في الاقتصاد فقط يمكن لأحدهم أن يثبت الشيء ونقيضه في الوقت نفسه بحجج قوية كل مرة، خاصة عندما يشرع في تقييم الوضع الاقتصادي لدولة ما.

حققت الموازنة العامة فائضًا أوليًا في العام الماضي، وهو ما انعكس بشكل إيجابي على تصنيف دولتنا الائتماني.

قد يطل عليك وزير مالية دولتك بتصريح كهذا في نهاية العام المالي، ولكن قبل أن تحتفل عليك أن تسأله أولاً: كيف تحقق ذلك الفائض؟ وأين يذهب؟ وما معنى أن يتحسن التصنيف الائتماني؟

الفائض يعني أن مصروفات الدولة أقل من إيراداتها، وأنها الآن تستطيع أن تدخر بعضًا من المال حتى تدفعه لدائنيها. أما ما يقصده الوزير بشأن تحسن التصنيف الائتماني؛ أن الدولة أصبحت الآن أكثر قدرة على دفع ديونها المستحقة عليها وهو أمر جيد بلا شك، إلا أنه ليس كذلك إن تحقق ذلك الفائض نتيجة تخفيض الإنفاق على قطاعات كالتعليم والصحة، فتكون كمن لا ينفق على تعليم أولاده ولا يعالجهم حتى يوفر المال الذي يسد به دينه، ومن ثَمَّ يتحسن تصنيفه الائتماني.

هكذا يكون التحسن مضللاً ويكون الفائض ضارًا أكثر منه نافعًا. من هنا كان لزامًا علينا أن نوضح حقيقة الأوضاع الاقتصادية في تركيا، وأن نعطي صورة عامة عن حقيقة الأوضاع الاقتصادية دون تهويل أو تهوين.


معدل النمو

يُعد معدل النمو الاقتصادي هو أحد أكثر المؤشرات الاقتصادية أهمية على الإطلاق، وبدون الدخول في تفاصيل كثيرة علينا الإجابة على ثلاثة أسئلة رئيسية، ونحن بصدد تقييم معدلات النمو في دولة ما:

1. هل ينمو إنتاج الدولة من السلع والخدمات؟ فإن كان ينمو فهو أمر جيد بلا شك.

2. أيهما يزيد بسرعة أكبر الإنتاج أم السكان؟ فإن كان معدل نمو السكان يفوق معدل نمو الإنتاج فنحن أمام أزمة حقيقية، إذ إن الاقتصاد لا ينتج ما يكفي لسد احتياجات هؤلاء الوافدين الجدد.

3. على منْ تعود ثمار هذه الإنتاجية المتزايدة؟ على سبيل المثال هل يأخذ كل من العامل ومالك المصنع والإدارة نصيبه العادل من الأرباح، أم أن صاحب الإدارة والملاك يستأثرون بمعظمها ولا يرمون للعمال سوى الفتات؟

دعنا ننتقل الآن إلى الحقائق والأرقام.

حقق الاقتصاد التركي معدل نمو قدره 7.4% في 2017، مقارنة بـ 3.2% في 2016، جاء ذلك مدفوعًا بنمو الإنتاجية في جميع قطاعات الاقتصاد تقريبًا. أما عن معدل نمو السكان فقد سجل 1.5% في 2017؛ أي أن معدل نمو الإنتاج بلغ خمسة أضعاف معدل نمو السكان، إن نصف هذا المعدل فقط كفيل بتحسين حياة المواطنين الأتراك بشكل ملحوظ شريطة أن توزع ثمار هذا النمو بعدالة بين المواطنين.

معدلات نمو الاقتصاد التركي.

في هذا الصدد يشير تقرير التنمية الاحتوائية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن تركيا تعاني من عدم عدالة واضحة في توزيع الدخل والثروة، ويشير البنك الدولي كذلك إلى أن أغنى 10% من السكان في تركيا حصلوا على 32.1% من إجمالي الدخل المتحقق عام 2016، في حين لم يحصل أفقر 10% من السكان سوى على 2.2% من الدخل المتحقق في نفس العام. بيد أن اختلال توزيع الدخل ليس وليد عام 2016، فالبيانات تشير إلى أن ثمار النمو تذهب منذ 2010 إلى الشريحة الأغنى في المجتمع، بينما لم يحدث أي تحسن في وضع الشريحة الأقل دخلاً.

