«تومي إديسون – Tommy Edison» هو رجل بريطاني كفيف منذ الميلاد. يحدثنا إديسون عبر يوتيوب عن الحياة بدون ضوء. بالنسبة إليه كشخص لم ير أي شيء على الإطلاق، فإنه ليس لديه مفهوم للألوان مثل المبصرين. وعلى الرغم من أنك قد لا تنتبه كثيرًا لقدرتك المستمرة على رؤية الأشياء، إلا أن مشاهدة تومي متعجبًا سوف تنبهك فورًا لحاسة البصر، تلك التي تمكنك من رؤية شيء قد يكون بعيدًا عنك عشرات الأمتار أو عشرات الكيلومترات، أو – كما في حالة النجوم – بلايين السنوات الضوئية.

أما نحن فأشخاص محاطون بالألوان والأضواء، نَتَعَرفهم ونتعلم منهم منذ لحظاتنا الأولى، نصنفهم كأعلام للبهجة أو الحزن، نربطهم بمواقف وأشخاص وقد لا نتخيل حياتنا من دونهم. لكن ربما كان تومي محقًا، فكم هو غامض مفهوم الألوان. ما هي طبيعتها ولماذا نراها بهذا الشكل؟ لماذا نراها على الإطلاق؟

بداية، يجب ألا نخلط بين اللون والضوء المسبب له. فالألوان هي فكرة تنشـأ بالكامل داخل رؤوسنا. هذه الطبيعة حولنا بأشجارها وبحيراتها، كل تلك الألوان في قوس قزح لا يمكن أن توجد في عالم بلا عيون تحس بها وبلا عقول تفسرها، بينما موجات الضوء نفسها موجودة سواء استطعنا رؤيتها أم لا، هي – كقوة الجاذبية أو المادة – موجودة بدوننا.

لكن، من أين يأتي الضوء؟

الطيف الكهرومغناطيسي، من الأقل طاقة – موجات الراديو، إلى الأعلى طاقة – آشعة جاما

الضوء هو موجة كهرومغناطيسية تتحرك بسرعة ثابتة تقدر بحوالي 300 ألف كيلومتر في الثانية (في الفراغ)، ولكل موجة طول موجي وتردد يعتمدان على طاقتها، فكلما زادت الطاقة ازداد ترددها وقل طولها الموجي والعكس بالعكس. وكل الأجسام التي لها درجة حرارة تزيد على الصفر المطلق (-273سيليزيوس)، فإنها تشع مختلف الموجات الكهرومغناطيسية والتي تسمى إشعاعًا حراريًا (Thermal Radiation).

اقرأ أيضًا:وسيط المعلومات الكوني: ما هو الضوء؟

تعتمد كميات الإشعاع المختلفة الصادرة عن الجسم على درجة حرارته، فالشمس يصدر عنها أشعة بداية من أشعة الراديو والميكروويف ذات الطول الموجي الكبير وحتى أشعة إكس ذات الطول الموجي القصير والطاقة العالية جدًا، لكن لأن درجة حرارة سطح الشمس 5700 سيلزيوس، فإن معظم الأشعة الصادرة عنها تقع في منطقة ذات طاقة أقل من الأشعة «فوق البنفسجية» وأكبر من «تحت الحمراء» والتي تسمى بالضوء المرئي، ذلك أن هذا الجزء من الطيف هو الذي يستطيع البشر رؤيته، لكن كيف يحدث هذا؟


كيف نرى؟

الضوء الذي يصدر عن الشمس أو المصباح يسمى بالضوء الأبيض، وهو خليط من كل أطياف الضوء المرئي ذات الأطوال الموجية بين 400 – 700 نانومتر. وبالنظر إلى الضوء كموجة، فإن له كل خصائص الموجات من انعكاس وانكسار وتداخل وتشتت. تعتمد هذه الخصائص على نوع الجسم الذي تسقط عليه الأشعة، ففي حالة الزجاج الشفاف تمر معظم الأشعة منه بينما يُمْتَص ويَنْعكس القليل جدًا منها. يختلف الأمر عندما يسقط الضوء على عين بشرية حيث يدخل شعاع الضوء عن طريق البؤبؤ (pupil)، ومنه إلى العدسات (Lens) التي توصل الضوء إلى الشبكية (retina)، هناك حيث يبدأ السحر!

