بدت ماليزيا خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة أشد انقساماً من أي وقت مضى في ظل تفتت الأغلبية بين جبهات متناحرة، إذ خسر رئيس الوزراء الأسبق، مهاتير محمد، وكذلك خسرت جبهة أمنو التي حكمت الدولة لعقود طويلة، بينما صعد زعيم المعارضة أنور إبراهيم، يليه محيي الدين ياسين، رئيس الوزراء السابق.

وأعلن ائتلاف أمنو الحاكم تقبله قرار الشعب، متجاهلاً الاعتراف الصريح بخسارة السباق، بعد أن حل في المرتبة الثالثة، وتعهد الائتلاف بأن يظل ملتزماً بالمشاركة في تشكيل حكومة مستقرة.

ويبلغ عدد مقاعد البرلمان 222 مقعداً لكن جرى التنافس على 220 منهم، وتم تأجيل الاقتراع على مقعدين بعد وفاة مرشح في دائرة وسوء الأحوال الجوية في أخرى.

هزيمة المحارب

جاء ترشح رئيس الوزراء الأسبق، مهاتير محمد، البالغ من العمر 97 عاماً، في ظل دعوات إلى تقاعده، لكنه رد على هذه الدعوات باستغراب مبرراً ذلك بكونه ما زال يحتفظ بقدراته عقلية وبدنية تؤهله للقيادة، وخاض الانتخابات مع حزبه «المحارب» وهو الاسم الذي يعد انعكاساً للروح القتالية التي يشتهر بها مهاتير، أبرز وأقوى رئيس حكومة مر على ماليزيا، فبجانب التحديات الجسيمة التي استطاع التغلب عليها عندما كان في السلطة فإنه استطاع العودة إليها مجدداً.

وحكم مهاتير البلاد لمدة 22 عاماً ثم استقال عام 2003، وفي عام 2018 استطاع لأول مرة إنزال الهزيمة بتحالف أمنو الذي حكم البلاد منذ استقلالها، وفي 2020 استقال مجدداً، وبعد أن انفض عنه حزب «أبناء الأرض»، أسس حزباً جديداً هو «المحارب» واختار للتحالف الانتخابي اسم «وطن الملايو»، لكنه تعرض للهزيمة لأول مرة منذ 53 عاماً، وحل رابعاً في معقله بجزيرة لانكاوي، ليحقق هزيمة مدوية في مباراة اعتزاله، فقد قال لوكالة «رويترز» في مقابلة هذا الشهر، إنه سيتقاعد من السياسة إذا خسر هذه المرة، مع تأكيده على أنه لا يرى أنه أسهم بشكل فعال في السياسة قبل أن يبلغ من العمر 100 عام.

وأصر الزعيم الماليزي المخضرم على خوض الانتخابات للإطاحة بحكومة حزب أمنو مجدداً التي اعتبرها حكومة يقودها «مجرمون»، حتى لو اضطر إلى التعاون مرة أخرى مع منافسه اللدود أنور إبراهيم، الذي أعلن رفضه هذا الخيار في مقابلة قريبة مع «رويترز» أيضاً.

وتعهد مهاتير، في ما قال إنه سيكون على الأرجح غزوته الانتخابية الأخيرة، بمحاربة «الملايو السيئين المجرمين .. الذين دمروا هذا البلد» في إشارة إلى أمنو.

ويواجه عديد من قادة ائتلاف أمنو اتهامات بالكسب غير المشروع، أبرزهم رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق، الذي حكم عليه بالسجن لمدة 12 عامًا بعد إدانته في قضية فساد.

عودة أنور إبراهيم

فاز ائتلاف «تحالف الأمل» متعدد الأعراق بإجمالي 82 مقعداً، تحت قيادة زعيم المعارضة أنور إبراهيم البالغ من العمر 75 عاماً، وقد تكون هذه فرصته الأخيرة لرئاسة الحكومة بعد سعي استمر لسنوات، استطاع خلالها أكثر من مرة أن يصبح قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى الحكم دون أن يتمكن من الوصول إليه.

