الرب خلق الحمل والنمر، الأول يمثل البراءة والثاني يمثل الوحشية، كلا الاتجاهين صحيحان وضروريان، كذلك ديدن الفن
ترير

في عام 2011 خلال الاحتفاء بفيلمه «melancholia» في كان، فاجأ «لارس فون ترير» الجميع بقوله إنه يُدين هتلر لكنه على مستوى ما يفهمه، يتعاطف معه ويتخيله وحيدًا في مخبئه بعد انهيار أحلامه، تسبب هذا التصريح في طرد المُخرج من المهرجان لسنوات.

لم تكن تلك الحادثة الأولى المثيرة للجدل بشأن «ترير»، ففي عام 2009 خلال عرض فيلمه «Antichrist» في المهرجان نفسه، انسحب النقاد ووصفوه بكاره النساء، خاصة في المشهد الذي تقوم فيه البطلة بختان نفسها بمقص بعد أن سحقت قضيب زوجها بحجر!

قبل أن نتعجل إصدار حكم على أخلاقية ترير أو حالته العقلية التي تجعله يصنع مثل تلك الأفلام ويسرد تلك التصريحات لا بد أن نفهم أولًا، كيف يرى ترير الفن؟

في عام 1794 أصدر الشاعر الإنجليزي «ويليام بليك» «أغاني البراءة والخبرة»، ومن ضمنها قصيدة النمر، التي يتأمل فيها جمالية مخلوق متوحش مثل النمر ويسأله من خلقك؟ يتعجب بليك كيف أتى الحمل الوديع ببراءته والنمر العنيف بوحشيته من أيدي خالق واحد.

عندما ترسلُ النجوم أشعتها الذهبية
وتروي السماء الأرضَ بدموعها الندية
هل يشعر بالسعادة من خلق هذا الصنيع؟
هل مَن خلقكَ هو الذي خلق الحمل الوديع؟
الشاعر الإنجليزي «ويليام بليك»

يؤمن «بليك» أن التناقضات بين البراءة والتجربة، الحمل والنمر، الخير والشر، يمكن أن تضلل الإنسان لو اختار فهم أحدهما وقمع الآخر، إنما على الإنسان أن يرى تناقضات الكون في كليتها، أن يسعى لوصالها وفهمها، لذلك جعل بليك النمر والحمل اللذين ينتج عن حضورهما في كادر واحد مذبحة دموية، موضوعات جمالية في قصيدة واحدة تُمجد تعقيد الوجود.

يرى ترير الفن بالطريقة نفسها، يقول في فيلمه الأخير«المنزل الذي بناه جاك»:

 الفن لا بد أن يحاول وصال الإنسان في جانبه المُظلم والمضيء، ومثلما يحاول رجال الدين إنكار النمر في طبيعة الإنسان لصالح فكرة مثالية، فالقانون الأخلاقي عندما يُفرض على الفن يُدمره.

لذلك في فيلمه «Nymphomaniac» يتحدث على لسان بطلته «جو»، ويقول إن هتلر لم يكن سوى رجل أطلق المجتمع له العنان ليكون وفيًا لجانبه المظلم، أو باستعارة بليك، هو نمر بري، وفي حوار لترير سنة 2018 يؤكد أنه يدين أفعال هتلر، لكن الإدانة فعل سهل لأنك عندما تبدأ بها تنزع عن المرء إنسانيته، وفي ذلك طمأنينة أن المجرم الذي قتل ملايين ليس بشرًا مثلنا، بينما الحل الوحيد لكيلا يأتي هتلر من جديد هو أن نؤنسنه، أن نراه كإنسان ونفهم داخله المظلم الموجود مثله بداخلنا جميعًا، أو كما ألمح ترير بذكاء، أن شجرة البلوط المهيبة التي جلس تحتها «جوتة» ليكتب عن جمالية الإنسان كانت الشجرة نفسها التي انتصبت في معتقل «بوخنفالد» النازي بعد سنوات، وكسا دخان المحرقة أغصانها بالرماد. جسدت الشجرة النمر والحمل في بقعة واحدة.

