ظاهرةٌ عجيبةٌ حدثت يومَي 9 و 10 يونيو من العام 1967م. كان عبد الناصر قد أنجز للبلاد لتوّه هزيمة عسكرية وسياسية وخسارة جغرافية واسعة، ناهيك عن سنوات طوال من الاستبداد السياسي والحكم الحديدي والتأزم الاقتصادي، وفي الوقت ذاته أنهى خطابه للتنحّي. ومع ذلك، خرجت الجماهير إلى الشارع ترفض «تنحّي عبد الناصر»، وتطالبه بالعودة إلى موقعه كرئيس للبلاد، دون أدنى تفكيرٍ في مجرّد التساؤل عن المسئولين عن تلك الهزيمة، ناهيك عن محاسبتهم.

ما الذي أوصل الجماهير المصرية حينها إلى هذه الحالة؟ في كتابه (الزحف المقدّس.. مظاهرات التنحّي وتشكّل عبارة ناصر)، يحاول شريف يونس، عبر ممارسة تحليلية حفرية تفكيكية دءوبة، أن يجيب على هذا السؤال، متتبعًا دور عبد الناصر وممارسات المؤسسة العسكرية وأذرعها السياسية والأمنية، في «صناعة» مجتمع تصير فيه تلك الاستجابة المذكورة استجابةً طبيعية لا غبار عليها، بعدما تشكّلت صورة الزعيم الأب القائد المعلّم، القائم على رأس نظام يوليو.

عبْر «يونس»، سنرجع فقط إلى البدايات، لنرى أيهما غرَس الاستباد وكرّسه.. يوليو أم عبد الناصر؟

أقول لكم بصراحة: إنّ الشعبَ كان هو المسئول الأول عن الجرائم وعن الآثام التي اقتُرفت في الماضي.
الرئيس جمال عبد الناصر – 1953م

الطريق إلى 23 يوليو

ولّدت ثورة 1919م أفقًا سياسيًا ارتبطت فيه المسألة الوطنية بالمسألة الديموقراطية، خاصةً بعد إقرار دستور 1923م، وهو الوضع الذي وفّر لحزب الوفد الثقة الشعبية في إجراء محادثات لإنهاء الاحتلال البريطاني، أو على الأقل: تقليص سلطته، الأمر الذي أعطى للوفد فرصة الوصول إلى السُلطة والاستمرار فيها وتكريس «طغيان الأغلبية».

بدا نظام دستور 1923م بقيادة حزب الوفد، يتآكل مع ضعف قدرته على الصمود أمام محاولات تحطيمه، ومع ارتباط الأحزاب الأخرى بالسراي الملكية

على هامش حزب الوفد، نشأت تيارات وأحزاب، منها أحزاب الأقلية (هدفها حماية الأرستقراطية الزراعية ومصالح رجال الأعمال)، ومنها أحزاب تعبوية نشأ أغلبها في الثلاثينات، على رأسها: الإخوان المسلمون، ومصر الفتاة، ثم الحزب الوطني الجديد المنشقّ عن مصر الفتاة، ثم حدتو، وطليعة العمال، وأخيرًا الراية (الحزب الشيوعي المصري)، وارتبطت معظم هذه الأحزاب بالسراي الملكية، وارتبط بعضها الآخر بالإنجليز، أو بكليهما معًا.. ومع تواهُن قدرة الوفد على الصمود أمام المحاولات المستمرة لتحطيمه، بدأ النظام القائم في التآكل.

