في عام 1935 كتب والتر بنيامين مقاله الشهير «العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج الميكانيكي» تناول فيه طبيعة نسخ العمل الفني وكيف خسر أصالته والهالة التي تحيط به لكنه جنى إمكانيات جديدة للعرض وإعادة الاستخدام، ترتبط فكرة النسخ باختراع الفوتوغرافيا والفيديو والتسجيل الصوتي فأصبح العمل الفني لا يرتبط بمكان أو زمان معينين بل يمكن نقله والتلاعب فيه، يضيف الناقد جون بيرجر على أفكار بينيامين في حلقات تليفزيونية بعنوان طرق للرؤية 1973 وبسبب كونها مصورة يصبح المحتوى أكثر تعقيدا فنحن أمام عمل مصور يتناول تصوير الأعمال الفنية، يعطي بيرجر أمثلة على فقدان العمل الفني حصريته ومرجعيته التاريخية عن طريق إعادة الإنتاج والنسخ وكيف يكتسب معاني جديدة حسب السياق الذي يوضع فيه، فالعمل الفني يمكن أن يكون منسوخ داخل كتاب أو معروض في التلفزيون أو حاليا منشور على مواقع التواصل الاجتماعي.

في حالة الأفلام فإنها عمل فني مصنوع بالأساس عن طريق التسجيل الصوتي والتصوير السينمائي فهي تملك وسائل نسخها في جوهرها، وفي وقتنا هذا يمكن إخراج الفيلم من سياقه لاستخدامه في صنع محتوى كوميدي أو عاطفي على الانترنت، عن طريق تحويله من صورة متحركة إلى مجموعة من الصور الثابتة عادة ما تصاحبها اقتباسات قيلت على ألسنة الممثلين، أحيانا يتم دمج صورة ما من أحد الأفلام مع إقتباس من فيلم آخر أو اقتباس من الفيلم ذاته لكن الصورة لا تمثل اللحظة التي قيلت فيها بل يصل الأمر إلى تأليف اقتباسات جديدة أو اضافة كلمات تعزز المعنى وتصبح الكلمات الجديدة المضافة هي المحفورة في العقل الجمعي نظرا لتحلل الفيلم إلى وحدات لغوية مستجدة غير متعلقة بتاريخه نفسه.

من أكثر الصور انتشارا صورة لسناء جميل تتصدر خلفية مظلمة يصاحبها اقتباس ينسب إلى فيلم اضحك الصورة تطلع حلوة، ما يجعل ذلك الفيلم تحديدا مثير للاهتمام كونه أحد علامات الثقافة الشعبية على الانترنت هو أنه يأخذ من الصورة وما تمثله موضوعا له من الأساس.

اضحك الصورة تصبح غيرها

يتعامل مستخدمي الانترنت في مصر مع قابلية إعادة الإنتاج تلك ونزع السياق بحرية مطلقة، خاصة في تناول الأفلام، يتم تجريد كل شيء من سياقه حتى يصبح هنالك عالم من الصور التي تحمل دلالات تكونت عن طريق كثرة الاستخدام.

لكن الطريقة الحالية التي نتناول بها العمل الفني كوسيلة للتعبير عن حياتنا بشكل كوميدي أو عاطفي ليست مجرد استنساخ بل هي اقتطاع للصور والكلمات وتزييفها عن عمد أحيانا أو عن جهل في أحيان أخرى، يتغذى محتوى مواقع التواصل الاجتماعي المصرية على صور الأحداث الجارية من مباريات كرة قدم أو مشاهد سياسية أو فنية لكنها أيضا تعيد تدوير الافلام قديمها وحديثها، تنزع عنها هالة القداسة الفنية اذا اعتبرت كذلك أو تكسبها شهرة مستجدة وتعيد اكتشافها وتخلق لها جمهورا جديدا.

تنقسم صناعة المحتوى الذي يستخدم لقطات الأفلام إلى محتوى كوميدي وعاطفي، تقع بعض الأفلام في فئة صنع الصور الكوميدية والتعقيب على المواقف وغالبا ما تكون أفلام كوميدية في الأصل فلم يخرج استخدامها عن هدفها الأصلي، لكن بعض الأفلام الدرامية تستخدم في صناعة الكوميديا وفي صناعة المحتوى العاطفي معا منها اضحك الصورة تطلع حلوة من تأليف وحيد حامد وإخراج شريف عرفة، على الرغم من كونه فيلم عن الصورة والتصوير الفوتوغرافي إلا أن جمله الحوارية هي التي خلدت في عصر الانترنت.

