لعله يكون ضربا من الملهاة (الكوميديا)، بل والعبثية، أن يمسك كاتب بيراعه ويبسط بين يديه لوحه ليخط بيمينه ما يعلم يقينا أن قبائل من بني آدم قد سبقته إليه، وهو خاطر لا يمكن أن يصرفه الإنسان عن نفسه، ووسوسة لا يملك أن يدفعها، حين يحاول أن يقول قولا في مسألة لم يزل الناس فيها فريقان يختصمان، ولم يزل يتقدم من كل فريق من يقيم حجته على وجهها. فأي قول يمكن أن يقال ثمّ، وأي دفع يمكن أن يوضع إذا قال قائل: ما ترك الأوائل للأواخر؟!

لكننا إذ نفكر هنا في مسألة مشروعية رجم الزاني إذا كان محصنا -أي سبق له الزواج [1]– فإننا لا نقصد بالأساس إلى الخروج بقول من القولين فيه سواء بكونه شريعة يهودية منسوخة أو شريعة إسلامية محفوظة؛ بل إلى الخروج بقول في الدين كله بما هو دين. وقد أنجزنا في تلك المقالة نتائج نقدمها كي لا يمل القارئ من قراءة كلام ربما عرض إليه من قبل، أو أن يغفل عنها في غمار الكلام:

الأولى هي إعادة اكتشاف المفهوم القرآني للإحصان، وأن الإحصان في القرآن ليس سوى العفاف، ولا يدخل فيه الزواج إلا كعلامة في حق الإماء.

وأما الثانية وهي الأهم، فهي أن الوعي الديني يتطور من دين إلى دين، ويتطور من جيل إلى جيل في فهم الوحي الذي هو مطلق أبدي، ومن ثم فلا حاجة إلى التزام ما ذهب إليه السلف وإن أجمعوا، فلربما كان القول غير ممكن لهم في حدود عدتهم المفاهيمية. وقد ساعدنا ذلك على تأويل قوله تعالى «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا» تأويلا أشد جِلاء مما يذهب إليه كثير من المفسرين [2].


بلورة الإشكال: الرجم متواتر في السنة ومستحيل في القرآن

الرجم في القرآن وقول في المفهوم القرآني لـ «الإحصان»

لم يختلف في ثبوت حد الرجم أحد من السلف سوى الخوارج وبعض المعتزلة، بينما ذهب إلى ذلك بعض المعاصرين، وعلى رأسهم الشيوخ محمد أبو زهرة ويوسف القرضاوي وطه جابر العلواني. وقد ذهبوا إلى أن آية الجلد في سورة النور: «الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة…» عامة في الزاني أكان محصنا أم لا كما يدل لفظها العام وسياقها. وهي ناسخة لحد الرجم الذي كان شريعة يهودية أعملها النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت الشريعة القرآنية. بل وذهبوا إلى كون القرآن ينفي الرجم مباشرة، وذلك في قوله تعالى في سورة النساء عن الأمة إذا تزوجت: «فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب». والرجم لا ينصف، وإنما ينصف الجلد.

لكن أجاب المخالفون على هذه الآية بأن المقصود بـ «أحصن» أي تزوجن، أما المقصود بـ «المحصنات» فهن النساء الحرائر قاطبة، سواء كن متزوجات أم لا. وهو رد ضعيف من جهتين: الأولى: أنه يصعب أن تأتي الكلمة الواحدة في الآية الواحدة بمعنيين، مرة بمعنى الزواج، ومرة بمعنى العفة. والثانية: أن الآية تفترض إذن أن على كل المحصنات نفس الحد، أي الجلد، ولا مكان للرجم.

والأصح أن الإحصان في الآية هو بمعنى واحد: وهو العفة. أما إحصان الأمة فهو تعففها عبر الزواج، لأن الإماء كن يجبرن من قبل أصحابهن أحيانا على الزنا، فقال الله تعالى: «ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا…». فيكون معنى الإحصان طلب العفة، ويثبت في حق الأَمَة حد الرجم إذا أحصنت، أي ثبت امتناعها عن الزنا، وعلامة ذلك في حق الأَمَة: الزواج. فيكون الإحصان في القرآن كله بمعنى واحد، وهو ما يناسب إحكام اللغة القرآنية، ويناسب كل هذه السياقات ويرفع اللبس؛ لا أن تأتي كلمة الإحصان في كل آية بمعنى.