وبحسب التتبّع الدقيق ليونس، فـ«بينما كان نظام دستور 1923م يترنّح تحت وطأة العجز السياسي الشامل الذي تبدّى في «حريق القاهرة»، أيًا كانت القوى التي صنعته، تصاعدت الدعوة في «أخبار اليوم» بالذات، الوثيقة الصلة بالسراي وأحزاب الأقلية، تناشد بحرارة ظهور «المستبدّ العادل»، ليُخرج البلاد من الأزمة. وحتى إحسان عبد القدوس كتب في «روز اليوسف» ذات التوجه الليبرالي عن الحاجة إلى «رجل قوي»، وتساءل: هل هو «علي ماهر»؟! وكانت جماعة الإخوان قد فقدت «مستبدّها العادل» حسن البنا، بينما ألصقت تهمة حرق القاهرة بزعيم منظمة «مصر الفتاة» – واسمها آنذاك الحزب الاشتراكي-، وبقي معبود تنظيم «الراية» الشيوعي، الملقّب بـ«خالد العظيم» – فؤاد مرسي- أسير الحياة السياسية السريّة وحدها. أما الملك نفسه فقد انتهت سمعته السياسية، فلم يبقَ له سوى استبداد عاجز، بغير سمعة «العدل» أو «الوطنية». فكانت صيحة المستبدّ العادل أملاً ضالاً للاتجاهات الاستبدادية يبحث عن تجسيدٍ حيٍ».

هنا، كان الوضع العام، يحمل في أعماقه بذور الحاجة إلى تنصيب مستبدٍ عادل جديد، وهو ما كان لابدّ أن يظهر في سياق الأعوام التالية واضحًا مكتملاً.


«ناصر» والشعب: الحبّ بالإكراه

في البدء، لم يكن عبد الناصر محبوبًا، وكانت علاقته المباشرة بالجماهير علاقة عصبية حادّة ومتوترة. ورغم أنه لا توجد استطلاعات رأي لمعرفة مدى شعبية عبد الناصر على أساس إحصائي، إلا أنه – وبحسب شريف يونس – فإن شواهد كثيرة تؤكّد ذلك. كيف السبيل إلى جعل الناس يجبّون عبد الناصر إذًا؟

منذ اللحظة الأولى، لثورة يوليو 1952م، سيطر الضباط سيطرة كاملة على الإذاعة، ثمّ اتخذت سيطرتهم على الصحافة أشكالاً متغيّرة. وبحسب يونس: «كانت الرقابة أول هذه الأشكال، لكنها كانت رقابة مركّبة.. فبالإضافة إلى الوظيفة التقليدية، وهي منع نشر أخبار ومقالات معيّنة، كانت الرقابة تفرض أيضًا نشر ما يريده الضباط، كما كانت ترسل نسخة من المواد المحذوفة لوزارة الداخلية [وزارة عبد الناصر]، الأمر الذي كان مصدر إرهاب للصحفيين، خاصة في ظل تعطيل القوانين بموجب الأحكام العرفية وتحرّر سلطة الضباط في الاعتقال وإنشاء المحاكم استثنائية بلا أي حساب لحقوق أو حرّيات. كان عام 1954م حاسمًا في تقرير مصير الصحافة؛ فقد طوردت الصحف والمجلات المختلفة حتى تمّ إغلاقها بالعشرات في ذلك العام، ولم يبق من الصحف اليومية سوى «الأخبار» الموالية، و«الأهرام» المحافظة، و«الجمهورية» المملوكة للضباط أنفسهم، وحفنة من المجلات الأسبوعية الموالية أو التي أجبرت على الولاء».

لم تتوقف المسألة عند السيطرة على الصحف والمجلات وتكريس نمط واضح لصورة الرئيس غير المحبوب، الذي ينبغي أن يكون محبوبًا؛ وإنما صارت صوره تملأ الشوارع، وتصدّر اسمه أقواس النصر وسرادقات الاحتفالات، كما يتصدّر نشرات الأخبار في الإذاعة والتلفزيون والجريدة السينمائية. وبدأ الترويج لـ«الحب» باعتباره علاقة أساسية بين الشعب والرئيس، للدرجة التي جعلت أنور السادات يطالب الجماهير في مؤتمر شعبي بـ«أن تحبوه أكثر. فهو في حاجة إلى حبّنا كما قلت لكم. لأنه بالحبّ تتجدّد طاقته كل يوم. ونحن نريده متجدّدًا صلبًا قويًا دائمًا من أجلنا». وكتب إحسان عبد القدوس أن شخصيته «شخصية البطل» أوسع من أن تكون شخصية ثائر أو قائد، فقد «استطاعت أن تستوعب كلّ الناس.. وتعطي من نفسها لكل الناس.. أصبحنا كلنا نعيش في جمال عبد الناصر.. إنه حب.. حب كبير».