بينما يرى أحدهم السينما أداة لإبراز مثالية الإنسان، لتجميله، يصنع ترير الأفلام التي تنتمي للضفة الأخرى، مثلما تقرأ أشعار الحمل لبليك وتنتشي لجمال الوجود يأتي ترير ليخبرك عن قصيدة النمر.

اقرأ أيضًا: ثلاثية الاكتئاب: حين أشهر فون ترير سيفه أمام الجميع

الفن علاج

كل شيء يخيفني في هذا العالم، إلا الأفلام التي أصنعها.
ترير  

في 2007 أعلن ترير إصابته باكتئاب إكلينيكي، نتج عنه ثلاثية الاكتئاب «ضد المسيح» و«ميلانكوليا» و«شبق».

بالنسبة لرجل أفلامه مشدودة دومًا للجانب المظلم من الإنسان، للنمر الكامن فينا خلف قناع الحمل، كيف سيحكي رجل مثل ترير تجربة مرعبة مثل الاكتئاب؟

 يصف ترير أفلامه أنها الشيء الوحيد الذي يطمئنه، ثلاثية الاكتئاب ربما هي الطريقة التي حافظت عليه حيًّا حتى الآن، فبعد خروجه من المصحة بشهرين جهز أول أفلامها، وبعد الثلاثية قدم فيلمه الأخير «المنزل الذي بناه جاك»، وهو محاكاة سينمائية لرحلة الشاعر «دانتي» في «الكوميديا الإلهية» التي يهبط فيها لقاع الجحيم بصحبة الشاعر «فيرجيل»، يصطحبنا ترير في ثلاثيته لجحيم الاكتئاب، مثلما اصطحب دانتي فيرجيل. 

الاكتئاب كمجاز أنثوي

الذكورة هي النظام والأنوثة هي الفوضى.
جوردان بيترسون

في ثلاثية ترير نجد البطلة أنثى، ولهذا صدًى في أفلامه السابقة أيضًا، يصف ترير شخوص أفلامه أنهم Alter ego، أو ذوات بديلة له، لكن في تجربة شديدة الذاتية مثل الاكتئاب لماذا اختار ترير أن تظل الذات المعبرة عنه أنثى؟

يخبرنا عالم النفس الكندي جوردان بيترسون  أن الثقافات القديمة دومًا اعتبرت الذكورة حالة النظام والأنوثة حالة الفوضى، بدءًا من الطاوية التي رمزت للذكورة باليانغ المضيء المتماسك المقتحم، وللأنوثة بالين الساكن المظلم القلق، لا يتعلق ذلك بحقيقة عنصرية ترسخ تفوقًا ذكوريًّا وانحطاطًا أنثويًّا، إنما لكون البشر مخلوقات تمارس الإدراك الاجتماعي social cognition، يُدرك البشر التمييز بين مجال النظام أو المساحة التي يُمكننا فهمها والتحكم بها ومجال الفوضى أو مساحة المجهول المظلم التي يتولد عنها كل ما لا نعرفه، لكن للتعبير عن هذا التمييز استعار البشر التقسيم الجندري، فصارت الذكورة معبرة عن المجال الأول والأنوثة عن المجال الآخر.

 يرى بيترسون أن تلك استعارة إدراكية، بينما في الحقيقة الفوضى والنظام أحوال تتناوب على البشر دون تمييز، وحتى في رمز الين واليانغ نجد في الين نقطة من اليانغ، وفي اليانغ نقطة من الين، لندرك أن كمال الإنسان هو التوازن بين الحالين، لكن تلك الاستعارة لم تمر مرور الكرام، بل دفعت ثمنها الأنثى مرارًا عبر التاريخ.

 الاستعارة التاريخية التي جعلت الأنثى معادلًا للفوضى في الطبيعة جعلتها على مدى التاريخ النسخة المعيبة والمرضية من المخلوق الإنساني، منبع الهستيريا (المشتقة من كلمة رحم باليونانية) والشبق والاكتئاب.

