محتوى مترجم
المصدر
مجلة العلوم
التاريخ
2002/12/06
الكاتب
كيث ديفلين

في عام 1931، قام عالم رياضيات نمساوي شاب بنشر ورقة بحثية أحدثت صدمة ترددت أصداؤها في أنحاء مجتمع الرياضيين وأجبرهم على إعادة النظر في علمهم. ذلك العالم الرياضي هو كورت جودل، وأصبحت النتيجة التي أثبتها معروفة باسم «مبرهنة عدم الاكتمال لجودل»، أو ببساطة «مبرهنة جودل» – رغم أنها لم تكن بأي شكل المبرهنة الكبرى الوحيدة له خلال مسيرته العلمية الناجحة للغاية. كما أنه أحد مبتكري نظرية «الاستدعاء الذاتي» (التي شكلت جزءًا من أساسات اختراع الحواسب).


جودل

ولد جودل يوم 28 إبريل عام 1906، فيما عرف آنذاك ببرون في النمسا، التي أصبحت الآن برنو بجمهورية التشيك. ووفق جميع الروايات، كان جودل تلميذًا متفوقًا في المدرسة الثانوية وطالبًا لامعًا بجامعة فيينا، حيث تابع دراسته ليحصل على درجة الدكتوراه عام 1929. وقد حصل مباشرة على منصب تدريسي بجامعة فيينا، وهناك أثبت مبرهنة عدم الاكتمال خاصته. ظل جودل في فيينا حتى عام 1940، حين هرب من الفظائع النازية الآخذة في التفاقم لتولي منصب بمعهد الدراسات المتقدمة في برنستون، التي كان قد زارها بالفعل عام 1934. ظل في برنستون حتى وفاته في 14 يناير 1978. لم يكن موتًا متوقعًا بالنسبة لرجل قيل عنه أنه أكبر خبراء العالم في علم المنطق. فقد كان جودل مصابًا بالوسواس طوال معظم حياته البالغة، وبينما تقدم به العمر، أصبح مقتنعًا بأنه يتعرض للتسميم، وامتنع في النهاية عن تناول الطعام تمامًا، وتضوّر جوعًا حتى الموت.

لم يكن لموت جودل غير المنطقي تمامًا أي تأثير سلبي على سمعته. فعندما أجرت مجلة «تايم» منذ عامين استطلاعًا للرأي لتحديد المفكرين الأقوى تأثيرًا في القرن العشرين، كان جودل واحدًا من علماء الرياضيات ضمن الأسماء العشرين الأوائل، وكان عالم الرياضيات الآخر آلان تورنج.


مبرهنة عدم الاكتمال

أجبرت مبرهنة عدم الاكتمال علماء الرياضيات على التشكيك في معنى افتراض أن أمرًا ما صحيح في الرياضيات. كان التغير الناتج في فهمنا للرياضيات مثيرًا بقدر التغير في إدراكنا للهندسة، الذي تبع اكتشاف الهندسة غير الإقليدية في القرن التاسع عشر. اشتمل هذان الاكتشافان الكبيران على نظمٍ بديهية، ولا يمكن فهم كليهما على نحو صحيح دون تقدير ما يعنيه الرياضيون بكلمة «بديهي» والدور الذي تلعبه المسلمات في الرياضيات. يكمن سوء فهم طبيعة البديهيات وراء قدر كبير من الهراء الذي كُتب بشأن مبرهنة جودل على مر السنين.

وباختصار، تقول مبرهنة جودل إنه في أي نظام رياضي بديهي غني كفاية للقيام بعملية حسابية ابتدائية، ستكون هناك بعض البيانات الصحيحة ولكن لا يمكن إثباتها (من البديهيات). وبمصطلحات فنية، يتعين على نظام المسلّمات أن يكون غير كامل.

في الوقت الذي أثبت فيه جودل مبرهنته، كان يسري اعتقاد شائع بأنه مع بذل الجهد الكافي، سيتمكن الرياضيون في النهاية من صياغة مسلّمات لدعم جميع صور الرياضيات. تحدت مبرهنة عدم الاكتمال هذا التوقع، وتبناها عديدون لتوضيح أن هناك حدًّا للمعرفة الرياضية التي قد نتوصل إليها، ومع ذلك، يظل قليل من علماء الرياضيات الآن محتفظين بهذا الاعتقاد. كان التغير في تصورنا عن الحقيقة الرياضية الذي أحدثته مبرهنة جودل تامًا للغاية، لدرجة أن معظمنا اليوم يعتبر النتيجة نفسها مجرد ملاحظة فنية بشأن حدود النظم البديهية.