فقد كان يُنظر إليه في نهاية التسعينيات على أنه خليفة مهاتير محمد دون منازع، حينما كان الأخير يعد العدة للرحيل عن السلطة، إلا أن خلافاً وقع بين الرجلين قذف به في غياهب السجن بتهمة أخلاقية ملفقة بحسب ما هو معروف على نطاق واسع، وظل حبيساً لسنوات طويلة ما إن يخرج من سجنه حتى يعود إليه، حتى تحالف مع غريمه السابق وعاد الرجلان إلى السلطة عام 2018، وحصل إبراهيم على عفو ملكي.

وتم الاتفاق بين الرجلين على أن يستلم مهاتير رئاسة الوزراء لفترة ثم يسلمها إلى شريكه، لكن استقالة مهاتير عام 2020 أدت إلى انهيار التحالف متعدد الأعراق بعد 22 شهراً فقط، مما مهد الطريق لتحالف أمنو للعودة إلى السلطة بعد أن كان أنور إبراهيم على وشك أن يصبح رئيساً للوزراء للمرة الثانية فعاد إلى نقطة الصفر من جديد.

ويقود أنور حزب العدالة الشعبية الذي أسسته زوجته عزيزة إسماعيل بعد اعتقاله عام 1998، ويتبنى شعارات مكافحة الفساد والعنصرية والتعصب الديني، ويحظى بدعم الأقليتين الصينية والهندية اللتين تشكلان نحو ثلث الناخبين، لكنه يفتقر إلى الجاذبية بين الأغلبية الملاوية المسلمة بسبب معارضته سياسة التمييز الإيجابي لصالحهم، متجاهلاً هيمنة الصينيين على الاقتصاد والثروة.

ويواجه إبراهيم تحدياً داخل حزبه؛ إذ يطالبه البعض بإفساح المجال أمام بروز قيادات جديدة للحزب، وقد أجاب على سؤال مؤخراً حول ما إذا كانت هذه الانتخابات ستكون محطته الأخيرة، فرد بأنه يعرف حدوده، في إشارة مراوغة لاحتمال تنحيه عن القيادة لاحقاً.

ويجهز إبراهيم ابنته نور العزة لتَخْلُفَه في قمرة القيادة، ويطلق الماليزيون عليها لقب «النجمة الساطعة وزعيمة المستقبل»، لكن المفارقة أنها -رغم اكتساح حزبها وفوزه بالمركز الأول- هُزمت في الانتخابات الأخيرة على يد مرشح من الحزب الإسلامي يدعى فواز محمد جان، حصل على 37638 صوتًا مقابل 32366 صوتًا لمنافسته، والشيء الأكثر ألماً لها أن هذه الدائرة الانتخابية تحديداً في بيرماتانج باوه بولاية بينانج هي الدائرة التي تعاقب عليها والداها وفازت هي بها منذ أربع سنوات، وتعد خسارتها فيها هزيمة مدوية؛ فهي معقل أسرتها الأول منذ سنوات طويلة بلا منازع، وعلق القيادي بتحالف الأمل، تشو كون يو، على الأمر قائلاً «نشعر بخيبة أمل.. فقدنا مقعداً وخسرنا زعيمة مستقبلية لم تستطع التمسك بمقعدها».

تحالف محيي الدين ياسين

 حصل تحالف رئيس الوزراء الأسبق، محيي الدين ياسين، على 73 مقعداً، وحل ثانياً في الترتيب، بعد أن نجح في كسر احتكار حزب أمنو وتحالف الأمل لصدارة المشهد.

وقد أسس محيي الدين حزب «أبناء الأرض» عام 2016، وهو حزب قومي مالاوي انضوى في البداية تحت راية مهاتير محمد، وانضم إلى تحالف الأمل الذي ضم حزب العدالة الشعبية بقيادة أنور إبراهيم، وفاز بانتخابات عام 2018، وبعد استقالة مهاتير من رئاسة الحكومة في 2020 تولى محيي الدين هذا المنصب، ثم تحالف مع حزب أمنو وشكلوا حكومة استمرت حتى اليوم، قبل أن يتخلى عن هذا التحالف، مؤخراً، وينجح في سحب الدعم من المعاقل التقليدية لأمنو، كما تجدر الإشارة إلى أن مهاتير فقد مقعده في الانتخابات الأخيرة أمام أحد مرشحي تحالف محيي الدين، وهو النائب محمد سحيمي عبد الله.

