تسير على شاطئ البحر وأنت تتابع انحسار الماء بعد الموج وهو يصنع «فقاقيع» بيضاء أو شفافة لامعة، يغفو الموج لكن تبقى فقاعة قائمة تقاوم نسائم البحر، والموجة التالية لا تقدر على اختراقها… تتأملها بنظرك لتجد أنها تشبهك، حتى في مقاومتها للموجة الأولى والثانية واستسلامها للثالثة، وإذا بها تتحول إلى جزء من الشاطئ الذي عُزلت عنه، فتأتي موجة رابعة لتعيد كل ما بقي إلى البحر، وينتهي أمرها… وتستمر الحياة.

لحظة… هل شعرت أن هذه الفقاعة تمثلك؟

الفقاعة

تعريف الفقاعة على وجه الدقة أمر صعب، وغالبًا ما يصعب تفسير أسبابها وطرق نشأتها حتى مع الإدراك المتأخر لكل ذلك؛ نظرًا لمرونة المصطلح، ومطاطيته، واتساع وشمولية نطاقات استخدامه، لكنه ببساطة يعني أنك منعزل عن المجتمع وتعيش في عالمك الخاص، ويُطلِق عليها البعض –تخفيفًا- «دوائر»: دائرة العمل ودائرة الأسرة ودائرة الأصدقاء… إلخ، ويمكن لأي شخص أن يخلق فقاعته ويعيش فيها ليرى من خلالها ما يدور في المجتمع واثقًا في أنه محمي تمامًا داخل فقاعته أو هكذا يظن أو يرجو.

مرونة مصطلح الفقاعة تجعله يتوافق مع جميع الممارسات؛ إذ يُستخدم سياسيًا بأن تحيط نفسك بآراء وتوجهات وأيديولوجيات تتوافق مع توجهاتك وقناعاتك، بحيث لا ترغب في الاستماع إلى الآراء أو الأدلة المخالفة، والفقاعة الثقافية تشير إلى السياق الاجتماعي الثقافي الذي عادة ما نغمر فيه أنفسنا، والهويات الاجتماعية التي نحملها، ومختلف وسائل الإعلام الدينية والاجتماعية والسياسية والقانونية التي نستند إليها، ويُستخدم بيئيًا كاستراتيجية لمواجهة التغيرات المناخية، وصحيًا بأن تخلق فقاعة آمنة تعيش فيها محميًا من الفيروسات والعدوى، واجتماعيًا بمعنى توفير احتياجاتك الأساسية بحيث لا تعتمد في توفيرها على شخص سواك، وتقنيًا بأن تحمي نفسك من الاختراق والقرصنة، وغير ذلك الكثير، اختر الممارسة وستجد فيها فقاعة ما.

وجهٌ آخر من وجوه الفقاعات هو «الأقليات»، وكذلك المغتربين الذين يعيشون غالبًا في جماعات منغلقة على نفسها (فقاعات)، فيتفاعلون فقط مع من يشاركونهم في جنسيتهم أو لغتهم، وهو ما يخلق واقعًا معقدًا داخل فقاعاتهم وخارجها، ويزداد تعقيدًا في بعض الأماكن التي يتجاوز عدد المغتربين فيها السكان المحليين، فبحسب أحد تقارير BBC، في دبي يُشكِّل إجمالي السكان الأجانب حوالي 88% من المقيمين في الإمارة، وفي قطر تبلغ النسبة 76%، ويبلغ التعقيد ذروته في المجتمعات التي لا تقبل اختلاط الوافدين، ففي السعودية قال 61% من الوافدين الأجانب إنهم يجدون صعوبة في تكوين صداقات محلية، وفي الكويت، وصف 31% منهم عملية تكوين الصداقات المحلية بأنها «صعبة للغاية».

خطورة الفقاعة

ترى الطبيبة النفسانية «ليندا سبادين»، أن الفقاعة أمر غاية في السوء؛ إذ لا تخلق حياة كاملة، كما أن سهولة تكوينها من أوجه السوء فيها، فربما تبدأ في التكوين من أسئلة بسيطة: لماذا يتعين عليّ القيام بذلك؟ لماذا لا يتوافق الآخرون مع طريقتي؟ هل الأفضل أن أصنع عالمًا خاصًا (فقاعة) تحيطني بمن يشبهونني؟ وبمرور الوقت يصبح الأمر مملًا ومصطنعًا، والتعمق فيه يكشف سوءه؛ فداخل أعماق فقاعتك أنت لا تقبل الخلاف والاختلاف، مهما كنت ديمقراطيًا على السطح، كما أنها تخلق تحيزًا إدراكيًا، واستنتاجات غير كاملة.