الأشكال التالية تشير إلى تحسن مستمر في الدخل الذي يحصل عليه أغنى 10% من السكان منذ عام 2008، بينما كان دخل الـ 10% الأفقر ثابتًا لا يتحرك خلال نفس الفترة.

نصيب أغنى 10% من السكان من الدخل في تركيا.
نصيب أفقر 10% من السكان من الدخل في تركيا.

وبناءً على ذلك، لا تنبهر كثيرًا عندما يخبرك أحدهم أن تسارع معدلات نمو الإنتاج في تركيا أدى إلى الحاجة إلى مزيد من العمالة يومًا بعد آخر، وهو ما أدى بدوره إلى انخفاض معدل البطالة إلى 10.8% في إبريل/نيسان 2018 مقارنة بـ 13% في يناير/كانون الثاني 2017، فالأهم من أن يحصل أحدهم على فرصة عمل، هو طبيعة ذلك العمل، وهل يحصل على مقابل عادل نظير مساهمته في العملية الإنتاجية أم لا؟


عجز الموازنة العامة

عجز الموازنة العامة لدولةٍ ما، يعني أن ما يدخل الدولة من نقود لا يكفي نفقاتها.

أدت السياسة المالية التوسعية التي تنتهجها الحكومة التركية إلى ارتفاع عجز الموازنة العامة للدولة إلى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2017 مقارنة بـ 1% في 2015.

السياسة المالية التوسعية تعني زيادة معدلات الإنفاق بشكل عام، خاصة الإنفاق على الأجور والدعم والاستثمار، جاء ذلك في الوقت الذي تتراجع فيه عائدات الدولة من الضرائب كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما أدى في النهاية إلى ارتفاع عجز الموازنة العامة.

خطورة العجز لا تكمن في ارتفاع نسبته أو انخفاضها فقط، ولكن في النتائج المترتبة عليه، فالدولة أمامها خياران لا ثالث لهما لتغطية العجز:-

الأول: الاقتراض.

الثاني: طباعة النقود.

أما عن الخيار الأول، فتشير البيانات إلى ارتفاع الدين الحكومي ليسجل 28.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2016 و2017 مقارنة بـ 27.6% في 2015.

معدلات الدين الحكومي في تركيا.

وعلى الرغم من أن نسبتي العجز والدين الحكومي ما زالتا في الحدود الآمنة حتى الآن، إلا أنهما قد يتفاقمان بشكل متسارع خلال الفترة القادمة لمجموعة من الأسباب:

أولاً: ارتفاع أسعار النفط

وصل سعر برميل النفط إلى 70.5 دولار، وهو أعلى مستوى له منذ ثلاث سنوات، ومن المتوقع أن يشهد مزيدًا من الارتفاع خلال الفترة القادمة، على خلفية انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، ففي حالة تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران مرة أخرى فمن المتوقع أن ينخفض إنتاجها من النفط بحوالي مليون برميل يوميًا، وهو ما سيدفع الأسعار نحو مزيد من الارتفاع، وبالتالي مزيد من الضغوط على الموازنة التركية.

ثانيًا: تراجع قيمة الليرة التركية

حيث سجلت العملة التركية تراجعًا كبيرًا مقابل الدولار الأمريكي، ليسجل الدولار 4 ليرة، بعد أن كان يساوي 1.2 ليرة في 2005، وحوالي 1 ليرة في 2008. هذا الانخفاض في قيمة الليرة دفع الأتراك إلى تحويل مدخراتهم إلى العملة الصعبة، وهو ما يمكن رصده من خلال حساب نسبة ودائع العملات الأجنبية إلى المخزون النقدي، والتي تقترب الآن من 40% مقارنة بـ 33% قبل عام تقريبًا.

إن مزيدًا من انخفاض قيمة العملة أمام الدولار يعني ارتفاع فاتورة الاستيراد ومن ثَمَّ زيادة العجز، فاستيراد ما قيمته 100 دولار أصبح يكلف الحكومة التركية الآن 400 ليرة بعد أن كان يكلفها 120 ليرة فقط في 2005. وعندما يقترن انخفاض قيمة العملة بارتفاع أسعار البترول فإن الأثر السلبي على الموازنة سيتضاعف.