تقع الشبكية خلف مقلة العين (Eye ball) وتتكون من ثلاث طبقات. أولها طبقة من الخلايا الحساسة للضوء وتسمى مستقبلات ضوئية (Photo receptors) وهي المسؤولة عن عملية الرؤية حيث تنقسم إلى نوعين: مستقبلات عصوية (Rods) وهي تعمل في الإضاءة الضعيفة لتميز وجود الضوء أو عدمه فقط، لكنها لا تميز أي ألوان. لهذا عندما تكون الإضاءة خافتة، فإننا لا نرى سوى أشباح من الأسود ودرجات الرمادي.

النوع الثاني من المستقبلات الضوئية هو المخروطية (Cones)، وهي المسؤولة عن رؤيتنا للألوان. ولها ثلاثة أنواع: الحساسة للأطوال الموجية الطويلة (الأحمر) والمتوسطة (الأخضر) والقصيرة (الأزرق)، لكنها لا تعمل سوى في إضاءة كافية للعين البشرية. هذه المستقبلات تعمل مجتمعة للإحساس بأطوال موجية محددة تبدأ من الأحمر ذي الطول الموجي الكبير وحتى البنفسجي الذي يملك أصغر طول موجي يمكن للعين رؤيته.

الفص القذالي باللون البني المسؤول عن معالجة الرؤية

خلال الطبقة الثانية من الشبكية تتحول موجات الضوء إلى نبضات كهربية ثم تمر خلال الطبقة الثالثة إلى «العصب البصري – Optic nerve» ومنه إلى «الفص القذالي – Occipital lobe» في المخ حيث يتم التعرف على الألوان بالإشارات المرسلة من المستقبلات المخروطية، لكن إذا كانت هذه المستقبلات حساسة لثلاثة ألوان فقط، فكيف نرى كل هذا العالم من الألوان بمختلف درجاتها؟


خلط الألوان

من منا لم يحب حصة الرسم؟ حيث بإمكاننا خلط الأصفر والأزرق ليعطي أخضر، الأحمر والأخضر ليعطي بنيًا، وفي النهاية عندما تختلط جميع الألوان يظهر الأسود.

حسنًا، الأمر ليس كذلك دائمًا، فالضوء داخل عيوننا يخضع لنظام خلط يعود لخصائص الضوء والذي يسمى نظام «الألوان الجمعية – Additive color». فهي تبدأ باللون الأسود الذي يعني غياب الضوء كليًا، وبإضافة أطياف مختلفة فإن النتيجة هي لون أفتح. عندما تخلط ضوءًا أحمر وضوءًا أخضر فإن الناتج هو ضوء أصفر وليس بنيًا. في النهاية عندما تختلط جميع الألوان فإن النتيجة هي الضوء الأبيض.

على العكس منها توجد «الألوان الطرحية – Subtractive color» مثل ألوان الدهان والأحبار والصبغات وهي تبدأ باللون الأبيض. فالصبغة البيضاء على جسم تعني أن كل أشعة الضوء انعكست عنه ولم يتم امتصاص أي منها، مما يعني وصول كل هذه الأشعة إلى عيوننا. بإضافة الألوان تباعًا يصبح لون الجسم أغمق حيث يمتص المزيد من مختلف أطياف الضوء ويبقى القليل ليصل إلينا، وبالتالي يظهر الجسم باللون الذي لم يستطع امتصاصه.

في النهاية عندما يظهر الجسم باللون الأسود فإن هذا يعني أن الجسم قد امتص كل أشعة الضوء الأبيض المختلفة. وعلى ذلك فإن الجسم الأسود لا تنعكس عنه أي أشعة. كيف نراه إذن؟ الحقيقة أن الجسم الأسود المثالي من غير الممكن رؤيته، بينما كل الأجسام السوداء حولنا ليست مثالية، بل تعكس القليل جدًا من الأشعة.