تبدأ خطورة الفقاعات عندما نحبها؛ لأنها تشبهنا وتشعرنا بقدرتنا على ترتيب ورسم خطواتنا؛ فنحن من نختار ماهيتها، حتى وإن أخطأنا فإنها تمثلنا بأخطائنا، كما تمنحنا الاستقرار؛ لأنها أسهل وأكثر راحة وأمانًا، أو هذا ما نؤمن به، كما أنها تتسع وتضيق برغبتنا، ويمكن أن نجعلها تشمل العالم الذي نريده، حتى تصبح كبيرة بما يكفي لتُشعرنا -كذبًا- بأنها لم تعد محدودة، لذا قد تكون الفقاعة خدعة نفسية نخلقها أو مجرد انعكاس لأفكارنا وتصوراتنا ورغبتنا في عيش الحياة بطريقة خاصة تعطينا الفرادة والتميز وسط الآخرين، كما أن اعتقادنا بقدرتنا على توسيع الفقاعة هو مجرد حالة انتشاء زائفة؛ فنحن لا نوسع فقاعاتنا بقدر ما نضيّق العالم الخارجي من حولنا، حتى إذا انفجرت الفقاعة لم نجد عالمًا يحتوينا؛ ففقاعاتنا محدودة بخيالنا وبالطبع خيالنا لا يشمل العالم كله، لذا فالعالم يضيق وليست الفقاعة هي التي تتسع.

وبالرغم من خطورة ما سبق فإن أخطر ما في الفقاعات وجهان؛ الأول، أنها تحيط بنا وتتشكل لا إراديًا، دون تدخل منا، بل قد تتكون على هامش الوظيفة أو السكن أو المستوى التعليمي، فتلقائيًا نحيط أنفسنا بأشخاص يتصرفون ويفكرون مثلنا، ونسمي ذلك توافقًا، نبحث عنه في الأصدقاء والجيران وزملاء العمل وحتى بين الأقارب؛ حتى لا نشعر بشذوذ مجتمعي، فيبدو لنا العيش في الفقاعات وكأنه الوضع الطبيعي للبشر، ويزيد خطر ذلك خدعة نفسية، حين يصاحب خروجنا من فقاعتنا شعور بعدم الراحة والتكيف، لا يزول إلا بالعودة إلى الفقاعة.

أما الوجه الآخر، فهو الاعتقاد بأننا داخل فقاعاتنا نحقق أفضل مستوى معيشة، ونوفر أنسب الخيارات، لكن في الحقيقة نحن لا ننمو من خلال إحاطة أنفسنا بأشخاص وأفكار تشبهنا ولا ترينا الجانب الآخر من العالم خارج الفقاعة، لا تكتمل حياتنا وعقولنا بوجودنا في غرفة فارغة أو الاستماع لصدى أصواتنا.

هل الأمر مهم إلى هذا الحد؟

يمكن أن تُعد الفقاعات مقياسًا اجتماعيًا واقتصاديًا تقاس به وعليه أمور حيوية، كما أنها حقل خصب للدراسات الاجتماعية والاقتصادية؛ نظرًا لخطورتها.

عام 2008 نُشرت دراسة بعنوان: «الفقاعات في المجتمع: مثال لبرنامج أبولو الأمريكي»، قدمت تحليلًا للعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي قام عليها برنامج أبولو الفضائي، وأشارت إلى أنه يعد مثالًا حيًا لفقاعة اجتماعية، نتجت عن حماسة جماعية واستثمارات وجهود جبارة، وتوقعات عامة وسياسية مفرطة لنتائج إيجابية، ونُسجت من عدة عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية، وأنتجت ردود أفعال حماسية مفرطة والتزاما استثنائيا من المشاركين في المشروع والسياسيين والمواطنين؛ وذلك لأن خلال الفقاعات «يخاطر الناس بمخاطر هائلة لا يمكن تبريرها عن طريق التحليل المعياري للتكاليف؛ إذ يتميزون بالإفراط الجماعي والحماسة والاستثمارات والجهود غير المعقولة».

واقترحت الدراسة خمسة أمثلة للفقاعات: طفرة السكك الحديدية البريطانية في أربعينيات القرن التاسع عشر، ومشروع الجينوم البشري، وازدهار الإنترنت في أواخر التسعينيات، واستنساخ الحيوانات، وبرنامج أبولو الأمريكي، وقد أيدت الدراسة مثل تلك الفقاعات، واعتبرتها تطورًا مفيدًا للمجتمع؛ لأنها تسمح باستكشاف مجالات استثنائية، فهي بمثابة «شر ضروري لتعزيز موقفنا الجماعي تجاه الخطر، وكسر جمود المجتمع الناتج عن ميله نحو تجنب المخاطر، ولذا فإن غياب علم النفس الفقاعي من شأنه أن يؤدي إلى الركود»، ودعمت الدراسة ذلك بما أحدثه المشروع من تقدم تكنولوجي هائل.

وذهب تحليل مالي إلى أن المشروع ربما خلق فقاعة مالية أيضًا؛ فقد تسبب في تغيير السياسات النقدية والمالية؛ من أجل تمويل المشروع، مما نتج عنه ارتفاع في معدلات التضخم والركود والبطالة، وتدهور للصناعات التحويلية، وفي الوقت نفسه أكد التحليل ما ذهبت إليه الدراسة بأن المشروع كانت له فوائد تقنية كبيرة للبشرية؛ فقد ساهم في زيادة سرعة التقدم على مدى عقود، وأظهر إمكانية مواجهة البشر للتحديات من خلال توفير الأموال والموارد اللازمة لذلك، وهو أمر يمكن أن يمنحنا وسيلة لحل مشكلاتنا الحالية، مثل حالة الطوارئ المناخية.

