منذ صدوره عام 1941 تلاصق فيلم المواطن كين Citizen Kane لأورسن ويلز أسماء التفضيل، أفضل فيلم في تاريخ السينما، أعظم تصوير سينمائي والفيلم الأكثر تأثيراً، وهكذا. يعتبر الفيلم تحفة بصرية وسردية أثرت في كل ما بعدها ومهدت الطريق لتجارب لم يتخيل أحد نجاحها، ولعل أحد أهم أسباب صمود الفيلم في اختبار الزمن ونجاحه هي وجهة النظر السردية واستخدام الرواة المتعددون لغزل قصة شخص واحد من نقاط متباعدة في تاريخه، يملك كل راو نظرة مختلفة ذاتية عن حياة شارلز فوستر كين الغامضة والشهيرة في الآن ذاته، لكن لم يسلم ذلك النجاح من جدل لم يحل حتى لحظتنا تلك.

جدل مثل الفيلم يأخذ شكل وجهات النظر المتعددة ومنذ صدوره حتى الآن حاول كثيرون جمع خيوطه للوصول إلى حقيقة واضحة، آخر تلك المحاولات هي فيلم «مانك».

في فيلمه الأخير Mank اعتمد ديفيد فينشر رؤية نص كتبه أبوه جاك عن الكاتب الحقيقي لفيلم المواطن كين في إحدى السرديات الكثيرة عن الجدل الدائر حول الفيلم، يتقاسم أورسون ويلز حقوق كتابة الفيلم بشكل رسمي مع كاتب هوليوودي شهير يسمى هيرمان مانكويتز، مثل مانكويتز أو مانك عنصر أساسي في نقل الأستوديوهات الهوليوودية من السينما الصامتة إلى الناطقة بكتاباته الذكية وحواراته المثيرة، لكنه كان أشبه بالكاتب الشبح، يكتب دون اسم أو ظهور إلا نادراً، المواطن كين كان أحد تلك النوادر، يبني جاك فينشر سرديته على مقال ضخم للناقدة الشهيرة بولين كيل يتبنى إحدى الرؤى المتعددة للجدل القائم عن الكاتب الحقيقي لكين، رسمت كيل سردية متشعبة بالبحث وتجميع وجهات النظر والمحاورات مع معاصري فترة صنع الفيلم تفيد بأن هيرمان مانكويتز هو الكاتب الأوحد للمواطن كين، وأن كل ادعاءات ويلز عن نفسه وادعاءات هوليوود عنه كونه الشاب المعجزة هي محض هراء.

وجهة نظر

فيلم مانك، بداية من عنوانه هو قصة عن مقطع مهم في حياة كاتب السيناريو هيرمان مانكويتز (جاري أولدمان)، رحلته العقلية والجسدية وسياقات كتابته للمواطن كين، السيناريو الذي كتبه جاك فينشر يمزج الماضي بالحاضر مثل مصدره الرئيسي (المواطن كين)، في تتابعات متصلة تظهر حالة مانك في الأربعينيات أثناء مكوثه في عزلته وإصابته المقيدة، محاولًا كتابة سيناريو في ستين يوم بناء على طلب ويلز، أيام يقضيها مانك بين شرب الكحوليات ومحاولة التعافي وتذكر حياته منذ عشر سنوات حيث عايش رجل أعمال فاحش الثراء يدعى ويليام رودلف هيرست وحبيبته الممثلة التي تصغره سناً ماريون ديفيز.

