عادةً ما يقترن الإعلان عن الاستدانة من صندوق النقد الدولي باتباع الدولة الحاصلة على القرض لسلسلة من الإجراءات التقشفية التي أثبتت معظم التجارب الدولية مدى ثقلها على المواطن الذي تتدهور قدرته على المعيشة في ظل ظروف اقتصادية يعاني منها طيلة سنوات سداد القرض وفوائده. وتلك السياسات التقشفية تتعدد ما بين رفع الضرائب وإضافة أنواع جديدة منها، رفع الدعم عن المواطنين، خفض فاتورة الأجور في الدولة، رفع سن المعاش، زيادة برامج الخصخصة، وغير ذلك من السياسات التي تهدف إلى تقليص الإنفاق ورفع الإيرادات في الدولة.


ماهية قرض الصندوق

تنظر الحكومة المصرية إلى القرض باعتباره شهادة بسلامة الإجراءات الخاصة بالإصلاح الاقتصادي في البلاد بما يمكنها من الحصول على قروض ومنح أخرى.

توصلت مصر مؤخرًا لاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بمبلغ 12 مليار دولار، على مدار ثلاثة أعوام، بواقع 4 مليارات دولار في العام، بفائدة لا تتجاوز 1.5%، والقصد من القرض أن يستخدم في إحداث تطور شامل في العملية الاقتصادية، والتصنيع وقطاع الأعمال. ويهدف البرنامج التمويلي للقرض إلى تحسين أسواق الصرف الأجنبي وتقليص عجز الموازنة وخفض الدين الحكومي من 98% من الناتج المحلي في 2015- 2016 إلى 88% في 2018-2019.

وتنظر الحكومة المصرية إلى القرض باعتباره شهادة بسلامة الإجراءات الخاصة بالإصلاح الاقتصادي في البلاد، بما يمكنها من الحصول على قروض ومنح أخرى من الدول والمؤسسات المالية الأخرى.

ونوع القرض الممنوح من الصندوق هو التسهيل الممدد (EFF): ويساعد هذا التسهيل التمويلي على معالجة المشكلات متوسطة وطويلة الأجل التي يتعرض لها ميزان المدفوعات. وتعكس تشوهات كبيرة تتطلب إصلاحات اقتصادية أساسية يضعها الصندوق كشروط أساسية للحصول على القرض. وعادة ما تكون الاتفاقات التي تعقد في ظل تسهيل الصندوق الممدد أطول أجلا من اتفاقات الاستعداد الائتماني، حيث لا تتجاوز مدتها ثلاث سنوات عند الموافقة في الأحوال العادية. وسداد القرض في نظام التسهيلات الممددة يكون في غضون 4.5 – 10 سنوات من تاريخ الصرف.


شروط الحصول على القرض والآثار المترتبة عليه

1. خفض عجز الموازنة، وهو ما تحاول الحكومة تنفيذه منذ طرح برنامج لتخفيض دعم الطاقة في أغسطس ٢٠١٤. ولكن هل تراجع العجز في الموازنة فعليًا؟!

الملاحِظ لشأن الاقتصاد المصري منذ ذلك الوقت يجد أن العجز في الموازنة في ارتفاع مستمر، ليسجل خلال الفترة من يوليو إلى مايو من السنة المالية الماضية 2015 – 2016، نحو 311 مليار جنيه، بنسبة 11.2% من الناتج المحلى الإجمالي، مقابل 262 مليار جنيه خلال الفترة المماثلة من العام المالي السابق بنسبة 10.8% من الناتج المحلى الإجمالي. علمًا بأن الحكومة كانت تستهدف عجزًا كليًا في موازنة 2015-2016 يقدر بنحو 251 مليار جنيه أو ما يعادل 8.9% من الناتج المحلى الإجمالي، مقابل 10.8% عجز للعام المالي 2014-2015.

2. خفض أو إلغاء دعم المياه والكهرباء خلال السنوات القادمة، وهو ما حدث بالفعل من خلال وضع خطة لرفع الدعم التدريجي عن أسعار استهلاك الكهرباء. على أن يتم رفعه نهائيًا عام 2019. لكن كان من بين تصريحات الحكومة أن إلغاء الدعم لن ينال محدودي الدخل والفقراء في المجتمع، فهل ذلك ما تم؟!