الرجم في السنة

(1) حديث عبادة بن الصامت

إن أول ما يستدل به من السنة على الرجم هو حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وعلى الرغم من صراحة هذا الحديث إلا أنه يحمل تناقضا واحدا على الأقل: فقد ذهب الجمهور، ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي، إلى أن الجلد لا يجتمع إلى الرجم في حق الزاني خلافا لهذا الحديث، واستدلوا على ذلك بتواتر الوقائع بكون النبي صلى الله عليه وسلم قد رجم دون أن يجلد. ولم يخالفهم سوى أحمد [ابن حنبل] في رواية عنه (ووافقهم في أخرى) والذي ذهب إلى إعمال صريح هذا الحديث.

وهذا المذهب يُلزِم من ذهب إليه بالاعتراف بأن كل رجم رجمه النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان قبل آية النور، لأن كل وقائع الرجم الثابتة لم يكن فيها جلد، اللهم إلا واقعة رواها أبو داود عن جابر بن عبد الله الأنصاري، والراجح أنها لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وليست صريحة في اجتماع الجلد إلى الرجم، وإنما فيها أن رجلا اعترف بالزنا فجلد، ثم أخبر أنه محصن فرجم، أي أن القاضي سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم أم أحد من خلفائه وأصحابه أو نحو ذلك لم يجمع له الجلد إلى الرجم ابتداء.

لم يسلم الشق الأول من الحديث أيضا، فقد ذهب الأحناف إلى أن البكر يجلد ولا ينفى خلافا للحديث، ورُروي نحو ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما.

(2) آية الرجم

في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر فقال: «إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها. رجم رسول الله ورجمنا بعده…». وقد رُوي عن أُبيّ بن كعب أنها كانت: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم».

وإذا كان قول عمر ثابتًا عنه صحيح النسبة إليه، إلا أن هذا النص المروي عن أُبيّ ليس كذلك؛ وربما تفيد دراسته ألسنيا بيان أنه يخالف النص القرآني كله لغويا وأسلوبيا. ففيه ترد كلمة «البتة» التي لم ترد في القرآن قاطبة، وكذلك تأنيث وصف «الشيخ»، أما لفظ الشيخ نفسه فلم يستعمل بمعنى الزوج، وإنما بمعنى العجوز كبير السن كما في وصف زكريا عليه السلام والرجل الصالح من أهل مدين الذي استضاف موسى عليه السلام. هذا فضلا عن أن رفع الآية من القرآن مع بقاء حكمها أمر مثير للعجب.

لكن هل كان عمر إذن كاذبا -حاشاه-؟ ما ينم عنه السياق هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالرجم، وربما قال في ذلك كلاما صريحا، وربما ظنه بعض الصحابة رضي الله عنهم آية في القرآن، خاصة وقد شهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم العديد من وقائع الرجم. وربما يساند أن نسبة آية بالرجم إلى القرآن هو وهم من بعض الصحابة رضي الله عنهم، أن عليا رضي الله عنه لما رجم قال: أرجم بسنة رسول الله. ولم يشر إلى آية قرآنية مرفوعة.

(3) لم يرجم النبي صلى الله عليه وسلم بعد آية النور

ليس هناك دليل صريح إذن في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رجم بعد آية النور، أو أحله بعدها كما في حديثه صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»؛ سوى ما استدل به الحافظ ابن حجر من أن أبا هريرة أحد رواة حديث رجم ماعز، الذي اعترف بالزنا فرجمه النبي صلى الله عليه وسلم، إنما أسلم بعد نزول آية النور. غير أن هذا الاستدلال ليس بالقوي، إذ أن من المعلوم أن أبا هريرة يُدلِّس، أي ينقل الحديث عن غيره دون أن يذكر أنه نقله عنه، وهذا يعني أن الواقعة ربما تكون قديمة، ولكن نقلها أبو هريرة بعد إسلامه وقدومه المدينة. وقد سئل عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم أكان قبل آية النور أم بعدها؟ فقال: لا أدري.