أيضًا، كان لابدّ من فصل أدوات الإنتاج الأيديولوجي عن المجتمع وإخضاعها للسلطة التنفيذية المركزية، وهو ما استدعي – حسبما يرصد يونس- انتقال عناصر الممارسة ذاتها التي تمّت مع الصحف والمجلات، إلى مجالات الفن والأدب والإعلام، والمجالات الثقافية عمومًا، بما في ذلك المدارس والجامعات. تمثّلت مراحل هذه الممارسة في: «أولاً «تطهيرها» من كل العناصر المشكوك في ولائها، ومن قبل ذلك طرد حوالي 60 أستاذًا من الجامعات عام 1954م. وثانيًا: السيطرة على مؤسسات الإنتاج الإيديولوجي القائمة، بتأميمها أو بإخضاعها إدرايًا، مثل الجامعات التي فقدت استقلالها آنذاك. فضلاً عن إقامة مؤسسات جديدة، تنشأ في تبعية مباشرة للضباط منذ البداية، وعلى رأسها «وزارة الإرشاد القومي» [توازي الإعلام والثقافة حاليًا]. وثالثًا: استخدام هذه السلطة الإدارية في توجيه هذه المؤسسات لتكون في خدمة الخط الدعائي «للثورة»، وكذلك المساهمة في بناء أيديولوجيتها. وقد تمّ كل ذلك باستعمال أموال الدولة وقمعها لتخيير الفنان بين التقاعد وبين تكييف نشاطه وفقا للمقياش المفروض. والاستكمال المنطقي لذلك هو أن الجمهور بدوره حين تكون الوجبة المقدّمة إجبارية، كما في السجون، سوف يُقنِع نفسه بعد فترة بأنها لذيذة.

الغريب أن العديد من كتّاب تلك الفترة البارزين، قد أيّدوا هذا الاتجاه، وعلى رأسهم سامي داوود وعلي الراعي ونجيب سرور وصلاح عيسى، كما مهّد له سعد كامل في أخبار اليوم.


«الزحف المقدّس»: فلتعبدوا «ناصر»

توسّع نطاق الترويج لـ«الحب» باعتباره علاقة أساسية بين الشعب والرئيس، بالتزامن مع فصل أدوات الإنتاج الأيديولوجي عن المجتمع وإخضاعها للسلطة التنفيذية المركزية بصورة قمعية

هل كان عبد الناصر ذكيًا مفرط الذكاء؟ لا مفرّ من أن تكون الإجابة على هذا السؤال مركّبةً بعضَ الشيء. ففي الوقت الذي اقتصر ذكاء عبد الناصر على مهارات إدارة صراعات داخل مجموعة ضيقة من الحكام، لا مهارات إدارة صراع سياسي مفتوح… إلا أنه لم يكن بإمكانه أن يستمر «زعيمًا» للبلاد دون إحكام عملية «إغلاق المجال السياسي» برمّتها، أيًا كانت الشعارات التي تستدعي ذلك. الأمر الذي كان ضمانة لبقاء الضباط في السُلطة بشكل عام أيضًا. وهذه المهارة التي كانت لدى عبد الناصر، هي ما جعلته يتمثّل بعمق «الإيديولوجيا الوطنية الاستبدادية»، فكان أكثر عناصر الضباط الأحرار إدراكًا لمغزى الانقلاب العسكري على النحو الذي جرى به، وما يفضي إليه من نظام سياسي. وكان بهذا كله الممثّل الأهمّ للنظام الجديد، وقائده الأنسب.

