في جزيرة جوادالكانال في المحيط الهادي حيث جرت معارك الحلفاء مع اليابان، تسببت الملاريا في مقتل أربعة آلاف من المارينز في حين أن المعركة ذاتها لم يسقط فيها سوى 1700 ضحية.

الجيوش التي فشلت في دخول المدن قديما عندما ضربتها الملاريا، الأمريكيان بعد وصول كولومبوس وكيف توغلت الملاريا في الأرض الجديدة ووجدت البيئة لتنتشر، عندما تسافر لأفريقيا يقرع في وجهك النذير من الوحش المجهول، ليست الضواري المفترسة، ولكنه البعوض، «احذر اللدغة القاتلة».

الملاريا التي لا تفرق، فقد أصابت الجميع من جنكيز خان إلى الأم تيريزا.

الملاريا، المرض الذي لايزال هاجسا في المناطق المدارية ويتسبب في وفاة ملايين كل عام خاصة الأطفال جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، وينتشر في جنوب آسيا ووسط وجنوب أمريكا اللاتينية.


ما هي الملاريا؟

http://gty.im/477113878

عرف الرومان الملاريا منذ ألفي عام. كانوا يعتقدون أن المسبب للملاريا هو الهواء الفاسد الناتج عن التخمر المتسرب من البرك والمستنقعات خارج المدينة، فأطلقوا عليها اسم ملاريا الذي يعني بالإيطالية mal’aria الرائحة الكريهة.

والملاريا مرض قاتل تسببه طفيليات تسمى plasmodium (المُتَصَوِّرة)، ونعني بالطفيلي أنه كائن يعمد على كائن آخر للغذاء والتناسل. ينتقل الطفيلي إلى الإنسان عن طريق لدغة أنثى بعوضة تدعى Anopheles. وتصل عدد حالات الملاريا عالميا في 2015 طبقا لـمنظمة الصحة العالمية WHO ما يقرب من 212 مليون حالة بنسبة وفيات تصل إلى 29%.

هناك 400 نوع من بعوضة Anopheles، ستون نوعا منها تنقل الملاريا. ويمكن أن تنتقل الملاريا أيضا عن طريق نقل الدم والحبل السري للأم، لكن بنسبة ضئيلة.

ومع أن الملاريا مرض معقد، فإن الكشف المبكر عن الإصابة وتناول العلاج يقلل نسب الوفاة.


الأنواع

هناك أكثر من 50 نوعا من طفيلي المُتَصَوِّرة (plasmodium)، فقط أربعة هي التي تسبب الملاريا للبشر

  1. Plasmodium falciparum- المتصورة المنجلية
  2. المتصورة النشيطة (Plasmodium vivax)
  3. المتصورة البيضية (plasmodium ovale)
  4. المتصورة الوبالية (plasmodium malarie)

يعد plasmodium flaciparum أشد الأنواع فتكا وخطورة ويقاوم غالبية أدوية الملاريا، وينتشر أكثر في أفريقيا.


أنثى الأنوفيليس الدموية

لا يهتم ذكر بعوضة Anopheles بالدم البشري، فهو يتغذى على رحيق النبات، لكن الأنثى تتغذى على الدم الغني بالبروتين اللازم لوضع البيض. تستطيع البعوضة رؤية الحرارة الناتجة عن أجسامنا في صورة أشعة تحت حمراء عن طريق مجسات على قرون استشعارها.. فم البعوضة الذي يشبه الخنجر يعمل بوظيفتين، أولا يخترق الجلد إلى الشعيرات الدموية ليمتص الدم، وأيضا يعمل كرشاش للعاب لمنع الدم من التجلط حتى تنتهي البعوضة من وجبتها. هذا اللعاب هو الذي يحوي الطفيلي plasmodium المسبب للملاريا.


دورتا حياة

دورة حياة طفيل الملاريا

تعد بعوضة Anopheles هي الناقل والعائل الوسيط للملاريا، حيث يحتاجها الطفيلي لاستكمال دورة حياته. تعتمد البعوضة على وجود الماء الراكد مثل البرك والمستنقعات لوضع البيض. ثم تخرج اليرقات من البيض لتتحول اإى شرانق ثم حشرة كاملة. ولو انتقل الطفيلي إلى بعوضة من نوع آخر غير ناقل للملاريا فإنها ببساطة تمتص خلايا الطفيلي وتهضمها، لكن طفيلي الملاريا مقاوم للكيماويات الهاضمة التي تفرزها بعوضة Anopheles.

والتكاثر في حالة طفيلي palsmodium من نوع تعاقب الأجيال أي يحدث التكاثر على مرحلتين جنسية ولا جنسية.