يقع فيلم اضحك الصورة تطلع حلوة في جانبي صناعة المحتوى المرئي الكوميدي والعاطفي لكنه يستخدم بشكل أكبر في هيئة محتوى يقوم على تضخيم المشاعر الانسانية وتشبيعها وربما ابتذالها أحيانا، تستخدم نفس مشاهده الايقونية للمزاح أحيانا ولاجترار الأحزان أحيانا أخر، نجد جملة «احنا صغيرين أوي يا سيد» على لسان سناء جميل في السياقات الكوميدية والجدية وخطاب العهد الذي يتلوه أحمد زكي في المشهد الختامي للفيلم كذلك إما يستخدم بكليته كتدليل على قيمة الحب، أو تحور كلماته بأخرى تجاري أيا كان الحدث الذي يشغل الرأي العام وقت استخدامه، والجملة الأكثر استخداما «القلقان عمره ما يتبسط يا سيد»، ينشرها العديدون على صفحاتهم رغم بديهيتها، فالجميع قلقون والسعادة النقية تبدو هدف صعب المنال خاصة في أوقات آنية تلقي بأسباب القلق واحد تلو الاخر في وجوه الجميع.

تملك الاقتباسات الشهيرة من الفيلم سمة يمكن وصفها بالاستضعاف او التهميش، أو حتى وصفها بالطيبة والعاطفية المفرطة فالفيلم نفسه يعلي من قيمة النبل والأخلاق ويرى معنى الحياة في اللحظات الصغيرة وفي محاولة الابتسام رغم الألم، الفيلم نفسه ذو شعبية كبيرة بسبب طبيعته الدافئة وأداءات ممثليه الكبار ذوو الجماهيرية الجارفة، لكن يوجد نوع من سخرية القدر في كونه أحد الأفلام التي تغلغلت في الثقافة البصرية الشعبية المصرية فهو نفسه يأخذ من الصورة مجازا لحكايته عن الرضا والاستمتاع بمتع الحياة البسيطة.

الصورة كمفتاح لمعرفة الذات

عايزين صورتنا تبقى حلوة

يعمل سيد (أحمد زكي) كمصور فوتوغرافي في استوديو صغير دافئ يحب زبائنه ويحبونه ويسعى لأن يغادروا عدسته في قمة رضاهم عن النتائج، يؤمن سيد أن رضا الإنسان عن صورته الفوتوغرافية هي مسبب أساسي للسعادة ويجد أن وظيفته من أصعب الوظائف الممكنة لأن مهمته هي زرع ذلك الرضا حتى إذا وصل الأمر إلى التلاعب بالنتائج لكي ينظر الشخص إلى صورته بحب وفخر، ينتقل ذلك الإيمان بقيمة الصورة والرضا عنها إلى رؤية الانسان لذاته، صورته الداخلية وكيف يرى نفسه، تمتد فلسفة سيد الراضية عن الذات لتجاهل الصورة الخارجية أو ما يراه الناس ويعتقدونه، فالمظاهر والماديات ليست ذات أهمية إذا كان القلب مطمئن وراض عن خياراته.

لا يتعامل سيد مع طبقات أخرى أكثر ثراء إلا من خلال بعض ضيوف الاستوديو المرموقين فهو وأسرته ذوو خلفية بسيطة ماديا واجتماعيا تتلخص قيمة حياتهم في حبهم واهتمامهم ببعضهم البعض، لكن يتغير ذلك عندما ينتقل إلى القاهرة وتبدأ ابنته تهاني (منى زكي) بالوقوع في حب فتى ثري ابن رجل أعمال شهير، مع ذلك الصدام الاجتماعي يتم تحميل الصورة بدلالات ومعاني أكبر وتبدأ حياة الاسرة البسيطة في مواجهة تعقيدات لم يحسب لها وتهتز صورتهم عن أنفسهم لصالح التحدي الذي يواجهونه.

تتكرر على ألسنة الشخصيات بشكل مباشر فكرة أهمية الصورة الخارجية أو الذاتية، تضع تهاني الابنة المراهقة الجميلة الصورة التي تصدرها للناس كأولوية، تخجل من ذكر وظيفة أبيها وتريد أن تكون «صورتها كويسة» أمام أهل الشاب الثري الذي تحبه، عكس سيد المتسق مع ذاته الذي لا يرى أي قيمة فيما يجافي مبادئه وينبع تقديره لذاته من الصورة التي يرسمها هو عنها وليس الآخرين، لكنه على دراية كاملة برغبة الناس في حوز القبول المجتمعي، في الحصول على الحب والإحترام، لذلك عندما يترك مقر عمله لخليفته ينصحه بأن يصادق الزبائن ويحرص على رضاهم لأن «مفيش حاجة تسعد الناس غير انها تشوف صورتها حلوة».