الزحف المقدس هو أن يصبح السكان «حشودًا» موحّدة الوجهة والهدف، تسير خلف طليعة مُسلَّم بطليعيتها، متقبلة للوصاية عليها

وهذه الضمانة التي كان لابدّ منها لبقاء الضباط في السُلطة، هي ما كانت تعبّر عنه أيديولوجيا «الزحف المقدّس» وتكرّسه. لذا، عمل الضباط من خلال التحكّم في وسائل الإنتاج الإيديولوجي على أن يعيدوا تشكيل الشعب في «زحف مقدّس»، عبر مشروع لـ«غسيل المخ الجماعي»، تحت شعارات شعبوية جوهرها فكرة العزّة والكرامة، وتتراوح بين الاشتراكية الديمقراطية التعاونية، والحرية والاشتراكية والوحدة بعد الميثاق.

أواخر 1953م، كان أول ظهور لشعار «الزحف المقدّس»، في مقالات «فلسفة الثورة». وهو شعار يضع مثلا أعلى مؤدّاه: (أن يصبح السكان «حشودًا» موحّدة الوجهة والهدف، تسير خلف طليعة مُسلَّم بطليعيتها، متقبلة للوصاية). مجسّدًا فكرة حاجة الشعب إلى الوصاية، حيث لا يتمّ التعبير «السليم» عن سلطة الشعب، او تحقيق مصالحه، إلا من خلال حكم زمرة من الضباط. هنا لابدّ أن يكون هذا الشعب «عاجزًا» عن ممارسة سلطته، وأن يكون به «قصورٌ» أو «نقصٌ» ما، يجعله غير مؤهّل، وبالتالي يحتاج إلى وصاية الضباط، ولابدّ من يصير الشعبُ كذلك، إن لم يكن كذلك بالفعل.

وهكذا، ومع تمثيل «الزحف المقدّس» لأيديولوجيا الاستبداد، كان لابدّ من حضور صورة «البطل»، كبديل لـ«المستبد»، الذي يمثّل وعدًا بالعدل والمساواة والتحرّر والكرامة. وكما يتتبّع يونس، فمن خلال أجهزة الدعاية بالغة الجبروت، أمكن الدمج بين الجانبين في الوعي العام؛ بجيث أصبحت الوطنية لا تنفكّ عن النظام الاستبدادي. كان الشعب المرغوب فيه شعبًا مفتتًا إلى عناصره الأولى يسير أفراده ومؤسساته الواقعة تحت هيمنة الضباط المطلقة وراءهم كرجل واحد، تمامًا كما في الاستعراضات العسكرية.

أخيرًا، ومع تشكّل صورة عبد الناصر كشبيه إله، وأبٍ لكلّ المصريين، ومع الأيديولوجيات المتراكمة التي تبنّاها «ناصر» وغرسها في وجدان المصريين، عبر نظرية مؤامرة كونية استعمارية تقصد القومية العربية ورمزها الأكبر، كان من الطبيعي أن نصل في النهاية إلى التورّط في تصعيدٍ دبلوماسي وسياسيٍ أدّى إلى حرب يونيو، التي انتهت في عدة أيام بهزيمة ساحقة للجيش المصري وتحطيمه تمامًا، وخسارة سيناء وغزة والضفة الغربية والقدس والجولان.

وماذا كان الفعل السياسي للشعب المقهور «العاجز» من طول الاستبداد، الموصوم بالقصور والنقص؟ خرج عبد الناصر بخطاب التنحّي، فردّت عليه الجماهير التائهة الهائمة لا تدري ماذا تفعل، اللهم إلا أن تطالبه بأن يعود إلى كرسيّه، وألا يتركها وحدها تواجه المصير المجهول!