مسلمات إقليدس

لتقدير التأثير الأوّلي لمبرهنة جودل، يجب أن تتبنى طريقة التفكير الخاصة بتلك الفترة. فخلال القرن العشرين، أدرك علماء الرياضيات أن عديدًا مما بدا أنه مفاهيم بديهية كان مثيرًا للإشكال. كمثال، بناء الاستمرارية الحقيقية وطبيعة الدالة المتصلة. لتفادي ما قد يعتبر اعتمادية مضلِلة على الافتراض والحدس غير الموثوق بهما، بدأوا التأكيد على أسلوبٍ للتعامل مع الرياضيات وضعها اليونانيون القدماء، لكن ما هُمّش إلى حد كبير منذ حينها هو؛ الطريقة البديهية. وهنا، تكمن الفكرة في البدء عبر تدوين، بشكل محدد، مجموعة مبدئية من الافتراضات – أو المسلّمات (بالإنجليزية Aximos ويعود أصلها إلى الكلمة اليونانية Axioma) – التي ترى أنها تسجل الفكرة أو النظام الذي يثير اهتمامك، ثم تشرع في تأسيس الحقائق بشأن تلك الفكرة أو النظام عبر الاستنتاج المنطقي من تلك المسلّمات.

إقليدس

تتضح الأمثلة الأكثر شيوعًا على هذا الأسلوب في مسلّمات إقليدس في الهندسة. ففي عمله الضخم «العناصر»، بدأ إقليدس بتسمية خمسة مبادئ كان يفترض استنتاج جميع الحقائق بشأن الهندسة المستوية منها. ولأن المسلّمات كان يُقصد بها أن تكون نقطة البدء للبحث عن الحقيقة، لا يجب أن تكون صحتها محل أي شك، بل يتعين أن تمثّل المسلّمات تأكيدات بسيطة بديهية.

تقول المسلّمة الخامسة لإقليدس إنه «لكل مستقيم (م)/ ولكل نقطة (ن) لا تقع على (م)، يوجد مستقيم وحيد (و) يمر عبر (ن) وموازٍ لـ(م)». طاردت الأسئلة المتعلقة بمسلمة التوازي هذه الهندسة الإقليدية لمئات الأعوام. كانت هذه المسلمة محل شك لأن صوغها كان أصعب كثيرًا بالمقارنة بالمسلمات الأربعة الأخرى. استمرت المحاولات عبثًا لحل المشكلة عبر استنتاج المسلمة من افتراضات أبسط، حتى الاكتشاف الصادم بأن تضمينها كان اعتباطيًا بالكامل – في حين يمكن القول بإنها متماشية مع الحدس البشري الطبيعي بشأن الخطوط المتوازية. كانت هندسة إقليدس الشائعة، التي اعتبرت فيها المسلمة الموازية بديهية، واحدة ضمن عددٍ من الرسائل الهندسية المحتملة، والتي كان البتّ بينها مجرد مسألة توجّه، أو متعلقًا بالتطبيق المقصود لها.

في الواقع، كانت هناك مشكلة أكبر كثيرًا بمسلمات إقليدس من تضمينه لمسلمة التوازي. فقد أهمل نظامه البديهي العديد من الافتراضات الأساسية التي استخدمها، هو وأجيال من العلماء اللاحقين، على نحو غافل، في استنباط المبرهنات التي يفترض أنها تبعت المسلمات. تركت مهمة تصحيح الأمور لعالم الرياضيات الألماني، ديفيد هيلبرت، في أواخر القرن التاسع عشر، عبر تدوين تلك البديهيات الحاسمة والغائبة.