أعلنت الحكومة التسعيرة الجديدة للكهرباء، والتي ستطبق بدءًا من فاتورة أغسطس 2016، بواقع زيادة 1.7 جنيه على الشريحة الأولى و4.5 جنيه للشريحة الثانية و14 جنيهًا للشريحة الثالثة. ويتراوح متوسط الزيادة على الفواتير باختلاف شرائحها ما بين 35% إلى نحو 47% عن قيمتها خلال العام 2015، بما يعني أن محدودي الدخل والفقراء لم يتم إعفائهم من الزيادة كما أعلنت الحكومة مُسبقًا وهو ما يزيد حمل الأعباء المعيشية على محدودي الدخل ويزيد من مستويات الفقر.

3- خفض فاتورة أجور موظفي الحكومة إلى ٧.٥٪ من الناتج المحلي، وهو ما تسعى له الحكومة من خلال إقرار قانون الخدمة المدنية. وحتى الآن لم تعلن الحكومة عن أي قرارات بخفض الأجور في الدولة، إلا أن عدم زيادة المرتبات بنسب تتوازى مع ارتفاع الأسعار يعني خفضًا في الأجور الحقيقية للموظفين في الدولة.

ستلجأ الدولة إلى زيادة الإيرادات من خلال رفع أسعار عدد من الخدمات الحكومية، وهو ما بدأت به بالفعل ومنها رسوم وثائق الزواج والطلاق.

وفي تلك النقطة ليس الدفاع عن أجور موظفي الدولة يبرر القبول بوضع الفساد المستشري في الجهاز الإداري للدولة، فقد وصل عدد العاملين إلى 7 ملايين موظف، علمًا بأنهم لا يعملون بالطاقة المطلوبة رغم أن عددهم أكثر من المطلوب بسبعة أضعاف. وتلك قضية أخرى تحتاج إلى علاج من خلال هيكلة الجهاز الإداري بأكمله. لكن حل هذه القضية لا يعني على الإطلاق تسريح العاملين بالدولة أو تقليص رواتبهم، فلا بد من وضع خطة ممنهجة على عدة سنوات بحيث نصل في النهاية إلى تعيين ما تحتاجه الدولة فعليًا بحيث يكون العامل منتجًا ولا يمثل أي عبأ على الدولة.

فارتفاع الأجور، سبب من أسباب زيادة عجز الموازنة، لكن السبب الأكبر هو ارتفاع نسبة فوائد الدين المستحقة شهريًا على الدولة، وهو ما سيزيد بإضافة فوائد الصندوق التي ستكون مستحقة خلال السنوات المُقبلة. وطبقًا لبيانات الموازنة ارتفع بند الأجور وتعويضات العاملين من 96,2 مليار جنيه في العام 2010-2011 إلى 218,1 مليار جنيه في موازنة العام المالي 2015-2016، أي بزيادة بلغت 121,9 مليار جنيه. أما الديون المحلية فقد تضاعفت من 1,044 تريليون جنيه في العام المالي 2010- 2011، إلى 2,114 تريليون جنيه بنهاية 2014- 2015، وفقًا لآخر بيانات متاحة من البنك المركزي. ويمثل الدين المحلي 97% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، وبذلك تعدى الدين حاجز الأمان عالميًا والذي يقدر بنسبة 60%.

4. زيادة إيرادات الدولة: وذلك من خلال عدد من التدابير أهمها تطبيق قانون القيمة المضافة، وهذا يعني وجود ضريبة جديدة على الاستهلاك ستساهم في زيادة تكلفة السلع والخدمات، وعادةً ما يُحمل المنتج تلك الزيادة في التكاليف إلى المستهلك، بل ويضيف إليها هامش ربح أعلى وهو ما يزيد أسعار السلع بأعلى من معدل الضريبة. ويأتي ذلك في ظل عدم مجاراة مرتبات المواطنين لتلك الزيادات بالأسعار، في ظل معدل تضخم رسمي بلغ 14.8% في يوليو 2016، ويتخطى نسبة 19% لمجموعة الطعام والشراب، وتلك هي البيانات الرسمية المعلنة من قبل الحكومة علمًا بأن المستويات الحقيقية ترتفع كثيرًا عن هذه الأرقام.