تبدأ أنثى Anopheles بالبحث عن وجبة، فتلدغ شخص مصاب بالملاريا، وهنا يدخل الطفيلي إلى الدم ثم يتجه مباشرة نحو الكبد، حيث يتغذى على محتويات الخلية ويتكاثر لاجنسيا، أي أن كل طفيلي ينقسم إلى نسختين متماثلتين من نفسه. يستمر في التكاثر لمدة 9 إلى 16 يوما بعد ذلك تبرز من الكبد وتتجه لمهاجمة كرات الدم الحمراء. تنضج الطفيليات داخل كرات الدم الحمراء وتتغذى على الهيموجلوبين وتستمر في عملية التكاثر اللاجنسي، وفي النهاية تنفجر كرة الدم الحمراء. بعضها يعود للكبد للتكاثر مجددا والأخرى تتحول اإى خلايا تكاثر جنسي. وعندما تبتلع بعوضة الملاريا خلايا الطفيلي الجنسية تتحد الخليتان داخل أمعاء البعوضة. تستمر الخلايا في الانقسام، ولكنها لا تلبث في الأمعاء وتنتقل خلال فترة من عشرة أيام إلى أسبوعين إلى الغدة اللعابية للبعوضة، وتحقن مع اللعاب في ضحية جديدة في الوجبة التالية.

تختلف مدة الحضانة والتكاثر بين الأنواع الأربعة للطفيلي، لكن P. falciparum الذي يتسبب في غالبية الوفيات من الملاريا يتكاثر بمعدل أسرع وله أقل فترة حضانة.


أعراض خادعة

بعد أن تهاجم طفيليات الملاريا كرات الدم الحمراء وتتغذى على محتوياتها من بروتين وجلوكوز، تنقسم وتتكاثر ثم تنفجر الخلايا وينتج عنها نواتج أيض سامة. يبدأ عندها المريض يشعر بالبرودة وترتفع درجة حرارته وتأتيه نوبات من القشعريرة والتعرق الشديد. يصاحب ذلك صداع وإجهاد وآلام العضلات. يحصل الطفيلي على الطاقة من الجلوكوز ويمكن أن يتسبب في انخفاض مستوى السكر. كما يتسبب في الأنيميا وتضخم الطحال. عندما تصل نواتج الأيض التي تفرزها الطفيليات إلى الكلى يتغير لون البول إلى القاتم. وأيضا يزداد وجود سوائل على الرئة ويصاب المريض بالسعال.

في حالة P. falciparum يمكن أن تصل الطفيليات إلى الشعيرات الدموية في المخ وتسبب التشنجات وشلل الأعصاب، وتسبب تضخم في المخ وفي النهاية غيبوبة تؤدي إلى الوفاة. ويحتاج المريض إلى نقل الدم والمحاليل والغسيل الكلوي.

أعراض الملاريا غير منتظمة وعشوائية ولذلك يكثر التشخيص الخاطئ بالإنفلونزا أو التهاب الكلى.


اكتشاف الملاريا

بعد آلاف السنوات من المرض المجهول، كشف عن طفيلي Plasmodium بواسطة جراح مغمور في الجيش الفرنسي يدعى ألفونسي لوفيران، والذي لم يصدقه أحد إلا بعد تطور الميكروسكوب الضوئي فحاز نوبل في الطب عام 1907.

هذا بالنسبة للتاريخ، أما عن الكشف عن وجود الطفيلي بالدم فهو بعدة طرق أهمها:

  1. فحص عينة الدم تحت الميكروسكوب ورؤية الطفيليات في كرات الدم الحمراء
  2. باستخدام مقياس عبارة عن ورقة يتغير لونها بالتفاعل مع الطفيلي في عينة الدم.
  3. عن طريق تفاعل (PCR Polymerase chain reaction) حيث يتم مضاعفة أجزاء الحمض النووي لكي يتم التعرف على جينات الطفيلي.
  4. الكشف عن الملاريا المزمنة لدى مريض سبق إصابته عن طريق يسمى (fluorescent antibody test IFA) حيث تعطي لونا أخضر فوسفوري في حالة وجود الطفيلي.
  5. اختبار يدعى (ELISA enzyme-linked immunosorbent9) حيث يتم خلط مصل الدم والبروتينات مع مستضدات الملاريا antigens للطفيلي وإضافة كاشف اللون الذي يتغير عند وجود الأجسام المضادة للطفيلي.

مناعة وراثية.. لكن!

يمكن أن يورث الأشخاص الذين تعرضوا للملاريا المناعة لذريتهم، لكن هؤلاء يجب أن يستمروا في التعرض لها. فلو عاشوا في بيئة خالية من المرض، فسيأتي جيل مستقبلي معرض للإصابة. كما أن الشخص المقاوم للملاريا يمكنه أيضا أن ينقلها اإى أي مكان بالسفر شرط توافر البعوضة.