تحدي هيلبرت

إقليدس
ديفيد هيلبرت

لإعطاء فكرة عن نوع المشكلة التي لاحظها هيلبرت، فكر بشأن واحدة من إنشاءات الفرجار والمسطرة الأكثر ابتدائية، الخاصة بالمثلث متساوي الأضلاع. حيث تبدأ برسم خط مستقيم، ثم ترسم أقواسًا من نهاية المستقيم، مع تحديد نصف قطر مساوٍ لطول المستقيم. النقطة التي تتقاطع بها الأقواس تمثل القمة الثالثة لمثلثك متساوي الأضلاع. يبدو ذلك سليمًا إلى حد ما. ففي النهاية، يمكنك تنفيذ تلك الخطوات بالفعل ورسم مثلث متساوي الأضلاع.

ولكن مثلما ذكر هيلبرت، كيف يمكنك التأكد حقًا من أن القوسين يتقاطعان؟؛ أي كيف تعرف أن هناك نقطة مشتركة بينهما؟، فمجرد أن القوسين على الورقة يبدوان كما لو كانا متلاقييْن، لا يضمن أن هناك بالفعل نقطة تقاطع. ففي النهاية، على خلاف خطوط قلم الرصاص التي ترسمها بالفعل، ليس للخطوط والأقواس المثالية في الهندسية سُمك. كيف يمكنك التأكد من أن قوسين ليس لهما أي سُمك لديهما نقطة مشتركة؟، الإجابة هي أنك لا تستطيع التأكد. فإن أردت للقوسين أن يتقاطعا، يجب أن يكون لديك مسلّمة تفترض أنهما يتقطعان بالفعل. إنها مسلّمة معقولة، متماشية تمامًا مع حدسنا بشأن رسم الأقواس. لكن حالتهما تعد محل افتراض، وليس أمرًا يمكن إثباته.

الدرس الذي يمكن تعلمه مما قام به هيلبرت هو أنه قد يكون من الصعب للغاية تحديد جميع الافتراضات التي تستخدم في أي فرع من الرياضيات. وقد طرح هيلبرت رؤية للرياضيات اكتسبت لاحقًا قبولًا واسعًا. ووفق وجهة النظر هذه، التي أصبحت معروفة باسم «الشكلية»، يجب اعتبار الرياضيات، في جوهرها، لا شيء سوى مجموعة من الألعاب المنظمة، يُلعب كلٌ منها وفق قواعد محددة تمامًا.

على سبيل المثال، انطوى تطبيق الهندسة الإقليدية على لعب لعبة الهندسية الإقليدية. وفي هذه اللعبة، تبدأ بمسلمات للهندسة الإقليدية ثم تستنتج جميع الحقائق بشأن الهندسية الإقليدية عبر التلاعبات الميكانيكية بالرموز وفق قواعد محددة تمامًا. لم يمكن استخدام أي شيء لم يكن محددًا من قبل المسلمات أو قواعد التلاعب. تحديدًا، لم يمكن، ولم يتوجب، استخدام أي حدس بشأن طبيعة النقاط أو الخطوط. ومثلما لاحظ هلبيرت نفسه، يمكنك استبدال جميع الأحاديث بشأن النقاط والخطوط عبر الإشارة إلى أكواب البيرة وطاولات الحانة، بعد أن تكون قد صغت المسلّمات بالنسبة لتلك الأجسام، وستكون النظرية الناتجة مطابقة من جميع الجوانب للكلمات الفعلية المستخدمة.

عبر إزالة جميع صور الحدس بحيث لا تختلف النقاط والخطوط عن أكواب البيرة وطاولات الحانة، حسبما أوضح هذا الاستنتاج، ستكون الرياضيات متحررة إلى الأبد من مخاطر الافتراضات المضللة، على نحو محتمل، وغير المعترف بها. بل سيكون من الممكن نظريًا تصميم أجهزة ميكانيكية – والتي، بالتأكيد، ليس بها أي حدس – لتتبع القوانين وتستخلص جميع الحقائق لك. (تذكر أن ذلك كان قبل اختراع الحواسب).

أصبح هذا النهج الرياضي، لصوغ جميع المسلمات التي تحتاجها لاستنتاج جميع الحقائق في فرع معين من الرياضيات ميكانيكيًا، معروفًا باسم «برنامج هيلبرت». وبالنسبة لكثيرين، أصبح البحث عن المسلمات أمرًا صعب المنال، رغم أن هيلبرت، الذي احترم للغاية الدور الذي يلعبه الحدس الإنساني في ممارسة الرياضيات، لم يكن أحدهم، ولم يقترح هو نفسه من قبل وجوب تنفيذ البرنامج الذي ألحق آخرون اسمه به.