بعد هذا كله يبقى الإشكال: لقد رجم الصحابة رضي الله عنهم، وفهموا أن الرجم غير منسوخ، فكيف نخالفهم؟


من اليهودية إلى الإسلام: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا

التجربة الموسوية

لقد وصف الله عز وجل شريعته التي أوجبها على بني إسرائيل بأنها من «الإصر والأغلال» وصرّح بأنه حرم عليهم «طيبات أحلت لهم» أي حرم عليهم طيبات بعد أن كانت حلال؛ خلافا لطبيعة الشريعة من أنها تحل الطيبات وتحرم الخبائث [3]. لقد كانت تلك الشريعة الشديدة، والتي تضمنت العقوبات الجسدية الصارمة عقابا لبني إسرائيل على جحودهم بعد أن أراهم الله المعجزات الحسية المباشرة التي لا يمكن بعدها جحود: منذ أن أتى موسى بالآيات التسعة، إلى أن فرق الله لهم البحر، ثم أرسل لهم الغمام والمن والسلوى، ونتق الجبل فوقهم… وغير ذلك مما امتن به عليهم.

لقد كان هذا كله في إطار وعي ديني طفولي لدى بني إسرائيل لم يكن من السهل أن يتجاوزوه؛ هو وعي غير قادر على شهود الله عز وجل الإيمان به طالما كان محجوبا عن عالم الحس المادي المباشر. لذا كانت الوثنية (وهي بداية الوعي الديني كما يصفها ميرتشيا إلياده، حيث يحل المقدس في المادي الذي يصير رمزا للمقدس) تسيطر على العقل اليهودي، فلم يكد الله ينجيهم بآية منه وهي فرق البحر، ويهلك فرعون بين ناظريهم، إلا وطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها كما للوثنيين آلهة. كانت هذه طبيعة التجربة الموسوية نفسها، وليس غريبا أنه النبي الذي سأل الله أن يريه أن ينظر إليه.

لقد أراد الله أن يعلم موسى أن المطلق الإلهي كي يتجلى في الكون، لا يحتاج إلى أن يتجسد في المادة، ولا إلى أن يخرق قوانين الطبيعة، ولا إلى أن يقهر الإرادة الإنسانية الحرة، فأرسله إلى الرجل العالم الذي أراه كيف يحقق الله إرادته في حفظ السفينة لأصحابها، وحفظ الكنز لليتامى، وحماية الأبوين الصالحين من عقوق الغلام إذا كبر، دون أن يخل الله بالسببية والقانون الطبيعي، ودون أن يجبر إنسانا ضد إرادته الحرة التي هي مناط تكليفه. بل أراد أن يعلمه أكثر من ذلك بأن أعاده إلى قصته هو نفسه: يلقى في اليم لينجو من بطش فرعون، يقتل الرجل ليخرج إلى مدين فيجيئها «على قدر». إنها العناية الإلهية التي اصطنع الله موسى بها على عينه.

لكن ظل الوعي اليهودي محصورا بالحسية المباشرة، حتى جسدوا الله («يهوه» كما في العبرية) في الشعب اليهودي واعتبروه إلها حصريا لبني إسرائيل.

الوعي القرآني

بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم بدين ليس حصريا، بل ليكون دينا للعالمين يظهره على الناس جميعا. وهو الدين الذي من المفترض أن يواجه الحضارة الإنسانية في أوج عظمتها ووعيها العلمي. لذا لم يكن ممكنا أن يأتي بمنطق المعجزات والتدخل الإلهي المباشر الذي يقهر الطبيعة والإنسان مباشرة، بل بمنطق «القدر». فالقدر هو تحقق الإرادة الإلهية عبر تفاعلها الجدلي مع القانون الطبيعي والحرية الإنسانية دون تدخل إلهي مباشر خارق. الله هنا ليس «إله فجوات» يترك الدراما الإنسانية في عبثيتها إلى أن يتدخل في لحظة تدخلا مفتعلا ليقلب مسار الأحداث. بل هو صانع تلك الدراما دون أن يتلاعب بأبطالها البشريين وبقوانين تفاعلهم الطبيعية. لقد علمنا الله ذلك في السورة الوحيدة التي كانت كلها قصة طويلة، سورة يوسف، و«الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».