لتلك الأسباب يختار ترير الأنثى موضوع ثلاثيته، لأن الاكتئاب يؤطر الإنسان في نسخته الناقصة المعيبة، مخلوق محتجز في ظلامه وعاجز عن التعبير عما يراه، مخلوق لا يفهمه الأصحاء، يثير حنقهم في البداية لأنهم لا يستطيعون أن يجدوا موضع علته جسديًّا، ثم يثير خوفهم في النهاية، لأن الاكتئاب هو دعوة للفوضى، أن تنحل عروة المعنى في الإنسان ويندفع بإرادته للجنون، للانتحار، للتفكك.

 لذلك الأنثى هي أصدق مخلوق للتعبير عن تلك الحالة لأنها موصومة بها تاريخيًّا، فكما يُسقط الأصحاء مخاوفهم على المرضى النفسيين (الاستجابة الأولى للمرض النفسي كانت باحتجاز المرضى في مصحات بعيدًا عن الأصحاء بنفس تكتيك العدوى)، أسقط الرجال على مدى التاريخ مخاوفهم من الجانب المظلم في إنسانيتهم على الأنثى.

الفن كمحاورة نفسية

لم أعجبك أبدًا كامرأة، لكن الآن بما أنني مريضة صرت مثيرة للاهتمام.
من فيلم Antichrist

يصنع ترير ثلاثية الاكتئاب بنمط المحاورة بين الطبيب والمُعالج، الأنثى على أريكة المريض في حالتها المعيبة، سواء الجنون لبطلة «antichrist» أو الاكتئاب لبطلة «melancholia» أو الشبق لبطلة «nymphomaniac».

تجسد الأفلام الثلاثة محاورة بين اكتئابه في صورة بطلاته الإناث وبين الآخرين الذين يجسدون صفات الطب النفسي، العقلانية والتحكم والتسلط والقوة، أو المميزات المنسوبة للذكورة في التجربة الإنسانية.

في ANTICHRIST تتعافى الزوجة بصحبة زوجها ومعالجها النفسي من موت طفلهما بسقوطه من الشرفة وهما يمارسان الجنس في غفلة عنه، يجعل ترير الجنس هو مركز الحكاية؛ لأنه اللذة التي بدأت بقدوم حواء لعالم آدم، وربما بها ملكت أمره وطردته من جنة عدن بغوايتها له.

يحاول الزوج علاج زوجته من عقدة الذنب خاصتها بأن يعرضها لما يخيفها، وهو الكوخ القديم الذي يملكونه في غابة (عدن)، لتكمل هناك الزوجة أطروحتها القديمة، والتي كان موضوعها هو العنف الذي مورس على المرأة عبر التاريخ!

بينما في MELANCHOLIA تحاول «جوستين» إكمال زفافها قبل أن تهزمها نوبة الاكتئاب، لكنها تفشل ويتركها العريس وسط ظروف ترقب عالمية تشبه الكورونا الحالية، لكن الخطر ليس فيروسًا، إنما كوكب ميلانكوليا الذي يقترب في مساره من الاصطدام بالأرض.

وفي NYMPHOMANIAC يستضيف العجوز «سليجمان» السيدة جو التي تروي له مسيرة حياتها التي حركها شيء واحد هو الشبق الجنسي.

يقسم ترير أفلامه لفصول روائية، في الفصول الأولى نجد الغلبة دومًا للشخصيات العقلانية أو لنمط الطبيب المعالج، الأصحاء، الجهة التي تفرض هيمنتها على عالم ترير باعتبارها تقدم النسخة الصحية مما يجب أن يكون عليه الإنسان، فالزوج في ANTICHRIST يتسلط بعقلانيته على زوجته ويجبرها على القيام برحلة لكوخهما القديم، بينما حملت تلك السمات المتسلطة في MELANCHOLIA الأخت كلير التي تحاول أن تجبر أختها على إكمال الزفاف والتظاهر بالابتسام بينما تخبرها «جوستين» بلسان مريض الاكتئاب:

أنا أشق طريقي خلال تلك الأصواف الرمادية، إنها ثقيلة جدًّا، لا أستطيع جرّها.

فلا يكون رد الأخت سوى أنها يجدر بها أن تكون سعيدة كأن الأمر بإرادتها.