هناك بعض الأمراض الوراثية التي تؤثر في خلايا الدم الحمراء وتحورها فلا يصيبها الطفيلي، فتمنح مناعة ضد الملاريا، لكنها مناعة بنكهة المرض. مثل مرض أنيميا فقر الدم المنجلية Sickle- cell anemia، وأيضا مرض الثلاسيميا.


الأدوية تواجه بمقاومة

http://gty.im/496811654

كان الكينين المستخرج من لحاء شجرة الكينا أول علاج للملاريا، حيث استخدمه العرافون كعلاج للحمى، وثبتت فاعليته مع الملاريا لكنه لا يقضي على كامل الطفيليات، ولا يؤثر على كل مراحل نمو الطفيلي، لكنه يحتوي المرض. وخلال الحرب العالمية الثانية طور الكينين الصناعي chloroquine.

والمضادات الحيوية لا تقتل الطفيليات لكن doxycycline ثبتت فاعليتها ضد الملاريا، حيث يستخدم مع quinine sulphat لمدة سبعة أيام لعلاج P. falciparum، لكن له آثارا جانبية قد تصل اإى فقدان السمع. وأيضا الميفلوكين mifloquine يستخدم لمدة 3 أيام، ويعيبه اضطراب المعدة الناتج عنه، فيؤخذ معه مانع للقيء.

تستخدم أدوية الملاريا غالبا في صورة مزيج من أكثر من نوع، وعند السفر إلى أماكن تفشي الملاريا يتناول المسافرون جرعات من الدواء قبل السفر وبعد العودة لمدة 4 أسابيع بمعدل قرص كل أسبوع.

ومن عشب يدعى sweetworm wood تم استخراج مادة artemisinin التي تستخدم مع mifloquine وتعطي فاعلية عالية حتى في الأماكن التي تشهد مقاومة للأدوية التقليدية.

أما عن طفيلي P. falciparum فقد أصبح مقاوما لغالبية أدوية الملاريا. وهي تشبه مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية حيث تتكون سلالات مقاومة بتكرار استخدام الدواء.

وأيضا بعض الطفيليات من هذا النوع تفتقد بروتين يدعى (histidine rich protein 2 HRP2) الذي تستهدفه تفاعلات الكشف عن وجود الطفيلي في الدم مم يتسبب في التشخيص الخاطئ وتأخير العلاج واستعصاء الحالة على الأدوية لاحقا.


مواجهة ووقاية

ليس هناك لقاح حتى الآن يمكن تداوله تجاريا للوقاية من الملاريا، لكن طرق المواجهة تعددت على مر التاريخ.

في البداية عن طريق تدمير مستوطنات اليرقات، الحلقة الأضعف في دورة حياة بعوضة Anopheles، عن طريق تجفيف البرك والمستنقعات والقنوات وتدمير البيئة التي تسمح لها بالتكاثر. يمكن أيضا قتل اليرقات عبر مبيد حشري مثل (DDT C14H9Cl5) الذي ثبت فاعليته في ستينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة والبرازيل، لكن توقف استخدامه نتيجة خطورته البيئية.

يمكن أيضا استخدام الستائر على النوافذ والخيام المجهزة عند الخروج للبراري، كذلك مبيدات الحشرات الطائرة مثل مبيد (diethyl-meta-toluamide DEET). ساهمت أيضا الشباك الحامية من البعوض وقت النوم في تقليل الإصابة في أفريقيا، حيث تشكل حاجزا لتسلل البعوضة.

يظهر تقرير WHO لعام 2016 تحسنا كبيرا في مكافحة الملاريا خلال الفترة من 2010 إلى 2015 في أفريقيا، لكن يظل معدل الوفيات في دول مثل جنوب الصحراء ووسط أفريقيا تحتاج إلى المزيد من الجهد.

يشغل تصنيع لقاح ضد الملاريا المؤسسات البحثية الطبية، لكنه أمر صعب، حيث يحتوي طفيلي الملاريا على 5000 جين، كذلك هروبه وتنقله الدائم بين البعوضة وكرات الدم والكبد يجعل تصميم لقاح يكفاحه في كل الأطوار أمرا معقدا. وهناك عدة لقاحات مازالت في طور البحث لكن لم يعبر أي لقاح الاختبارات نحو التداول التجاري بعد،أحدثها ما يظن الباحثون أنه يحمي من المرض بنسبة نجاح تبلغ 100%.

كما أن بعض الأبحاث الجديدة تستهدف جينات P.falciparum بالتدخل في المحتوى الجيني للطفيلي أو تنشيط المناعة ضده. وربما نجد قريبا اللقاح الذي ينهي أسطورة الملاريا، فلا نتمنى أن تستمر الطفيليات في فصول المقاومة والعناد الدامية.

المراجع
  1. Malaria Medscape
  2. Malaria (Deadly Diseases & Epidemics by Bernard A Marcus
  3. Malaria—Bedlam in the Blood
  4. WHO