على مدار تاريخ الفن، دائمًا ما كان هناك نوع من الفنانين يسعون وراء الكمال، أحيانًا يكون هذا السعي مصدرًا لتفجير إبداعاتهم، وأحيانًا أخرى يقودهم هذا الولع إلى حتفهم المعنوي. المخرج الإيطالي «برناردو برتولوتشي» أحد هؤلاء الساعين وراء الكمال، والذي أوقعه سعيه في جدال كبير حول تعدّيه على جسد إحدى الممثلات من أجل الفوز بمشهد حقيقي يتعدى حدود التمثيل.

مؤخرًا عاد الحديث مرة أخرى عن المخرج الإيطالي الشهير «برناردو برتولوتشي»، وعن أزمةمشهد الاغتصاب الشهير في فيلمه «Last Tango In Paris» الذي أنتج عام 1972، الفيلم المرشح لجائزتي أوسكار عن فئتي أفضل ممثل في دور رئيسي «لمارلون براندو» وأفضل مخرج لبرناردو برتولوتشي. في حديث معه نشر عام 2013 اعترف برتولوتشي أنه اتفق هو ومارلون براندو على طريقة تنفيذ مشهد الاغتصاب والذي استخدم فيه براندو عصا مغطى بالزبدة من أجل إضفاء المزيد من الواقعية، بدون علم الممثلة «ماريا شنايدر»، التي أدت دور المغتصبة.

ذكر «برتولوتشي» أنه اتفق مع «براندو» على إخفاء الأمر عن ماريا؛ لأنه -على حد قوله «أراد رد فعلها كفتاة لا كممثلة»، وأضاف أنه لم يلتقِ بماريا بعد الانتهاء من تصوير الفيلم لأنها كرهته. وبرر تنفيذه لهذا المشهد بقوله «لم أرد لماريا أن تمثل الذل والإهانة والانزعاج، أردت لماريا أن تشعر -لا تمثل- المهانة والذل والانزعاج»، وأضاف أنه يشعر بالذنب لعدم إخبار ماريا بالمشهد، ولكنه غير نادم على قرار تصويره بهذا الشكل إطلاقًا.


إعادة التفجر

كان حوار برتولوتشي عن هذه الواقعة في عام 2013، ومر الحوار بسلام ولم يأخذ الضجة الكافية لعدة أسباب؛ أولها مكانة المخرج التاريخية، حيث يعتبر برتولوتشي أحد المخرجين المرموقين والذي حصل على العديد من الجوائز الهامة وعلى رأسها الأوسكار، وثانيها أن الفيلم يعتبر عملاً متكاملاً ذا قيمة فنية حقيقية. تتبعت «الواشنطن بوست» أسباب الغضب المفاجئ وإعادة فتح هذه القضية مرة أخرى في مقال نشر في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الجاري، بعنوان «لماذا أُعيد تفجير الضجة حول مشهد الاغتصاب في فيلم التانجو الأخير في باريس».جاء في هذا التقرير، أنه على الرغم من ذكر هذه التصريحات سابقًا، إلا أنها لم تتسبب في هذا المستوى من الغضب مثل الذي وصل إليه الآن، فسبب إعادة تفجر هذه القضية بهذا الشكل أن الصحيفة الأسبانية «El Mundo de Alycia» أعادت نشر مقطع من حوار برتولوتشي على موقعها الإلكتروني مضيفة إليه ترجمة باللغة الأسبانية، ونشر هذا المقطع في اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة (25 نوفمبر/تشرين الثاني).وبحسب تقرير الواشنطن بوست، فإن الصحيفة الأسبانية كسرت، لأول مرة، قدسية المخرج العظيم عند محبي الفن السابع، الذين حاولوا التغافل عن هذا التصريح في السابق، وتعاملت الصحيفة مع هذا الفعل على أنه مثال صريح وواضح على العنف ضد المرأة.


ردود الفعل

أدت إعادة نشر مقطع برتولوتشي في الصحيفة الأسبانية إلى ردود فعل عنيفة، فقامت العديد من الصحف بإعادة نشر الموضوع بعناوين مُدينة للمخرج مثل «برتولوتشي يعترف أنه تآمر لتصوير مشهد الاغتصاب بدون موافقة ماريا». وفي هوليود عبّر بعض صناع السينما عن غضبهم في تغريدات على موقع تويتر، حيث قالت المنتجة والمخرجة «أفا دوفرناي»؛ «غير مبرر، كمخرجة بالكاد أستطيع أن أفهم، ولكن كامرأة أشعر بالرعب والانزعاج، أنا غاضبة من ذلك». وعبّر الممثل «كريس إيفانس» عن غضبه قائلاً «رائع، لن أستطيع النظر للفيلم أو برتولوتشي أو براندو كما كنت أنظر لهم في السابق، هذا أكثر من مثير للإزعاج، أنا حقًا غاضب».

لم يتحمل برتولتشي كل هذه الضغوط، فأصدر بيانًا باللغة الإيطالية وضح فيه الأمر قائلاً: «أود للمرة الأخيرة توضيح سوء الفهم السخيف والذي يستمر في التفجر في التقارير الصحفية. منذ سنوات عديدة طلب مني سينمائي فرنسي بعض التفاصيل عن مشهد الزبدة، كنت محددًا ولكن ربما لم أوضح بشكل جيد، أنا وبراندو لم نبلغ ماريا باستخدام الزبدة، أردنا منها رد فعل تلقائي ففعلنا شيئًا غير سليم، وهذا هو ما سبب سوء الفهم.»وأضاف: «بعض الأشخاص يعتقدون ويفكرون أن ماريا لم تكن على علم بالعنف في المشهد، هذا غير صحيح، ماريا تعرف كل شيء لأنها قرأت النص والذي كان موضحًا لكل شيء، باستثناء تفصيلة الزبدة، وهذا ما علمت بعد سنوات عديدة أنه أساء لماريا، وليس العنف الذي في المشهد».يذكر أن الممثلة ماريا شنايدر كانت قد تحدثت عن هذا المشهد في حوار أجري معها في صحيفة «الديلي ميل» عام 2007، قالت فيه؛ «شعرت بحزن شديد لأنني كنت أعامل كمؤدية جنس، أردت أن يتم الاعتراف بي كممثلة، ولكن الفضيحة الكبيرة التي حدثت في الفيلم حولتني لمجنونة قليلاً وسببت لي الانهيار». وأضافت «لأكونَ صادقة شعرت بأنني ذليلة، شعرت كأنني اغتُصبت نوعًا ما من براندو وبرتولوتشي على حد سواء، بعد المشهد لم يواسني براندو أو يعتذر لي، لحسن الحظ صُوّر المشهد مرة واحدة». لعل هذه القصة التي أصبحت حديث الأوساط الفنية في الغرب تطرح قضية حدود المخرج في تعامله مع الفنانين وأجسادهم، وهل يجوز أن يستغل المخرج أجساد الممثلات، أو وضع طاقم العمل تحت ضغط نفسي وعصبي قد يؤثر عليهم بقية حياتهم من أجل سعيه للكمال؟