كذلك ستلجأ الدولة إلى زيادة الإيرادات من خلال رفع أسعار عدد من الخدمات الحكومية، وهو ما بدأت به بالفعل ومنها رسوم وثائق الزواج والطلاق، إلى جانب موافقة البرلمان على رفع رسوم التقاضي، فضلًا عن رفع مقابل خدمات جمع القمامة التي تضاف إلى فاتورة الكهرباء – علمًا بأن المواطن لا يتمتع بها فعليًا.

وماذا عن زيادة الإيرادات من الهيئات العامة الاقتصادية في الدولة، كالهيئة المصرية العامة للبترول والهيئة القومية لسكك حديد مصر وهيئة تنمية الطاقة الجديدة والمتجددة واتحاد الإذاعة والتليفزيون وغير ذلك من الهيئات التي يفترض أنها تحقق فائضًا بمعنى أن إيراداتها تغطي نفقاتها وتزيد. فالواقع يظهر أنها تحقق عجزًا، فالملاحظ من البيان المالي عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2016-2017 أن ما يؤول من الهيئات الاقتصادية للدولة في العام المالي الجديد هو 105.5 مليار جنيه، في حين يصل ما تتحمله الموازنة العامة للدولة تجاه تلك الهيئات يبلغ 143 مليار جنيه بعجز مُقدر بنحو 37.5 مليار جنيه.

5- تبني البنك المركزي سياسة صرف مرنة، وهو ما يعني تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار سواء عن طريق تعويم الجنيه وترك السوق ليحدد سعره أو خفض الجنيه على دفعات بداية من شهر سبتمبر 2016. وبالطبع سيكون لذلك تداعيات سلبية كبيرة على الأسعار التي سترتفع أكثر مما يحدث في الوقت الحالي. كذلك انخفاض قيمة الجنيه المصري يُعني زيادة تكلفة الواردات- علمًا بأن مصر تستورد نحو 60% من السلع الغذائية اللازمة لسد الاحتياجات النخلية، إلى جانب زيادة تكلفة المواد الخام اللازمة للصناعة، والمواد الوسيطة والسلع الاستثمارية، مع الأخذ في الاعتبار زيادة أسعار عدد من السلع عالميًا خلال الأخيرة، مثل السكر واللحوم ومنتجات الألبان.

ومن المتوقع أن يطلب الصندوق من الحكومة طرح حصص من الشركات العامة والأصول الحكومية للبيع للمستثمرين الأجانب، والتي قد تطال شركات حيوية مثل شركات الأدوية العامة ومثل تلك الخطوة ستزيد من الأزمات التي يتعرض لها سوق الدواء في مصر. كذلك الخصخصة في مصر لا تتم على أسس اقتصادية، فجميع التجارب السابقة تثبت أن معظم موظفي وعمال شركات القطاع العام التي تم خصخصتها فقدوا مصدر الرزق الوحيد لهم ولم تنجح الدولة تعويضهم أو تعويض الخسائر التي نتجت عن الإدارة الفاسدة لتلك الشركات باعتها في نهاية الأمر بأقل من قيمتها الحقيقية بكثير.


هل يُسهم قرض الصندوق في تطبيق العدالة الاجتماعية في مصر؟

بلغت نسبة الفقراء في مصر خلال عام 2015 نحو 27.8%، أي أكثر من 25 مليون شخص، تقل دخولهم الشهرية عن 482 جنيهًا، وهو رقم تم الافتراض الرسمي أنه يغطي احتياجات الفرد الشهرية من الطعام والشراب والمسكن والملابس والصحة والتعليم والانتقال والاتصالات.

ومع تطبيق شروط الصندوق للحصول على القرض ترتفع أسعار السلع والخدمات في الاقتصاد المصري مما يجعل دخول المواطنين تتضاءل بالتبعية في ضوء الزيادات المستمرة في الأسعار؛ بما يعني اتساع أعداد البسطاء الذين يعيشون حتى على مبلغ ألف جنيه شهريا للفرد، ليصل بالعدد لأكثر من ضعف عدد من هم تحت خط الفقر الرسمي.

