لعمري إن هذا الكتاب لجليل القدر شائع الذكر، جم الفوائد، عظيم العلم، جامع بين الجد البحت والهزل النحت.
«ياقوت الحموي» متحدثًا عن «الأغاني»

في أحد الأيام وقعت مناظرة بين أمير الشام سيف الدولة الحمداني وأمير العراق عضد الدولة البويهي عن أي مُلك الاثنين أعظم، تفاخر الأول بالغوطة ونهر الأردن وخصب أرض بلاده المستمر، فقرر الأخير أن ينتزع نصرًا قاضيًا بثلاثية لا ردَّ لها، فتباهى بمكارم أرض بلاده من ضخامة المباني ولطافة الهوى والمعاني.. وزاد عليهما ثالثًا صاعقًا: تأليف أبي الفرج لكتاب الأغاني[1]، فبُهت الحمداني وعجز عن مجاراته وأقرَّ بهزيمته.

بينما كانت الدولة العباسية تعيش عصرها الثاني، كانت كفَّة مجدها آخذة في النزول، وبدأ بنيان الخلافة بالتصدع إلى عدة دويلات أشهرها الدولة الحمدانية في حلب، والدولة البويهية الشيعية التي سيطرت على بغداد، وبلغ تحكم أقطابها بمنصب الخليفة أن جعلوه شرفيًّا بلا صلاحيات أو سُلطات، وفي العام (334هـ/897م) كان تمكن الأمير «أحمد بن بويه» فناخسروا (303- 356هـ/915-967م) من بغداد كاملًا، لدرجة أنه كان مَن يعيِّن الوزراء بدلًا من الخليفة المستكفي الذي اقتصر دوره على الموافقة، اتخذ البويهي من الحسن بن محمد المهلبي وزيرًا له، وعُرف عن الأخير ولعه بمجال اللهو والطرب، لذا لم يكن غريبًا أن يتخذ شاعرًا اشتُهر بانغماسه في الملذات مثل أبي الفرج نديمًا له، ويُروى عنه أنه لما ولدت للوزير سرية رومية طفلًا قرض له قصيدة مطلعها (أسعد بمولود أتاك مباركًا كالبدر أشرق جناح ليل مقمر/ سعد لوقتٍ سعادة جاءت به أم حصان من بنات الأصفر)، وظلت علاقتهما وطيدة، ولم يفرق بينهما إلا الموت[2].

من المثير للدهشة، وخلافًا لبقية أدباء عصره المشاهير فإننا لا نعلم الكثير عن حياة أبي الفرج، ولا نكاد نجد له أخبارًا عن حياته قبل تأليف «الأغاني» إلا سطورًا معدودات، يُمكن تلخيصها في أن اسمه هو علي بن الحسين بن محمد، ينتهي نسبه إلى جده مروان بن محمد، المعروف بمروان الحمار، وهو آخر خلفاء بني أمية.

وُلد سنة 284هـ/897م [3]، واختلف المؤرخون حول ما إذا كان قد وُلد في أصبهان (أصفهان)، أم في سامراء موطن أسرة أبيه الذين قرروا النزوح به وهو طفل إلى تلك المدينة الفارسية سترًا لأمويتهم، وخوفًا من بطش العباسيين، لا تمنحنا كتب التاريخ إجابة يقينية، إلا أننا نعلم أن مقام الأصبهاني في المنفى الفارسي لم يطل كثيرًا، فلقد قررت أسرته لسبب مجهول العودة مجددًا إلى العراق، يمكننا تخمينه في أنه بعد هذه السنوات من الحكم العباسي لم يعد يعبأ أحفاد عم الرسول بمطاردة، وباتوا بنظرهم قوة لا يعتد بها ولا تشكل خطرًا فعليًّا على سُلطتهم، كما أن حالة من الوهن العام أصابت أركان الدولة، وشجعت بزوغ نزعات انفصالية شرذمت وحدتها، ونتيجة لهذا أو لذاك أمِن أهل أبي فرج الأمويون على عودتهم.

شبَّ الأصبهاني بالكوفة في بيت يتذوق أهله الأدب ويجعلونه في أحاديثهم، فتحدث أبوه بالشعر كما عنيت عمته بالغناء، وأصبح تلميذًا لكبار شيوخها، قبل أن ينتقل إلى بغداد ويقضي أغلب عُمره في دار على نهر دجلة، وسعى أبو الفرج لتشرُّب الميراث الإنساني والحضاري الضخم الذي كانت تُنتجه «عاصمة الدنيا» حينها [4]. تلقى العلم على يد ابن دريد وابن الأنباري والأخفش الأصغر ونفطويه والطبري وغيرهم. بزغ استعداده للحفظ وقدرته على جمع العلم، فاتصل باللغويين والمحدثين والكتاب والشعراء والأخباريين، وبدأت قدراته العلمية تتبلور فتجلَّى بينهم غزير الأدب، عالي الرواية، حسن الدراية، عالمًا بأيام الناس والأنساب والسيرة، بارعًا في علوم اللغة والدين والنوادر، مُلمًّا بشيءٍ من علوم الطب والنجوم والأشربة والموسيقى.