وفي nymphomaniac تتحدث جو عن تجربتها الشهوانية من منطلق شعوري، بينما يُحاول سليجمان عقلنة كل جانب في تجربتها وتجريدها من خصوصيتها وجعلها ظاهرة باردة تحت المجهر، تشبه كل الظواهر الأخرى.

يجسد الآخرون في ثلاثية ترير التسلط العقلاني، يؤطرون الاكتئاب أو كل تجربة شعورية تتوغل في ظلام الإنسان مثل الأسى والشبق والهستيريا كشيء مثير للخزي لا بد من التغلب عليه بالتحكم، ورغم أن شخصية الزوج والأخت والمضيف سليجمان شخصيات مانحة للرعاية والعناية للبطلات، إلا أن ذلك لا ينبع من تماهٍ حقيقي مع ما تُعانيه البطلات، بقدر ما هو خوف الأصحاء من المرضى، خوف التماسك من الفوضى، قلق الإنسان من رواية أخرى عنه لا يبدو فيها مثاليًّا.

لهذا تتحول المحاورة دومًا في فصولها التالية لانقلاب درامي متمرد، تفسد جوستين زفافها، تعتنق الزوجة في antichrist الجنون بداخلها، بينما تتلذذ جو في nymphomaniac في إبراز جوانب التناقض في تفسير سليجمان العقلاني لروايتها.

يقول ترير إنه وجد سكينته عندما قرأ مرة مقولة لستيفن هوكينج تقول إن البشر جاءوا من غبار النجوم، وسوف ينتهون كغبار للنجوم، يمنح ترير بذكاء تلك السكينة لأبطاله، سكينة الاستسلام، فمريض الاكتئاب لا يريد التخلص من حياته إنما يريد التخلص من ألمه ولو كان ألمه وجوديًّا، فالحل هو تفكيك حالة الوجود نفسها، لهذا تتحول مريضة الاكتئاب جوستين من امرأة لا تملك القوة للخروج من فراشها أو الاستحمام، لامرأة ثابتة الجنان في مواجهة كوكب يتقدم لسحق الوجود على الأرض. كوكب سيعيدنا لحالتنا الأولى، غبارًا للنجوم!

بينما في antichrist يشعر البطل بالقلق في الغابة، يحلم بحيوانات ميتة تتكلم وتطارده، يتفكك وعيه لحالة من الهذيان تمنح البطلة قوة، فهي حالة تفهمها أكثر.

يمتلك الاكتئاب زمام السرد فتُخبر جوستين أختها أن الأرض شريرة لن يحزن عليها أحد، ولن يفتقدنا أحد كبشر بينما تخبر الزوجة زوجها في antichrist أن الطبيعة هي كنيسة الشيطان، وكل جميل نراه فيها هو صراخ مخلوقات توشك على الموت، وعندما تنهي البطلة جو روايتها للعجوز سليجمان، تستحوذ عليه شياطين حكايتها وينهار منطقه البارد، فيحاول مضاجعتها مثلما فعل كل الرجال في حياتها، فتقتله لتكمل تجربتها بوصولها للتطرف الكامل!

لا ينتصر ترير على الاكتئاب في أفلامه، إنما يستدرجنا نحن الأصحاء عبر بطلاته لدوامته، يفكك مفردات عالمه ويجعل الغلبة للهذيان، عندما يسقط الأصحاء في سردية اكتئابية يصير مرضى الاكتئاب هم الأطباء، هم الدليل الذي يخبرنا عن قواعد ذلك العالم لأنهم يألفونه أكثر، لذا تستثير أفلام ترير مقاومة لدى بعض المشاهدين لأنها تحتجزهم في تجربة شعورية مرضية تزلزل معرفتهم الآمنة عن العالم، فلا يتوق المتفرج إلا لنهاية تلك التجربة ليستعيد مفهومه المألوف.

