في عام 2006 شهد العالم حدثا مؤسفا. لقد وافت المنية هارييت، سلحفاة جزر جالاباجوس الضخمة. توفيت السلحفاة في أستراليا عن عمر يناهز 175 عاما. يقول البعض إن تشارلز داروين قد احضرها معه خلال رحلته الشهيرة على متن البيجل إلا أن المرجح أنها قد نقلت من موطنها إلى بريطانيا قبل زيارة داروين بعدة سنوات ومن ثم استقر بها المقام في أستراليا لاحقا.

في عمق المحيط الهادي على بعد ألف كيلومتر من شاطئ الإكوادور، انبثقت من عمق الأرض سلسلة من الجزر سكنها القراصنة وصيادو الحيتان. أرخبيل من الجزر أذهل داروين -الذي أطلق اسمه على إحدى جزره- وغير مسار علم الأحياء إلى الأبد. هناك في جزر جالاباجوس تعيش أكبر سلاحف العالم على مقربة من البطاريق.

فما قصة هذه الجزر الخلابة، وفيما تختلف عن أي منظر طبيعي ساحر آخر؟


مرحبا بالإنسان

نفاية وعديمة القيمة لأنها لا تقوى حتى على إنماء بعض العشب، القليل من الشوكيات فقط

كان ذلك هو رأي أسقف بنما الإسباني توماس دي بيرلانجا حينما اكتشف جزر الجالاباجوس بمحض الصدفة. كان هذا عام 1535 عندما تعثرت سفينته بين الأمواج وأراد الطاقم إيجاد بعض الماء والغذاء. لم يستطع الأسقف وطاقمه العثور على الماء بسهولة إلا بعد أن تتبعوا خط سير سلاحف الجزيرة الضخمة التي لن يقدروا حسن صنيعها لاحقا.

كان أول من وضع خريطة لجزر الجالاباجوس التي يمر خط الاستواء من شمالها هو القرصان، أمبروز كاولي، ليأتي بعده صائد الحيتان جيمس كولنيت ليرسم أول خريطة دقيقة للجزر. لم يدر بخلد أي منهما مدى تأثير هذه الجزر على معرفتنا الطبيعية الجيولوجية، الحيوانية والطبيعية.

أول خريطة للجزر رسمها القرصان أمبروز كاولي

سيطلق الأسبان على الجزر اسم جزر جالاباجوس والتي تعني «جزر السلاحف Islands of tortoises». ستصبح الجزر فيما بعد معقلا شهيرا تمركز فيه القراصنة الإنجليز الذين اعتاشوا من مهاجمتهم للسفن الإسبانية العابرة من إسبانيا للمستعمرات في أمريكا الجنوبية، ثم صائدو الحيتان الانجليز أيضا الذين احتفظوا بالسلاحف على متن سفنهم للغذاء على لحومها مما أدى لانقراض السلالة من بعض الجزر.

الجالاباجوس دارون التطور

للمزيد من سوء الحظ، أثناء بقاء هؤلاء على هذه الجزيرة أو تلك، كانت بعض حيواناتهم تهرب إلى فضاء الجزيرة الواسع الذي لم تعتد حيواناته ونباتاته وجود كائنات مفترسة لها من قبل. تسبب الأمر في تدمير التوازن البيئي على الجزيرة. عانت أعشاب الجزيرة الأمرين من التهامها بواسطة الماعز وصدمت السلاحف من عدم توافر غذائها كما اعتادت لملايين السنين. كذلك تعرضت البطاريق التي عاشت في شمال جزيرة إيزابيلا – بهذا تكون هذه الجزيرة هي المكان الوحيد في نصف الكرة الشمالي الذي يمثل موطنا طبيعيا لطريق – لتدمير بيئتها الطبيعية.


جالاباجوس.. هبة البراكين

تعد حقيقة أن قطعة من الأرض توجد حيث تتواجد جزر الجالاباجوس، أمر مثير للغاية بحد ذاته. كيف يمكن لقطعة من الصخر أن تنبثق من عمق المحيط هكذا؟ من السهل أن نرجع تكوين الجزر إلى النشاط البركاني الذي أدى لتراكم الصخور البركانية حتى بزغت من البحر، إلا أن السؤال المؤرق سيكون: لما قد يتواجد بركان في منطقة كهذه؟

لا تتواجد جزر جالاباجوس على حواف صفيحة تكتونية تصطدم بأخرى لتنغرز إحداهما تحت مجاورتها ويتكون البركان. مع هذا فإننا لا نجد بركانا واحدا بل ما يقرب من عشرة براكين اشترك 6 منها في صناعة الجزيرة الأكبر إيزابيلا بينما قام أحدثها نشاطا بصناعة جزيرة فيرناندينا. إن واقع تكوين هذه الجزر معقد بعض الشيء.

بالطبع شارك وجود «نقطة ساخنة Hotspot» في قشرة الأرض تحت جزر الجالاباجوس في تكوينها. حدث هذا عن طريق صعود عمود من الصخر المنصهر من الوشاح إلى منطقة ضعيفة من سطح قشرة أو أرضية المحيط في صورة بركانية. بالطبع تساعد كميات المياه الإضافية في جعل انصهار الصخور أسهل مما يحفز النشاط البركاني. إلا أن فكرة النقطة الساخنة وحدها لا تكفي.

