شمال إفريقيا، ومنها إلى الصحراء ثم عودة على عجل إلى نيويورك، حيث يختتم الجزء بتحرك يبدو غير منطقى، تحرك يترك حبكتنا في جزئنا الرابع وهي تترنح.

على الرغم من هذا فإن الفصل الثالث من هذا الجزء الثالث يبدو مرضيًا على مستوى الأكشن، يظل جون ويك في تتابعات متداخلة يستقبل من خلال كل أنوع الضربات، بالأيادي والأرجل، طعنات، رصاصات متطايرة بين الحين والآخر، يبدو الرجل وكأنه يسقط من فوق جبل، وفي كل متر يقذفه سكان الجبل بما يتيسر لهم من أسلحة، تبدو بداية الحرب قاسية تمامًا على ويك، بحيث نرى كيانو ريفز وهو غارق في الوحل والدماء أغلب مدة الفيلم، ليبقى التساؤل، ماذا تبقى من أفكار في جعبة صناع هذه السلسلة، وكيف ستنتهى هذه الحرب التي بدأت؟

والأهم هل يعتني صناع جون ويك بالحبكة؟ أم أن العنف هنا للتنفيس والتطهير وفقط؟ عنف ما بعد حداثي لا قيمة فيه لعدد القتلى أو مغزى قتلهم، اللهم إلا إمتاع الجماهير، والتنفيس عن غضبهم، وفي بعض الأحيان إضحاكهم، وهو ما يحدث بالتحديد في هذا الجزء الثالث، حيث يستمر القتال لدرجة يصبح معها غرائبيًّا ومضحكًا، ليس لسذاجته ولكن لإدراكنا أننا نشاهد ما يشبه الرقصة، رقصة يمكنها أن تنتهي مبكرًا لكن راقصيها مصرون على إكمالها.

يذكرنا هذا بشدة بأحد مشاهد فيلم ديفيد فينشر الشهير «نادي القتال Fight Club»، حيث يكيل إدوارد نورتون اللكمات لنفسه أمام مديره، هذا قتال منتهٍ قبل أن يبدأ، ولهذا ومع استمراره رغم غرابته يضحك الجمهور بدلًا من أن يشعر بالأسى تعاطفًا مع البطل، يصبح الأذى الجسدي بلا معنى، ويبقى فقط متعة التسبب فيه بأكثر الطرق إبداعًا، هذا بالتحديد ما نراه هنا في جون ويك.