فقرض الصندوق سيزيد الغني غناءً ويزيد الفقير فقرًا، فالمواطن الغني عادةً ما يدخر أمواله وثرواته بالدولار وليس بالعملة المحلية وكذلك يستثمر أمواله في قطاعات أكثر ربحية كالقطاع العقاري سوء داخل أو خارج مصر، بالتالي أي زيادة في أسعار السلع والخدمات التي يحصل عليها لن تكون مماثلة للارتفاع في أرباحه من اكتناز الدولار- الذي سيستمر في الارتفاع- أو ارتفاع أسعار العقارات التي تتضخم عام بعد عام.

أما المواطن سواء محدود أو متوسط الدخل فهو الذي سيعاني كثيرًا في ضوء زيادة مشاكل البطالة والتضخم. هذا الأمر في النهاية يؤدي لانعدام العدالة الاجتماعية، بل يزيد الأعباء الحياتية اليومية على المواطن البسيط لصالح المواطن الغني.


هل نجحت تجارب دول أخرى اقترضت من الصندوق؟

مع تطبيق شروط الصندوق للحصول على القرض ترتفع أسعار السلع والخدمات في الاقتصاد المصري مما يجعل دخول المواطنين تتضاءل بالتبعية

باستعراض التجارب السابقة للدول التي حصلت على قروض أو حزم إنقاذ مالية سواء من الصندوق أو المؤسسات المالية العالمية والتي كانت مقترنة هي الأخرى بتطبيق سياسات تقشفية صارمة، نجد أن النهاية في معظم التجارب كانت سيئة بل تزداد سوءًا عامًا بعد عام.

رغم ارتفاع المبلغ المستحق للمقرضين الدولية لنحو 135٪ من الناتج المحلي الإجمالي لليونان، ازدادت الأمور سوءً لتصل معدلات البطالة لأكثر من 25%

واليونان في هذه الحالية خير مثال؛ فبعد أن وصلت الأزمة الاقتصادية في اليونان إلى ذروتها، تدخلت تكتل عُرف بـ «الترويكا» المكونة من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي لدعم اليونان. وفي مايو 2010 وافق قادة منطقة اليورو والحكومة اليونانية على قرض إنقاذ بقيمة 110 مليار يورو، لكن الإنقاذ جاء مع شروط صارمة من بينها تحسين جباية الحكومة للضرائب وتقليص النفقات العامة في محاولة لضبط الميزانية العامة للبلاد.

ولأن قرض الإنقاذ الأول لم يكفي لتحسين الوضع في اليونان، وافقت الحكومة في فبراير 2012، على الحصول على قرض إنقاذ أخر، ليصل مجموع الأموال المقترضة إلى 246 مليار يورو. وتم الاتفاق على خطة تقشف جديدة ببنود أشد قسوة من الأولى. ورغم ارتفاع المبلغ المستحق للمقرضين الدولية لنحو 135٪ من الناتج المحلي الإجمالي لليونان في الوقت الحالي، ازدادت الأمور سوءً لتصل معدلات البطالة لأكثر من 25%. وحتى تحصل اليونان على مزيد من الأموال أصبح عليها أن توافق على مزيد من التقشف الذي يضغط على حياة المواطن اليوناني بالدرجة الأولى. اضطرب الحكومة اليونانية لقبول خطة تقشف تتضمن سياسات جديدة للخصخصة وبيع أجزاء من البلاد للقطاع الخاص حتى تتمكن من إعادة رسملة القطاع المصرفي.

نهايةً؛ ليست العبرة إطلاقًا في توفير أموال إضافية- عن طريق الاستدانة- لتغطية أوجه الانفاق الاستهلاكي، أو ضخ المليارات في مشروعات عملاقة، مثل توسيع قناة السويس في وقت تتراجع فيه مؤشرات التجارة العالمية. ولكن المشكلة الأساسية تكمن في فشل الحكومات المتعاقبة في الوقوف على المشكلات الهيكلية في المجتمع والبدء في وضع الحلول اللازمة لها، فما فائدة إنشاء مشروعات عملاقة دون أن تُسهم في إتاحة المزيد من فرص العمل بما يقلل معدلات البطالة في المجتمع؟!. لذا وإن اضطررنا لقبول قرض الصندوق فلابد وأن يتزامن مع القرض وضع خطة اقتصادية حذرة لإدارة المرحلة المُقبلة، دون زيادة الأعباء المعيشية على المواطن الذي يعاني ظروفًا اقتصادية صعبة بالفعل.