يتبنى الفيلم من بدايته السردية القائلة إن مانك هو كاتب المواطن كين، وإن أورسون ويلز هو مجرد طفل كبير مخمور بشهرته المفاجئة يملي الأوامر ويتحدث بلهجة متعالية ينتظر كلمات جاهزة للتصوير ويتابع عن طريق التليفون، لكنها ليست قصة كين في النهاية إنها قصة مانك، يعطي فينشر الأب لمانك بعداً سياسياً تخيلياً فتصبح البروباجندا وتأثير السينما على الجماهير هي إحدى تيمات الفيلم الأساسية بخاصة مع التوقيت الذي يتناوله وصعود هتلر وسياساته الإعلامية بقيادة وزيره الشهير جوبلز ورؤاه عن التلاعب والتأثير البصري والسمعي، الذي يجعل الوهم حقيقة، والحقيقة وهماً.


مثل المواطن كين يتبع مانك طريقة سرد متشظية لكنها تعتمد في تلقيها وتكوين صورة كاملة منها على نص آخر وهو المواطن كين نفسه، يصعب متابعة الفيلم أو مجاراته دون خلفية مسبقة عن الشخصيات التي يتناولها المواطن كين، فكل شخصية حقيقية في مانك هي إلهام لشخصية سينمائية يسهل على أي مشاهد للفيلم الكلاسيكي تذكرها، هيرست هو كين وماريون هي سوزان و ماير هو برينستين، يعزز غرق مانك في ذكرياته الشخصية في معايشة هؤلاء الأشخاص الفرضية الرئيسية للفيلم وهي أن الفيلم وشخصياته بالكامل من صنيعة خيال مانك.

بعيداً عن الجدل الذي يحيط بقصة الفيلم أو الفرضية التي ننتظر أن يخرج بها الفيلم، مانك هو قصة عن الكتابة، عن الإلهام والذكريات التي تصنع الشخصية الدرامية في عقل المبدع، عن الإدمان والاعتمادية والحب غير المشروط، يظهر مانك مخموراً معظم الوقت، في ذكرياته تنقذه زوجته سارة في كل موقف حرج ولا يتوقف هو عن التلفظ بالغرابة أمام الجميع، مانك في الفيلم هو موهبة كبيرة لم تقدر من المنظومة الهوليوودية، لكنه في الأساس لا يملك أي تقدير لذاته، فقط عندما يشعر أنه قد صنع عمله الأفضل يبدأ في الإصرار على الانتصار للكتابة.

الانتصار للكتابة

يصعب فصل الفيلم عن سياق صنعه وعن آراء صناعه خصوصاً لأنه يتناول جدلاً لم يحسم حتى الآن وتلعب فيه التفضيلات الشخصية دوراً كبيراً، تصف بولين كيل في مقالها المطول أورسون ويلز بأنه سيكوباتي متعجرف وتظهر مانك كبطل مهدور حقه، تلك الرؤى الحدية هي ما تحكم سيناريو فينشر الأب وتمتد إلى خيارات الابن الإخراجية وإلى رؤيته الشخصية في أورسون ويلز وفي هوليوود وصناعة الأفلام.

يمثل فيلم مانك خطاب حب لجاك فيشنر من ابنه ديفيد، لا يوجد ما هو أكثر شاعرية من إحضار نص منسي للحياة مرة أخرى،  لكن التزام فينشر بذلك النص أفقد الفيلم الاتجاه والتركيز فأصبح عن كل شيء ولا شيء، وأصبح جماله البصري وعنصر الحنين للماضي هو الجاذب الرئيسي بجانب الجدل التاريخي الذي لا ينتهي، يتبنى الفيلم وجهة نظر مانك كونها قصته طيلة مدة الفيلم ويتم ضغط الصراع الرئيسي في عدة دقائق يصعب أخذها بجدية، بخاصة بالنسبة لرسم شخصية ويلز التي يلعبها توم بيرك بشكل كاريكاتيري هامشي، مجرد صوت متعجرف في الخلفية، يتلخص الصراع في مواجهة مباشرة بين مانك وويلز، أي بين الكاتب والمخرج، وبكلمات أخرى بين صنعة الإخراج نفسها في مقابل الكتابة.