كتب العديد من المصنفات أحصاها ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» فبلغت 36 كتابًا، بعضها ألَّفها سِرًّا لأقاربه بني أمية ملوك الأندلس، وأشهرها بلا شك موسوعته الفريدة «الأغاني».

كتاب الأغاني — «أبي الفرج الأصفهاني»

عصر الأغاني

لا يعدل في ذلك كتاب فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنَّى له بها.
«ابن خلدون» متحدثًا عن «الأغاني»

في العصر العباسي، أصبح الاهتمام بالغناء والمغنين اتجاهًا عامًّا لنخبة المثقفين، فكثيرون من الذين تعلموا الغناء وأثاروا حول مذاهبه الجدل كانوا من الخلفاء والأمراء والولاة، وكثرت في عهدهم محاولات وضع كتاب جامع لأغاني هذا العصر وما سبقه، مثل كتاب حبيش بن موسى «الأغاني»، وأتى مرتبًا على حروف المعجم، ويونس بن سليمان صاحب كتاب «النغم»، وأيضًا جحظة البرمكي صاحب كتاب «الترنم»[5].

يقول ابن خلدون إن الاهتمام الثقافي المتزايد بالغناء، حينها، ربما كان أحد أسبابه ارتباط الغناء بالأدب والشعر، خاصة أن «الغناء كان في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر، إذ الغناء إنما هو تلحينه، وكان الكتَّاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصًا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه»[6].

إذن أصبحت مسألة التثقيف في الغناء واقعًا اجتماعيًّا له مبرراته ودوافعه في الثقافة العباسية، وهو أمر يعكس حاجة المجتمع إلى هذا النوع من التأليف، الذي بقي في حيز الاجتهادات إلى أن أتى ابن أصفهان وألقى كلمته التي أعجزت كلَّ من بعده عن الزيادة عليها.


50 عامًا في جمع مادة الكتاب

المستشرق الألماني «كارل بروكلمان» متحدثًا عن «الأغاني»

بعدما تقدمت السن بالرجل قرر العكوف على تدوين ما وعاه رأسه من العلوم في كتاب جامع، يردُّ على ما شاع في عصر المؤلف من آثار منحولة مفتعلة تُنسب إلى مشاهير أصحاب الصناعة الفنية في الغناء أو غيره من الفنون، وحاول خلال كتابه أن يردَّ على الشك، ويشير إلى المغالطة، ويضع يد قارئه على المنحول من الأخبار، وينبه على المستحيل منها، ومن خلال نصوصه نتمكن من أن نتنسم طبيعة الحضارة الإسلامية وعادات أهلها وملابسهم وتقاليدهم وحياتهم، التي كانوا يحيونها، مما يجعل كتاب الأغاني خزانة للحضارة الإسلامية في جميع أطوارها.

يحكي في كتابه أن من بعثه على تأليف مرجعه كان «رئيسًا من رؤسائنا» كلَّفه بجمعه دون أن يُحدد اسمه، أغلب الظن أنه صديقه الوزير المهلبي، إلا أن هناك رأيًا آخر يستند لمروية أوردها ياقوت الحموي في «وفيات الأعيان» تشي بوجود علاقة غامضة بينه وبين عدو دولته الأول سيف الدولة الحمداني، جعلته يهدي إليه أول نسخة وضعها من الكتاب مقابل جائزة قدرها ألف دينار، ما دفع البعض للاستنتاج أن سيف الدولة هو «الرئيس» الذي وُضع له الأغاني.

اتبع في وضعه منهجًا عجيبًا، فطوال 50 عامًا جمع من الأغاني العربية قديمها وحديثها ما أمكنه، ونسب كل ما ذكره إلى قائل شعره وصانع لحنه، ثم توسع في ترجمة هذا الشاعر أو المُغني، وبحث في الأحوال التي قيلت فيها الأبيات من حربٍ أو مجلس لهو في الجاهلية أو الإسلام، وبعد ذلك يأخذ في تفسير الشعر ويتعرض للمسائل النحوية من هذا الشعر، وكذلك فإنه روى قصص حياة وأنساب بعض الخلفاء [7].

تبنى «الأغاني» نظرية المدرسة البغدادية التي تنظر إلى الشعر على أساس القيمة الذاتية للشاعر بوصفه فنانًا بغض النظر عن حياته الشخصية وأصالته [8]، فاهتمَّ بموسيقى الشعر بشكلٍ خاص، وجاءت إشاراته إلى موازين الشعر صريحة، وقدَّمها على غيرها من عناصر الشروح وليست القصائد، فكان يوضح عَروض النص ثم يندرج في بيان [9].

عناصر الشرح فيما بعد، وبالرغم من أن كتابه لا يُعنى أساسًا بشرح الشعر، فإنه لم يترك بيتًا استشهد به دون أن يقف عند غريبة وغامضه، بهدف تيسير فهمه وتقديمه للقارئ واضحًا في مرماه وقصده.