ناهيك عن العجز التجاري المتفاقم والذي يكرس معاناة الليرة التركية، فالعجز التجاري يعني أن ما تستورده الدولة يفوق ما تصدره. ولما كانت عمليات الاستيراد والتصدير تتم بالعملة الصعبة، فإن ذلك يعني أن ما تدفعه الدولة للحصول على وارداتها يفوق ما تحصل عليه نظير صادراتها. عملية الاستنزاف تلك تؤدي إلى مزيد من تدهور قيمة العملة.

قيمة الليرة التركية مقارنة بالدولار الأمريكي.

ثالثًا: رفع أسعار الفائدة

الليرة التركية, الاقتصاد التركي

أوصى صندوق النقد في مراجعته الأخيرة لأوضاع الاقتصاد التركي بمزيد من رفع سعر الفائدة للسيطرة على التضخم؛ لأن رفع أسعار الفائدة يعني أن مزيدًا من الأموال تتسرب للدائنين وبالتالي زيادة المصروفات ومن ثم ارتفاع نسبة العجز.

هنا تناقض ضمني في سياسات الصندوق يجب توضيحه:

ينصح الصندوق برفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، مستندًا إلى إطار نظري مفاده أن رفع أسعار الفائدة سيشجع الناس على التوجه ووضع نقودهم بالبنك، للاستفادة من معدلات الفائدة المرتفعة، وتحقيق أرباح سريعة ومضمونة، بدلاً من استخدامها في شراء السلع والخدمات، وعندما ينخفض إقبال الناس على السوق ويقل استهلاكهم ولا تجد السلع من يشتريها حتمًا ستنخفض الأسعار، إلا أن ذلك يعني في الوقت نفسه أن جزءًا أكبر من مصروفات الدولة يذهب لمدفوعات الفوائد على ديونها، بما يعني زيادة المصروفات ومن ثم ارتفاع العجز.

ولكن لحظة، أليست مهمة الصندوق الأساسية هي تخفيض عجز الموازنة؟ ألم ينصح كل الدول التي تعاملت معه بتخفيض الإنفاق على التعليم والصحة وإزالة الدعم عن المواد البترولية والكهرباء لتخفيض مصروفات الدولة ومن ثم تقليص العجز؟ كيف إذن ينصح الدولة برفع أسعار الفائدة والتي ستؤدي إلى رفع عجز الموازنة؟ أليس ذلك تناقضًا؟ نعم هو تناقض يجب تفصيله على النحو التالي:-

أولاً: لن يمثل رفع سعر الفائدة عبئًا ثقيلاً على ميزانية الدولة إلا إذا كان حجم دينها كبيرًا، كمصر على سبيل المثال. يكفيك أن تعلم أن مدفوعات الفوائد في موازنة العام المالي تلتهم أكثر من ثلث مصروفات الدولة، وأنها تبلغ تسعة أضعاف الإنفاق على الصحة وخمسة أضعاف الإنفاق على التعليم، هنا أزمة حقيقية! قد لا يكون الوضع في تركيا بهذا السوء إلا أن أول الغيث قطرة، ولم يكن الحال في مصر بهذا السوء من خمس أو ست سنوات فقط.

ثانيًا: التناقض الجوهري في سياسة الصندوق هنا، أن جزءًا كبيرًا من التضخم غالبًا ما يكون راجعًا في الأساس إلى ارتفاع تكاليف إنتاج السلع والخدمات في الاقتصاد نتيجة تخفيض الدعم عن الكهرباء والطاقة، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار جميع السلع التي يدخل البنزين والكهرباء في أحد مراحل إنتاجها أو نقلها.

إن سياسة رفع الدعم التي يتبناها الصندوق هي المسبب الرئيسي للتضخم في معظم الحالات! المثير للحيرة هنا أن الصندوق يقترح رفع سعر الفائدة للسيطرة على ذلك التضخم، فيساهم ذلك في تعزيز عجز الموازنة، وكأن الصندوق يدور حول نفسه.