جاري أولدمان وتوم بيرك من فيلم Mank
جاري أولدمان وتوم بيرك من فيلم Mank

مرت السينما كفن حديث بتغيرات كبيرة في وجهات النظر تجاه فكرة نسب الفيلم، هل ينسب لمخرجه، لكاتبه أم لشركة الإنتاج أو الأستوديو المتحكم، في أواخر الأربعينيات بزغت نظرية المخرج المؤلف، النظرية المربكة نظراً لطبيعة صناعة الأفلام الجماعية والجهد البشري الضخم الذي تتضمنه، تعتمد النظرية على فكرة الرؤية الإبداعية المتمثلة في شخص واحد وهو المخرج، لا تنبذ جهود الآخرين بالكامل لكنها تعامل الأفلام كأعمال فنية تملك رؤية محددة وتفضيلات شخصية مثل الأدب والفن التشكيلي.

 في 1941 وضعت شركة الإنتاج السيطرة الكاملة في يد ويلز وهو الذي لم يصنع فيلماً في حياته وبدأ حياته السينمائية بالفيلم الملقب بالأعظم في التاريخ بعد مسيرة في برامج الراديو والعروض المسرحية، بذلك جعلت الشركة من ويلز مشرف على خيارات وفنيات الفيلم وبذلك القدر من التحكم أصبح  هو المخرج والممثل الرئيسي والكاتب بجانب مانكويتز وأصبح الفيلم تنفيذاً واقعياً لنظرية المخرج المؤلف ربما قبل صكها واعتمادها كنظرية لها مؤيدون ومعارضون.

في كل من مقال كيل وسيناريو فينشر وأخيراً الفيلم الناتج عنه يعلو صوت الانتصار للكتابة كمفهوم أو على الأقل لحقوق الكاتب في فيلم لقب بالأعظم، هو طريقة لفتح نقاش جديد عن نظرية المخرج المؤلف، ربما يحسم الفيلم رأيه بإثبات أن مانك هو الأحق بكل الاحتفاء الذي ناله المواطن كين لكن بالنظر لصناعة فيلم مانك نفسه فإنه يملك رؤية واضحة وسيطرة إخراجية تتمثل في ديفد فينشر حتى مع اعتماده الكامل على نص كتبه غيره.

جماليات الأخطاء

أياً كان ما تجده غريباً، قبيحاً، غير مريح في وسيط جديد سوف يصبح علامته المميزة، تشويش الأسطوانات المدمجة أو تذبذب التصوير الرقمي أو أصوات ألعاب الفيديو، كل تلك الأشياء سوف تصبح مقدرة  فور تجنبها، ذلك هو صوت الفشل، كثير من الفن الحديث هو صوت الأشياء الخارجة عن السيطرة، هي الوسيط عندما يصل إلى أقصى حدوده ثم ينكسر، صوت الجيتار المشوش هو صوت أعلى مما يمكن للوسيط حمله، صوت مغني البلوز المتهدج المنكسر هو صوت صرخة عاطفية أقوى من أن يطلقها الحلق، الحماس لحبيبات الفيلم الخام، لصورة الأبيض والأسود الباهتة، هو حماس لشهود أحداث أكثر لحظية من الوسيط المفترض به تسجيلها.

ورد ذلك المقطع في كتاب لبراين إينو أحد أعلام الموسيقى الطليعية والتجريبية، يحلل إينو كيف تحتضن الفنون الحديثة والمعاصرة الأخطاء التقنية المرتبطة بالماضي وجعلها جزءاً من جمالية مقصودة سواء لاستدعاء ذلك الماضي أو للاستخدام المجرد، يمكن لمس ذلك في الخيارات السينمائية بخاصة في السنوات الأخيرة كرد فعل على كل التطورات السردية والتقنية المفرغة من المضمون، تكررت مؤخرا ميول لإعادة استكشاف الأسلوبيات الماضية، كفعل ثوري بشكل ما نظراً لقلة الإقبال عليها وكونها جزءاً من إرث يتعلق بجوهر الفن نفسه.