جسم مطلي بمادة Vantablack يظهر كأنه فراغ، حيث تقترب الصبغة من اللون الأسود المثالي

في الواقع فإنه نادرًا ما نتعرض لألوان جمعية أو طرحية فقط. فنحن محاطون بالنوعين طوال الوقت. فأنت تلاحظ كيف تتغير ألوان الأجسام بتغير الضوء الواقع عليها بدون أي تغير في صبغة الجسم ذاته.

فمثلًا ظهور جسم باللون الأحمر في إضاءة بيضاء يعني أنه امتص جميع الأشعة ماعدا ذات الطول الموجي المعادل للون الأحمر. لكن هناك حالة ثانية هي عندما يكون الضوء الوحيد الساقط عليه هو ضوء أحمر. في هذه الحالة فإنه – مهما كان لون الجسم – فإنه يظهر بحسب درجة امتصاصه للضوء، فعند انعكاس الضوء عنه، يظهر الجسم بدرجات مختلفة من اللون الأحمر أما عند امتصاصه للضوء فإنه يظهر باللون الأسود.


ألوان خادعة

لون أسود, الرؤية, فيزياء الضوء
هذه الصورة تحتوي على 16 مليون بيكسل، كل منها يمثل درجة لون مختلفة

بين كل هذه الألوان، تنهض المستقبلات المخروطية داخل عيوننا للعمل، لكنها – كأي آلة – من السهل خداعها. فهي تخلط هذه الألوان بحسب شدة إضاءة كل منها. فعندما يسقط شعاع أصفر لا يمكنها التعرف عليه مباشرة لأنه لا يوجد مخروط مسؤول عن الاحساس بالأصفر، بل يمكن للمخروط المسؤول عن اللون الأخضر الإحساس بوجود «شيء ما فيه درجة أصفر» وكذلك يفعل المخروط المسؤول عن اللون الأزرق.

في النهاية يتم إرسال إشارتين إلى المخ بوجود أزرق وأخضر، هذا يعني في لغة الضوء الجمعية لونًا أصفر. إذن ما الفرق بين شعاع ضوئي ذو طول موجي أصفر، وشعاعين أخضر وأزرق مجتمعين؟ في الواقع.. لا فرق على الإطلاق!

لا يمكن للعين الطبيعية التفرقة بين ضوء أصفر وبين ضوءين أخضر وأزرق متعاقبين بسرعة. لإثبات ذلك ما عليك سوى متابعة ما تفعله الآن: النظر إلى الشاشة لكن إلى الركن العلوي أقصى اليمين حيث تجد كلمة «إضاءات» وفوقها صورة لهب بدرجات مختلفة من الأصفر، آسفة أن أخبرك أنه ليسا أصفر على الإطلاق بل مجرد حيلة من الشاشة، فأنت لا ترى سوى مزيج من الأخضر والأزرق لكن بأحجام صغيرة للغاية تسمى بكسل (Pixel) .ولأن عينك لا تستطيع التعرف عليهما في هذه المساحات الصغيرة فيتم جمعهما للحصول على الأصفر الذي تراه، لكن هل هو نفس الأصفر الذي أراه؟

أحد صور اختبار إيشيهارا للألوان

يمكن للعين البشرية الطبيعية التعرف بسهولة على رقم (74) في الصورة أعلاه. إن كنت لا تراها أو ترى بدلا منها (21)، فأنت مصاب بأحد أنواع «عمى الألوان – Color Blindness». يحدث ذلك نتيجة خلل بوظيفة المستقبلات المخروطية الخاصة بالأطوال الموجية الطويلة والمتوسطة ويعاني منه 5% من سكان العالم، مما يعني أن هناك مئات الملايين الذين لا يستطيعون التفرقة بين الأحمر والأخضر في إشارات المرور، أو الذين يرون زهرة البنفسج زرقاء اللون.

لكن هذا لا يعني أن غير المصابين بعمى الألوان يرون نفس درجات الألوان، فلا يمكن التأكد أن خلايا المستقبلات الضوئية في عين كل منا لديها نفس الحساسية أو أن مخ كل شخص يفسرها بنفس الطريقة، فرغم أن ما يسقط على عيوننا هو شعاع الضوء ذاته، لكننا -في النهاية – محبوسون داخل أجسادنا.