أخلص أبو الفرج للمذهب الجاحظي في ضرورة إذهاب الملل عن القارئ، فهو ينحو إلى الترويح عن العقول المكدودة والقلوب المحزونة بطريف القصص والأخبار، فالمُصنف وإن كان هدفه الأول هو الأصوات المغناة، فإنه حوى على أشياء أخرى حتى أصبح من أضخم الكتب المؤلفة في الأدب العربي (20 جزءًا وفقًا للنسخة الأولى المطبوعة منه في مطبعة بولاق 1868م، و24 جزءًا وفقًا لإصدار الهيئة المصرية للتأليف والنشر 1974م)، فضمَّ مجموعة ضخمة من أخبار التاريخ العربي قبل الإسلام وبعده، وذكر الوقائع الأولى والحروب الدامية في العصر الأموي والنزاع السياسي حول السلطة والاغتيالات السياسية ومآليها، كما روى جانبًا كبيرًا من أخبار الأدب والنقد والشعراء وعلاقتهم بالمجتمع والسلطة، وكان نصيب الأدب العباسي حصة الأسد من ذلك، حتى أن المستشرق الألماني الشهير كارل بروكلمان اعتبره مصدره الأول في معرفة أخبار العرب خلال هذه الحقبة.


رونق يروق الناظر ويلهي السامع

إنه لا يُعتبر أهم مرجع للتاريخ الأدبي إلى القرن الهجري الثالث فحسب، بل يُعتبر أيضًا أهم مقدر لتاريخ الحضارة.
ما رتبناه أحلى وأحسن ليكون القارئ بانتقاله من خبر إلى خبر ومن قصة إلى سواها ومن أخبار قديمة إلى مُحدثة، ومليك إلى سوقه، وجد إلى هزل أنشط لقراءاته وأشهى لتصفح فنونه، ولا سيما الذي ضمَّنها إياه أحسن جنه وصفو ما أُلف في بابه ولباب ما جمع في معناه.
«أبو الفرج الأصفهاني» متحدثًا عن كتابه

مصادر أبو الفرج لصياغة عمله كانت متعددة، منها ما سمعه شفاهة من عامة المثقفين أو ندوات الأدب أو رواه له شيوخه، أو قرأها في كتاب ونقل منه مباشرة، واستفاد من رواة الأخبار ومصادر التاريخ والسير وأيام العرب وتاريخ الغزوات والحروب والمعارك، وأيضًا كتب الأدب والغناء وتاريخ الموسيقى والفنانين، في الأعم الأشمل كان لا يذكر اسم الكتاب، ولكنه لا يهمل اسم المؤلف لأهمية ذلك في الثقة بالخبر [10].

كما ألزم ابن الحسين نفسه بمنهج نقدي محدد إزاء المادة التي يقدمها للقارئ، تقوم على الاهتمام بالإسناد، ويلتزم بالتمحيص والمقارنات والتحليل، يقول: «ليس لكل الأغاني خبر نعرفه، ولا في كل ما له خبر فائدة، ولا لكل ما فيه بعض الفائدة رونق يروق الناظر ويلهي السامع»، لذا عمد إلى عملية فلترة استخدم فيها الاستنتاج التاريخي وغيره من الأساليب في استقراء النصوص، فكثيرًا ما يورد الروايات مسندة، ثم قد لا يقتنع بالإسناد وحده فيناقش مروياتها ويحللها وينتقد الراوي ولا يقبل مقالته إن صح سنده، أما تبويبه له فكان فريدًا من نوعه؛ لم يُصنِّفه أبوابًا على طرائق الغناء ولا على طبقات المغنين في أزمانهم ومراتبهم، وإنما اعتمد على دائرية التصنيف حيث ألحق آخره بأوله، وهذه الدائرية أخرجت الكتاب عن منهجية الكتاب التاريخية أو التراجم، وجعلته أشبه بحديثة مفتوحة الأبواب لا ترتبط بترتيب محدد [11].

المراجع
  1. محمد بنشريفة، إدراك الأماني من كتاب الأغاني، مجلة كلية الآداب، جامعة القاضي عياط.
  2. عفاف مزعل سليمان أبو الشعر، كتاب الأغاني: أصوله ومنهج صاحبه وخصائصه وأثره، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القديس يوسف في لبنان.
  3. داود سلوم، كتاب الاغاني: مصادره وأسانيده، كلية الآداب، جامعة بغداد.
  4. أحمد يسري العزباوي، لمحات نقدية من كتاب الأغاني.
  5. مستورة بالله حسين، القصة من خلال كتاب الأغاني: دراسة تحليلية نقدية، كلية اللغة العربية، جامعة أم درمان الإسلامية.
  6. نفس المصدر السابق.
  7. لطفي ملحس، كتاب الأغاني ومؤلفه الأصفهاني.
  8. مرجع سبق ذكره
  9. كريم علكم الكعبي، منهج أبي الفرج الأصفهاني في شرح النص في كتاب الأغاني، كلية التربية الأساسية، جامعة ميسان.
  10. مرجع سبق ذكره.
  11. مرجع سبق ذكره.