في خلال العشرة أعوام الأخيرة في السينما حقق فيلمان يستدعيان صناعة السينما تقنياً وسردياً نجاحاً جماهيرياً ونقدياً عارماً هما الفنان the artist 2011 ولا لا لاند la la land 2016،  يمكن وضع مانك في نفس الفئة مع الفارق أنه يحكي أحداثاً تاريخية وليست متخيلة بالكامل، ما يربط الأفلام الثلاثة هو الاهتمام بكواليس الصناعة وطبيعة الأستوديوهات كما أنها تمثل احتفالاً كرنفالياً بالسينما وفنياتها المتفردة باستدعاء بداياتها وتطوراتها الأولية أو عصورها الذهبية ووضع لمسة معاصرة على كل ذلك مما يجعل الجمهور المعاصر قادراً على الاستمتاع بالتجربة بشكل منفصل عن السياق التاريخي.

اعتمد ديفد فينشر في فيلم مانك على صورة موحدة اللون بالأبيض والأسود للاستدعاء المباشر للحقبة التي يحكيها والفيلم الذي يشير إليه فيسهل الربط بين ما يعرضه وما نتذكره، كما أنه احتضن الأخطاء والعقبات التي واجهت صناع السينما القدامى أثناء تعاملهم مع الفيلم الخام، من اهتزازات في الصورة وحبيبات ظاهرة، وبقع سوداء من أعقاب السجائر وفوارق في الزمن ناتجة من تغيير لفائف الفيلم.

يصنع فينشر ذلك بالتقنيات الحديثة المرتبطة بالسينما الحالية لكنه يطوعها لبناء عالم من زمن آخر، فلكي نصل إلى النتيجة البصرية الباعثة على الحنين للماضي إضافة للجمال المجرد من السياق يقرر العديد ممن يبحثون عن تلك النتيجة استخدام الأفلام الخام في التصوير والاعتماد على مصادر الإضاءة الطبيعية وترك الوسيط يرتجل ويخطئ.

 في حالة فينشر الشهير بتركيزه الشديد وهوسه بالكمال استخدم مع مصوره اريك مسيرشميدت الكاميرات الرقمية الحديثة وتلاعبوا بالنتيجة للوصول للشكل النهائي للفيلم الذي أصبح مزيجاً بين استدعاء الحنين والشكل المعاصر للصورة غير الملونة، لم يلغ مسيرشميدت كون مانك فيلماً صنع في عام 2020 ، فبحسب كلامه قد استخدم أساليب متنوعة من عدة حقب زمنية في مشاهد الماضي في الثلاثينيات ومشاهد الحاضر في الأربعينيات فأصبحت صورة الفيلم واعية بكونها تستحضر صوراً أقدم من حقيقتها ولا تدعي أنها نسخة من حقبة أقدم.

المواطن كين 1941
المواطن كين 1941
مانك 2020
مانك 2020

يمكن اعتبار ذلك الميل لاحتضان أخطاء الماضي هو عكس ما فعله ويلز بجلب التطور الموضوعي والتقني للسينما، خلد المواطن كين لأنه أحد أكثر الأفلام المجددة في تاريخ السينما، مجددة على مستوى التقنيات الفنية والسردية، يقاس تأثيره ليس بكونه ما هو عليه بل لأنه جعل السينما وبخاصة الهوليودية ما هي عليه الآن، وعلى الرغم من أن فيلم مانك اتجه للماضي وليس للمستقبل، فإنه يمثل تجربة بصرية سمعية  ثرية حافلة بالأداءات التمثيلية المتميزة، يعطينا نظرة داخلية في عالم لا نطرقه كل يوم، لكنه يبدو مهتماً بإثبات انحيازاته أكثر من عرض رؤى سردية متعددة مثل الفيلم الذي يطمح لتفكيك عملية صناعته.