عام 2016، عكف باحثون على إنشاء منصة إلكترونية لإجراء تجارب اجتماعية واقتصادية على آلاف الأشخاص في وقت واحد؛ للكشف عن طبيعة اتخاذ القرارات، وكيفية تفاعل البشر في النظم الكبيرة، فيما يشبه جهاز محاكاة اجتماعية يضم سلوكيات بشرية حقيقية؛ للكشف عن نقاط الضعف في الاقتصاد، ويمكّن الباحثين من اختبار التدابير اللازمة لتحسين المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، من خلال دراسة أنماط السلوك الجماعي، وتحليل كيفية تفاعل المجتمع مع السياسات المختلفة، مثل تأثير الضرائب، ويهدف ذلك إلى وضع نموذج للسوق يكشف عن إشارات الإنذار المبكر عندما تتشكل فقاعات واضطرابات اجتماعية، مما يسمح لصانعي السياسات باتخاذ التدابير اللازمة.

هيروشيما: انفجار الفقاعات

هناك انفجار محمود للفقاعات وهو أن يخرج الإنسان من فقاعته لينصهر في المجتمع المحيط به، ويصير جزءًا من مجتمع يتمتع بالقبول من الطرفين: الفرد والمجتمع، لكننا نتحدث عن الوجه الآخر أو الجانب «الديستوبي» في الأمر، والذي يُنتج الأزمات ويسبب الفوضى الاقتصادية والمجتمعية؛ فقد يخلق انهيار فقاعة عقارية في دولة واحدة انهيارًا اقتصاديا يزلزل استقرار النظام المالي العالمي، وهو ما عايشناه في الأزمة المالية العالمية عام 2008، التي بدأت كفقاعة إسكان بسوق العقارات الأمريكية وانتهت إلى أزمة مالية ما تزال تداعياتها مستمرة بعد عقد من الزمان.

يمكن أن نرى ما حدث في ثورات الربيع العربي انفجارًا لفقاعات شبابية عانت من القهر والظلم والعسكرة، فقامت ثائرة؛ لتعيد بناء المجتمع وتضبط ضوابطه ونُظُمه، يمكن أن نرى ما يحدث في العراق ولبنان ضد إيران وتعدد الأطياف انفجارًا لفقاعات مجتمعية عانت من ذلك، يمكن أن نرى الوجه «المودرن» للسعودية انفجارًا لفقاعة انغلقت فيها السعودية على نفسها حتى لم تعد تحتمل ما بداخلها، فخرجت الاحتفالات والانفتاحات والمواسم الترفيهية لتزيل وجه الأصولية، حتى أنك يمكن أن ترى اعتراض ابنك على سلطتك الأبوية انفجارًا لفقاعة عاش فيها يطيعك لكنه لم يكن صادقًا في طاعته وتبعيته لك. الأمر أشمل وأعم مما قد تظن.

اجتماعيًا، لم تعد المجتمعات تقبل الاختلاف، وتكثر حوادث الاعتداء والتنمر على السود في أمريكا، والفلبنيين في دول الخليج، والأفارقة في مصر، والمهاجرين من أي دولة إلى أخرى أو اضطهاد عرقي، مثلما يحدث من الصين مع الإيغور المسلمين، أو حتى بين أبناء طبقات المجتمع الواحد، وهو ما ينتج فقاعات خطرة وغير مستقرة، ينذر انفجارها بكوارث قد تصل إلى احتراب واقتتال داخلي وخارجي، كما أن الانعزال في فقاعة ربما يكون مسئولًا عن دفع البعض إلى الانتحار لأن الفقاعة ضاقت بساكنها، فانفجرت ولفظته إلى العالم الذي هرب منه، فعاد غير متأقلم معه، فرحل تحت عجلات المترو أو من أعلى برج القاهرة أو احتضانًا للنيل.

في النهاية، بشكل أو بآخر يعيش الجميع في فقاعة، وهذه مشكلة عويصة في السياسة والأعمال والمجتمع؛ إذ يتشكل الناس حسب ما أو من يعرفون لا بحسب ما يريدون، بحيث ننجذب نحو ما يشبهنا، فنبدو كأقطاب مغناطيسية تخالف القاعدة بتجاذب متشابهها وتنافر مختلفها، وفي ظل مجتمع يعيش أفراده في فقاعات، ومع تنامي «اقتصاد الفريلانس» الذي يزيد من عزلة الأفراد في المجتمعات، ويعضد تكوين الفقاعات، فإن الأمر ينذر بخطر شديد، في ظل وجود فقاعات اجتماعية من تفاوت الطبقات، وفقاعات اقتصادية من سوء إدارة الاقتصاد، فهل يمكن أن ينفجر «مجتمع الفقاعات» في المستقبل القريب؟ نحن هنا نتحدث عن طوفان قد ينهي المجتمعات البشرية بالصورة التي نعرفها.