لا يبحث الإنسان هنا عن مقدس متجسد، بل يشهد المطلق الإلهي شهودا إيمانيا لا حسيا في تدبر الدراما الإنسانية والكونية. إنها ذروة الوعي الديني الذي يقدمه القرآن للعالمين، لمن شاء أن يؤمن ولمن شاء أن يكفر [4].

ومع هذا التطور المنهاجي في الوعي الديني بين اليهودية والإسلام كان لا بد من تطور شريعي مواز، يخرج من العقوبات الجسدية الصارمة، إلى شرعة التخفيف والرحمة المناسبة للعالمين. وليس إذن غريبا أن تأتي الشرائع الجسدية كحد السرقة وحد الحرابة في سورة المائدة، وفي إطار الحديث عن بتر بني إسرائيل وعصيانهم. إننا هنا إذ ننفي الرجم إنما ننفيه في إطار نظرية شاملة للشريعة، بل وللمنهاج، أي النسق الديني والنظرة إلى العالم التي تحكم تلك الشريعة.


تفنيد السلفية: رجموا ولا نرجم

إذا كان الوعي الديني يتطور من دين إلى دين، فلا غرابة في أن يتطور بين أجيال في إطار دين واحد ووحي إلهي مطلق. بل إن إطلاق الوحي الإلهي لا يمكن إلا إذا كان أبديا، أي أنه لا يمكن أن يحد بفهم محدد في حقبة تاريخية محددة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن البحث عما ذهب إليه السلف لا يعود غير ضروري فحسب، بل يعود ضارا بمحاولة فهم العطاء القرآني المتجدد.

وهذا لا يعني أن السلف أخطأوا أو قصروا، بل على العكس، فالوعي الديني يتطور في تفاعله أيضا مع العدة المفاهيمية التي يكونها الإنسان في بحثه المعرفي، فنحن نستخدم اليوم مفاهيم وأدوات لم تكن تتوفر لدى السلف في علاج الموضوع. بل إن التطور القيمي الذي تشهده الحضارة الإنسانية يساعدنا في إعادة فهم النص الديني، وهنا فلا محل لاتهام قول بأنه نتاج تفاعل اعتذاري مع الغرب أو غيره، فهذا التفاعل الإنساني مع الغرب وغيره مفيد في تطوير الوعي الديني بالوحي الإلهي المطلق الأبدي. وعلى هذا: رجم السلف، ولا نرجم.


[1] للإحصان سبعة شروط عند الفقهاء: أن يكون قد وطئ في القبل من زواجصحيح وهو حربالغعاقل، فالخلاف في هذه الستة طفيف، ولكن زاد أبو حنيفة: أن يكون الكمال في كليهما، أي أن الإحصان لا يكون إلا من زواج بحر بالغ عاقل.[2] علينا أيضا أن نسجل في المقدمة، قبل كل شيء، أن ما يرد هنا من معالجة نظرية غير فقهية للموضوع، إنما هو مستفاد من أفكار الراحل السوداني أبو القاسم حاج حمد في كتابه «العالمية الإسلامية الثانية – جدلية الغيب والطبيعة والإنسان».[3] إن هذه الآيات تشير إلى واقعة مهمة جدا بخصوص العلاقة بين الشريعة والأخلاق، وتشير إلى أن الله قد يشرع تشريعا حصريا أو مؤقتا عقوبة لقوم أو فئة من الناس. ولبحث هذا الموضوع مجال آخر، لكن وجبت الإشارة، خاصة ونحن نتحدث عن حكم شرعي فيه شدة غير معتادة، ألا وهو الرجم.[4] من اللافت أن هيجل كان من أشد الناس تفطنا لهذا التطور في الوعي الديني لدى اليهود والمسلمين، لكنه أوّله تأويلا متعسفا باعتباره أن التوحيد الإسلامي النقي يفرز عداء للدنيا والحضارة ونزوعا تدميريا لدى الإنسان تجاهها. وهذا يحتاج أيضا إلى مجال آخر لتوضيحه.