الحزب الإسلامي

يشارك الحزب الإسلامي في تحالف محيي الدين ياسين، وفي الانتخابات الأخيرة تضاعفت حصته لأكثر من الضعف فحصل على 43 مقعداً، وهو يدعو إلى تطبيق الشريعة.

ونجح الحزب الإسلامي في اجتذاب الناخبين الملايو ممن انفضوا عن حزب أمنو بعد فضائح فساد ارتبطت برموزه، واستنكفوا من تأييد ليبرالية أنور إبراهيم المدعوم من الصينيين.

وتجدر الإشارة إلى أن الحزب الإسلامي الماليزي لم يعد الحزب الوحيد صاحب التوجه الديني الواضح، حيث يبدو أن ائتلاف أمنو يسير على نفس المسار، فبعد أن كان يدافع عن حقوق قومية الملايو، في مقابل تبني الحزب الإسلامي أجندة دينية، يُلاحظ في السنوات الأخيرة تبني أمنو خطاباً محافظاً بشكل متزايد، لذا من المحتمل أن يؤدي هذا إلى تقارب بين كلا الحزبين.

أزمة أمنو

وحصل تحالف الجبهة الوطنية الذي يتصدره حزب أمنو بزعامة رئيس الوزراء الحالي، إسماعيل صبري يعقوب، على 30 مقعداً، مع العلم أنه هو الذي دعا إلى انتخابات مبكرة، بعد أن كان من المقرر إجراؤها في أيلول/سبتمبر 2023، لكنه حل البرلمان ودعا للانتخابات على أمل تعزيز قبضته على السلطة، على عكس ما حدث.

وقد عاد حزب أمنو إلى السلطة بأغلبية ضئيلة في عام 2021، مستفيداً من الصراعات بين الحكومتين اللتين سبقتاه، لكن الاتهامات بالفساد التي طالت قادته أضعفت من مركزه؛ فنجيب عبد الرزاق، رئيس الحزب السابق، ورئيس الوزراء السابق، في السجن، ورئيسه الحالي، أحمد زاهد حميدي، يواجه اتهامات أخرى، وسادت الخشية قبل الانتخابات من أن يؤدي فوز أمنو إلى إطلاق سراح نجيب وإزالة تهم الفساد ضد عديد من قادة الحزب.

ويشعر الماليزيون بالإحباط بسبب عدم الاستقرار السياسي الذي يعتقدون أنه أبعد تركيز السياسيين عن التنمية الاقتصادية للدولة التي شهدت منذ 2018، ثلاثة رؤساء وزراء مختلفين، وكان الاقتصاد وارتفاع تكلفة المعيشة مصدري قلق رئيسيين للناخبين.

تشكيل الحكومة

رغم حصول ائتلاف أنور إبراهيم على المركز الأول فإنه لم يحز الأغلبية، ومعظم الملايو يعارضونه، ويحاول منافسه محيي الدين ياسين، استغلال هذا الأمر لتشكيل الحكومة، وهنا تتعاظم أهمية تكتل جزيرة بورنيو الذي يشغل 28 مقعدًا، ونفس الأمر بالنسبة لأمنو.

وقال أنور إبراهيم في مؤتمر صحفي، إنه حصل على دعم كتابي من نواب للحصول على أغلبية بسيطة أي أكثر من 111 مقعداً، وقال إن هذا يجب أن يخضع لملك البلاد، الذي سيكون له الكلمة الأخيرة.

وتعهد أنور سابقاً بأنه لن يعمل مع إسماعيل صبري يعقوب أو محيي الدين بسبب «خلافات جوهرية» معتبراً أن أي شكل من أشكال التحالف يمثل انتكاسة كبيرة لأنهم إما متطرفون عنصريون أو دينيون.

في غضون ذلك قال محيي الدين، إنه تلقى رسالة من القصر تشير إلى أن كتلته ربما أعطت الأفضلية لتشكيل حكومة، وإنه واثق من قدرته على تشكيل حكومة مستقرة ومستعد للعمل مع أي شخص باستثناء تحالف أنور إبراهيم، وإنه سيتحدث إلى أحزاب بورنيو للحصول على الأغلبية.

ومع فشل أي من هذه الأطراف في حصد مقاعد كافية لتشكيل أغلبية، فإن حكومة ائتلافية سيتم تشكيلها بناءً على مدى نجاح الحزبين الكبيرين في اجتذاب الكتل الأصغر حجماً.