غلاف كتاب أصول الرياضيات

أجريت بعض الجهود الأكثر استمرارية لتنفيذ برنامج هيلبرت على يد الفيلسوفين الإنجليزيين، برتراند راسل وألفريد نورث وايتهيد. حيث نُشر عملهما الضخم المكون من ثلاثة أجزاء، بعنوان «أصول الرياضيات»، بين عامي 1910 و1913، والذي مثّل محاولة لتطوير الحساب والتفكير المنطقي على أساس المسلمات.

لقد كان النظام البديهي في «أصول الرياضيات» الذي اتخذه جودل، كمثال، ليثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الهدف من برنامج هيلبرت كان غير قابل للتحقيق. وقد سمى هيلبرت ورقته البحثية المثيرة «عن البيانات المنظمة غير المقررة لمبادئ الرياضيات والأنظمة المتصلة». وفي الوقت الذي أثبت فيه جودل مبرهنته، اكتسبت سمعة بأنها صعبة الفهم. ولكن ذلك مهد الطريق منذ وقت طويل لإدراك أنها بالفعل نتيجة بسيطة إلى حد ما. فتعقيدات البرهان الأصلي لجودل تعتبر غير ذات صلة إلى حد كبير؛ ما يعد نتيجة للطريقة المحددة التي قدم بها حجته. وجوهريًا، أخذ جودل «مفارقة كريت» وأظهر كيفية إعادة إنتاجها ضمن أي نظام بديهي يدعم علم الحساب.

تتضح «مفارقة كريت»، التي ترجع إلى اليونان القديمة، عندما يقول شخص «أنا أكذب». فإن كان الشخص يكذب فإن مقولته حقيقية؛ لذلك فإنه لا يكذب؛ ما يعني أن قوله كاذب؛ لذلك فإنه كاذب. تبدو تلك المفارقة دون نهاية. وقد تبنى جودل بيانًا مشابهًا، حيث قال «هذا القول لا يمكن إثباته»، وأظهر كيف يمكن استنباطه كمعادلة رياضية ضمن علم الحساب.

تطلّب ذلك في المقام الأول، تحويل البيانات إلى أرقام – وهي عملية تعرف باسم «ترقيم جودل». وفي تلك الفترة، اعتبر ذلك خطوة عميقة وصعبة، لكن اليوم، صَوّر أي فيلم عن التجسس الطريقة التي يتم بها ترميز الكلمات والجمل الإنجليزية بتسلسل عددي، عادة كجزء من عملية تشفير الرسائل. تمثلت خطوة جودل التالية في إظهار كيف يمكن التقاط مفهوم إمكانية البرهنة ضمن علم الحساب، وكانت تلك الخطوة أعمق بشكل ما. لكن بالنسبة لعلماء الرياضيات اليوم، تبدو تلك الخطوة أيضًا روتينية إلى حد ما.

بمجرد إتمام عملية الترميز، أصبح المجال ضيقًا. فإن افترضنا أن النظم البديهية كانت متسقة (أي أنها لم تؤد إلى أي تناقضات داخلية)، فلا يمكن لذلك البيان أن يكون قابلًا للإثبات (بما أن البيان نفسه أعلن عدم إمكانية إثباته)؛ ما يعني أنه كان صحيحًا – لكن لا يمكن إثباته.

بالنسبة لهؤلاء الرياضيين (الشكليين) الذين اعتقدوا أن الحقائق الرياضية كانت كإمكانية البرهنة – وأن البيانات الحقيقية للرياضيات هي تحديدًا البيانات التي يمكنك إثباتها من المسلمات بمجرد استنباطك لها جميعًا بشكل صحيح – كانت مبرهنة جودل مُدمِرة. ومع ذلك، اليوم، مثلما ذكرت آنفًا، يعتبرها العلماء ببساطة مؤكدة على قيود ما يمكن تحقيقه بالنظم البديهية.

لكن يمكنها فعل ذلك فقط لأن الرياضيات الحديثة قد تعلمت الدرس الذي علمنا إياه جودل. ربما لم يغير استنتاج جودل الرياضيات إلى حد كبير، لكنه غير الطريقة التي ننظر إليها بها. ويعد اختياره كواحد من المفكرين الأقوى تأثيرًا بالقرن العشرين مستحقًا بلا شك.