وظيفة سيد تساعده على توثيق أقرب اللحظات لقلبه والوجوه التي يريد تذكرها، في التسعينيات وقت صدور الفيلم لم يكن التصوير الفوتوغرافي بذلك القدر من الإتاحة كان يقتصر على المناسبات المهمة، لكن التوثيق هو جزء رئيسي من الحياة الحالية، ليس حدثا أن يأخذ أحدهم صورتك بل تلتقطها بنفسك دون عمليات تقنية أو كيميائية وتشاركها على الفور، لا تملك نفس القيمة العاطفية وتخدم ما هو أكثر من مجرد التوثيق فتتماهى الصورتين الفوتوغرافية والمعنوية فالصورة التي تنشرها هي الصورة التي تصدرها عن نفسك وتحدد مكانتك الاجتماعية ورؤية الآخرين عنك، في وقت وقوع أحداث الفيلم لم تملك الصور هذا القدر من التدليل عن الحياة الداخلية لذلك تبدو كل الشخصيات مهمومة برسم صورة لنفسها على أرض الواقع.

عندما تنطق والدة سيد عبارتها الشهيرة «احنا صغيرين أوي يا سيد» تكون في ذروة انسحاقها أمام ضخامة الآخرين، انهزام كامل أمام ما يمكن أن تحصل عليه هي وابنها وحفيدها فقط لو كانت إمكانيتهم أكبر، نقودهم أكثر أو نفوذهم أعلى، لكن سرعان ما يقابل سيد رؤيتها المنكسرة برؤيته الشامخة فهو لا يرى تلك الضآلة بل يرى أن كلاهما كبيرا يعاني في تقدير صورة ذاته الحقيقة، يتعامل سيد بتلك العقلية الراضية مع كل صعوبات الحياة، ويلفظ أي محاولة لإقحام صورة لم يختارها عليه لأنه على دراية كاملة بأن نبل أخلاقه وكبريائه يكفونه ليرضى عن صورته.

النبل في مواجهة العالم

احنا صغيرين أوي يا سيد

يعتمد الفيلم سردية متكررة في السينما وهي نبل الفقراء في مقابل فساد الأغنياء، لا يملك الفقير من ماديات الدنيا الكثير لكنه يملك مبادئ لا تتجزأ وأخلاقيات راسخة وقدرة على تقدير ما يهم في الحياة، يعبر سيد عن منظومته الأخلاقية عن طريق وظيفته فيتمسك بالاحتفاظ بسرية عملائه، ولطفه مع الآخرين وحرصه على تربية ابنته والبر بوالدته لكنه ليس ساذجا فهو قادر على مواجهة العنف بالعنف ومجابهة الظالم.

فيلم اضحك الصورة تطلع حلوة لا يتناول قضايا كبرى بشكل مباشر كعادة أفلام وحيد حامد، لا توجد به صراعات مصيرية لكنه يملك تبطينات سياسية تتعلق بتوزيع الثروات وطبيعة الصراع الطبقي وذكريات النكسة والتهجير، تحضر النكسة بشكلها الحرفي كهزيمة عسكرية وسياسية لكنها أيضا هزيمة شخصية تتمثل في فقر وقلة حيلة كل من سيد ووالدته وانهزامهم أمام مجتمع لا يرحم، تتسم الشخصيات الرئيسية بما يمكن تسميته بالطيبة، تكللهم هالة من الرضا والرقة يعكرها طموحات الابنة في حياة أفضل متمثلة في تعليم عالي مكلف وزواج ممن أحبه قلبها والذي تصادف أنه يبعد عن مستواها الاجتماعي أميال.

في النهاية تتعلم تهاني دروسا عن الحياة بعد انكسار قلبها، وتتأكد رؤى سيد عن نفسه وعن العالم لكنه الآن يملك قوة إضافية تتمثل في الحب الذي يكنه لنوسة (ليلى علوي) وكيف بعد أن كان هو مصدر العطاء لمن حوله وجد أخيرا من يغذيه من ذلك الحنان والرقة، يتعلم طارق (كريم عبد العزيز) حبيب تهاني أيضا الوقوف في وجه سلطة أبيه ويبقى الشر الوحيد متمثل في النفوذ المادي الذي يمثله والد طارق (عزت أبو عوف)، تتجلى رؤية سيد النبيلة في خطابه الشهير أمام الجميع في زفاف طارق، يخطب سيد في جمع من الأثرياء المهووسين بالمظاهر عن قيمة الكلمة، الكلمة كعقد معترف به، يعلي سيد من قيمة الحب في عالم لا يرى قيمة إلا في المادة، يبدو سيد متسلحا بالكاميرا في يده معظم الوقت، كذريعة لاختراق طبقات أعلى منه، وكأداة تجعله يثبت اللحظة التي يختارها في الوقت الذي يختاره وتذكره بما يهمه.

لا يأخذ الفيلم الشر بجدية كاملة، بالطبع يتعرض أبطاله للأذى لكنه يختار اتجاه خفيف يدفئ القلب ويرى جمال في تفاصيل الحياة الصغيرة، في صورة فوتوغرافية يلتقطها والدك في أول يوم دراسة جامعية، في كلمة حانية من محب وفي النظرة المتفائلة التي يصبغ بها سيد حياته فهو يرى أن مجرد الابتسامة سوف تجعل صورتنا حلوة أمام أنفسنا وأمام الآخرين.