يصف ترير أفلامه بأنها صرخة لا أكثر، ينتهي antichrist بالبطل العقلاني وهو يقتل زوجته بعدما حاولت إخصاءه، بينما ينتهي melancholia باصطدام الكوكب بالأرض، ترتجف كلير وتفقد عقلانيتها بينما تحتضنها جوستين هي وطفلها وتمنحهم الطمأنينة الأخيرة، وينتهي nymphomaniac بسليجمان العقلاني عاريًا بقضيب منتصب ورصاصة في جسده، تُشبه النهايات الثلاثة مريض اكتئاب في عيادة قام من أريكته وجلس في مقعد الطبيب، بينما الطبيب خلع ثيابه واستسلم للجنون على الأريكة، تتولى الفوضى زمام التحكم وينحسر العقل مهزومًا.

يقول ترير إن «دانتي» كتب «الجحيم» كعمل انتقامي لفقد حبيبته بياتريس، يمكننا أن نرى ثلاثية ترير عملًا استعاديًّا وليس انتقاميًّا، الاكتئاب أحد أحوال النمر في طبيعتنا البشرية التي يخشاها الأصحاء، لهذا يموضعها ترير بأكثر درجاتها تطرفًا حتى تكاد الفوضى فيها تبتلع كل محاولة عقلانية لاحتوائها، بينما يختبر ترير الاكتئاب كل لحظة يمكن للأصحاء أن يختبروا الفوضى في عقله لساعتين مدة فيلمه.

اقرأ أيضًا: ما الفرق بين المُكتئب ومَنْ ينتظر نهاية العالم؟

 الفن كخبرة مزعجة

أجمل شيء هو صنع الأفلام، وأسوأ شيء أنها تُعرض في النهاية.
لارس فون ترير

ربما نجحت الثلاثية في منح ترير التطهير من اكتئابه، لكن هل يجب علينا كمشاهدين أن نُعد ذلك فنًّا؟ هل مذكرات مريض نفسي في مصحة ما أشياء تخص المريض وحده أم هي جديرة بالمشاركة؟

يقول جاك في فيلم «المنزل الذي بناه جاك» أن الفنان يجب أن يكون شجاعًا وألا يقلق بشأن رفاهية الآلهة والبشر في أفلامه (لهذا في فيلمه ذاك يمنح ترير نفسه بورتريهًا شخصيًّا أخيرًا، بأن يتوحد مع شخصية البطل كقاتل متسلسل يرى في كل جريمة له فنًّا). 

في كتابها «تفاهة الشر» حاولت الفيلسوفة «حنا آرنت» فهم نفسية منفذ الهولوكوست «أدولف إيخمان»، وصفته في النهاية كرجل بيروقراطي تافه، رجل عادي يشبهنا، ويمكن أن نصير مثله لو وُضعنا بطريقة ما في منظومة بيروقراطية جهنمية، هاجم الجميع حنا ووصفوها بيهودية كارهة لذاتها، وقتها قالت إن الفهم لا يمحو الإدانة، لكنه الاستجابة الأصعب على البشر. أن يُعلقوا أحكامهم ليفهموا، السينما في ذاتها هي فن تعليق الحكم وقبول تشارك التجربة الوجدانية. 

لا يقدم ترير فنه لينال الاستحسان، إنما يقدم الإنسان كمخلوق معقد لا يمكن لسردية واحدة أن تحيط بكل جوانبه، مثلما قدم بليك النمر والحمل في قصيدة واحدة وترك السؤال للخالق عن كيفية صنع عالم بتلك التناقضات؟ خوض عالم ترير الفني يشبه خوضنا عوالم لا نعرفها، أن نتخفف من إجاباتنا الجاهزة عن الاكتئاب والجنون والقلق والهوس لصالح محاولة فهمها من وجدان أصحابها، لهذا عندما تحدث ترير عن النازية لم يمنح خطبة أخلاقية، بل تحدث عن محاولة فهم صانعها وهو يبكي في مخبئه.

يمكنك أن تقرأ قصائد البراءة لبليك، كل ما يفعله ترير أنه يتلو قصيدة النمر بجوارها لترى إنسانيتك في كليتها، في النهاية يقول الكاتب الروماني «تريتاس»:

أنا إنسان، لا يوجد شيء إنساني غريب عني.