هذه هي الدائرة التي يدور فيها الصندوق: عجز موازنة => تقليص المصروفات وتخفيض الدعم للسيطرة على العجز => ارتفاع أسعار الوقود ومن ثم ارتفاع تكاليف الإنتاج => ارتفاع معدلات التضخم => تشخيص خاطئ للمشكلة يقول بأن ارتفاع الطلب هو سبب التضخم => المطالبة برفع سعر الفائدة لسحب النقود من أيدي الناس وإيداعها بالبنوك ومن ثم تحجيم الطلب => ارتفاع مدفوعات الفوائد كنسبة من المصروفات => يساهم ذلك في ارتفاع العجز مرة أخرى، وهكذا ما يصلحه الصندوق بيد، يفسده بالأخرى!

للأسباب الثلاثة السابقة –ارتفاع أسعار النفط، وتراجع قيمة الليرة التركية، ورفع أسعار الفائدة- قد يرتفع عجز الموازنة العامة في تركيا، ومزيد من العجز يعني مزيدًا من الديون أو طباعة النقود، هذان هما الأثران المباشران للعجز، إلا أن للعجز أثرًا آخر غير مباشر وهو مزيد من التضخم!

فالديون وطباعة النقود هي أموال تم ضخها في الاقتصاد دون أن يقابلها إنتاج، تخيل معي أن كمية الطماطم المتاحة في السوق هي 10 كيلو فقط، وأن هناك 100 فرد يتزاحمون على البائع لشرائها، كل منهم يحمل نقوده ويريد أن يشتري، حتمًا سيستغل البائع الفرصة ويرفع السعر، فبدلاً من 5 جنيه للكيلو قد يطلب 10 أو 15 أو 20 أو حتى أكثر من ذلك، طالما أن هناك من يتزاحم على شراء الطماطم سيغري ذلك البائع برفع السعر أكثر فأكثر.

ارتفع سعر الطماطم لأن موظفي الدولة حصلوا على أجورهم الحكومية وذهبوا بها للسوق يتبضعون حاجات بيوتهم، إلا أنهم لم يجدوا من السلع ما يكفيهم جميعًا. هذا ببساطة ما يفعله تمويل عجز الموازنة العامة بالاستدانة أو طبع النقود، فهذه النقود المطبوعة أو المقترضة ستصل أيدي الأفراد في شكل دعم نقدي أو أجور حكومية أو معاشات أو غيرها من صور الإنفاق الحكومي، إلا أن هذه النقود لم تكن ناتجة عن ارتفاع معدلات الإنتاج والتصدير أو زيادة عائدات السياحة مثلاً، هي نقود لا يوجد لها غطاء من السلع والخدمات، نقود جاءت من الهواء ولم تتولد داخل الاقتصاد فتكون النتيجة ارتفاع الأسعار.

هذا بالضبط ما حدث في تركيا، ساهم عجز الموازنة العامة من ناحية وارتفاع قيمة فاتورة الواردات نتيجة انخفاض سعر صرف الليرة التركية من ناحية أخرى في تزكية معدل التضخم ليسجل 10.9% في إبريل 2018 مقارنة بحوالي 4% في 2011.

الحل لمواجهة التضخم من وجهة نظر الصندوق ليس زيادة الإنتاج لتلبية احتياجات جميع الأفراد وإنما رفع أسعار الفائدة لتشجيع الأفراد على وضع نقودهم بالبنوك بدلاً من شراء احتياجاتهم بها!

معدلات التضخم في تركيا.

الخلاصة أن الاقتصاد التركي ينمو بوتيرة سريعة، إلا أن ثمار هذا النمو لا تتوزع بعدالة على الجميع، وأن عجز الموازنة العامة من ناحية وانخفاض قيمة العملة من ناحية أخرى ساهما في رفع معدل التضخم إلى 10.8%، الأمر الذي دفع البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة في إبريل/نيسان الماضي، كما طالب صندوق النقد الدولي بمزيد من رفع أسعار الفائدة. إلا أن زيادة مدفوعات الفائدة على الديون الحكومية ستؤدي إلى مزيد من عجز الموازنة من ناحية وستثبط الاستثمارات المحلية من ناحية أخرى.