تنقسم القشرة الخارجية لكوكب الأرض Lithosphere إلى نوعين: قشرة قارية Continental وقشرة محيطية Ocean crust. تتكون القشرتان من العديد من الصفائح نطلق عليها صفائح تكتونية Tectonic plates يشتهر منها سبع صفائح لكن إذا دققنا النظر في الصفائح الأصغر المغمورة سنجد شيئا مثيرا.

تحت مياه المحيط الهادي، تتباعد الصفيحتان الصغيرتان –اللتان تشكلان جزء من أرضية المحيط- نازكا Nazca وكوكوس Cocosعن بعضها البعض تاركين فراغات في القشرة المحيطية أو أرضية المحيط. يأتي الصخر المنصهر من الوشاح الساخن ليملأ هذه الفراغات مكونا قشرة جديدة كما لو كان جرحا في الأرض يتجلط.

ترتفع الماجما magma–أي الصخور المنصهرة- بين الصفائح المتباعدة وتواصل تراكمها لينتهي بنا الأمر وقد تكون ما يعرف باسم Ridge أي سلسلة جبال تحت الماء. لهذا تتواجد البراكين في هذه المناطق، ومن التأثير الجماعي لتلك البراكين والجبال نشأت جزر الجالاباجوس. وبنفس الطريقة تتكون المزيد والمزيد من الأرضية المحيطية في عملية نعرفها باسم Sea-floor spreading.

بالطبع مع الحرارة المتصاعدة والصخور المنصهرة التي تحتوي على شتى أنواع المعادن، كان من الطبيعي أن تتواجد حياة في أعماق المحيط الذي لا يرى الشمس، فالطاقة والغذاء متوافران مما جعل البيئة –عكس المتوقع-ملائمة لمختلف أنواع الحياة العجيبة التي تعيش في درجة حرارة مياه تصل إلى 400 درجة سليزية ولم تتبخر بسبب الضغط.


عصافير داروين

الجالاباجوس دارون التطور

أتى طالب الطب السابق إلى جزر الجالاباجوس كباحث جيولوجي متحمس يبلغ من العمر 26 عاما. أمضى داروين هناك خمسة أسابيع من الرحلة التي دامت خمس سنوات على طول ساحل أمريكا الجنوبية على متن البيجل. هناك تغيرت أفكاره إلى الأبد كما يذكر في كتابه رحلة البيجل:

«إن التاريخ الطبيعي لهذه الجزر يثير الفضول بشكل كبير ويستحق الاهتمام عن الجدارة. معظم الكائنات العضوية هنا هي كائنات خاصة بالجزر ذاتها لا توجد في أي مكان آخر، حتى أن هناك اختلافات بين سكان الجزر المختلفة، إلا أن جميعها تبدي علاقة واضحة مع كائنات قارة أمريكا رغم انفصال الجزر عنها بمساحة مفتوحة من المحيط يبلغ اتساعها ما بين 500-600 ميل. إن الأرخبيل عالم صغير بحد ذاته».

جمعت مجموعة داروين مختلف الفصائل من الطيور والحيوانات والزواحف التي تواجدت على جزر الأرخبيل المتعددة إلا أن أشهرها قد سمي بـ«شرشوريات داروين» أو عصافير داروين Darwin finches.

كانت ملاحظة داروين لاختلافات سلالات هذه العصفور بين الجزر المختلفة وبين سلالات قارة أمريكا الجنوبية وأيضا ملاحظته للتشابهات بينها، هي المثال الأوضح للكيفية التي بلور بها داروين أفكاره فيما يخص التأقلم Adaptation ومن ثم الانتقاء الطبيعي Natural selection. كانت كل سلالة قد طورت منقارا يناسب طبيعة الجزيرة التي نشأت عليها وقد أذهل داروين هذا. لقد شهد داروين في الجالاباجوس عملية صناعة الكائنات بشكل مباشر بواسطة البيئة التي نمت فيها، الأمر الذي لن يلاحظه إلا بعد عودته إلى لندن.

لم يكن يمر يوم في جالاباجوس دون أن يكتشف داروين سلالة من حيوان،نبات أو طائر، يتبين أنها جديدة تماما ومع هذا فقد كان واعيا تماما للدمار الذي تسبب فيه البشر للنظام البيئي على الجزيرة منذ أن وطئتها أقدامهم. لقد كان ختام مذكرات داروين بخصوص الجالاباجوس استنتاجا مؤسفا لأي عاقل قد شهد جمال الجزر وغناها الطبيعي، ومع ذلك فقد ذيل الاستنتاج ببارقة أمل مستنتجة من قوة الطبيعة. لقد كتب يقول

من هذه الحقائق يمكننا أن نستنتج كم من الخراب يمكن أن يتسبب فيه تقديم مفترس أو فريسة جديدة لبلد ما، قبل أن تتأقلم غرائز السكان الأصليين لصنعة أو قوة هؤلاء الغرباء.
المراجع
  1. Harpp, Mittelstaedt, d'Ozouville and Graham- The Galapagos: A Natural Laboratory for the Earth Sciences
  2. Stephen Marshak – Earth: Portrait of a Planet, 3rd Edition
  3. The teaching company plus-The World's Greatest Geological Wonders
  4. The Cambridge companion to Darwin
  5. Charles Darwin- The voyage of the beagle
  6. Frank Sulloway-The Evolution of Charles Darwin (Smithsonian magazine)