يعتقد الكثيرون أن كل ما يطلق عليه لفظ «بحث علمي» أو «دراسة علمية» يستحق التصديق، ومن ثمَّ التطبيق. خاصة إذا كانت نتائجه غريبة بعض الشيء، وتلقَّفتها بعض وسائل الإعلام الشهيرة، ولمَّعتها بأساليب (البروباجندا) المعروفة. سنعرف في هذه السلسلة أن هذا خطأ جسيم. فالدراسات العلمية – الطبية وغير الطبية – تتفاوت كثيرًا في مدى مصداقية النتائج التي تؤخذ منها.

وتكون تلك المصداقية حسب نوع الدراسة، وكيف قام بها الباحثون، ومدى التزامهم بمعايير البحث العلمي، ومدى حسن اختيارهم لنوع الدراسة الأنسب لما يبحثون عنه. ولذا فتحسس مسدس الشك العلمي الخاص بك، عندما تقرأ خبرًا سيَّارًا عن اكتشاف علمي جديد، أو علاج جديد مذهل للمرض الفلاني أو «الترتاني»، أو أن العلم الآن أصبح يرى كذا أو كذا.. إلخ، فالأمر ليس بهذه السطحية.

أشرنا في المقال السابق (مدخل إلى البحث العلمي الطبي: الدليل العلمي) إلى هرم الدليل العلمي. وفي هذا الجزء والذي يليه سنصعد سويا عبر طبقاته. ومع كل خطوة نرتقيها سيصعب خداعنا ببريق الكذب العلمي الذي كاد يطغى على البحث العلمي الحقيقي.


هرم الدليل العلمي

هرم الدليل العلمي evidence-based medicine pyramid هو نموذج تقليدي لتراتُبِـيَّة الدراسات العلمية، حسب قوة الدليل العلمي من أسفل لأعلى. ورغم وجود بعض الاختلافات في تعريف درجاته وطبقاته، فإن مجملها يصب في تصورٍ متقارب. في قاعدته الدراسات العلمية الطبية على الحيوانات، ثم آراء الأطباء والخبراء المدعومة بتجاربهم وأفكارهم وليس بدراساتٍ منهجية، ثم تأتي الدراسات العلمية الطبية على حالاتٍ بشرية ابتداءً من الأقل في قوة الدليل إلى الأعلى كلما ارتقينا درجة، حتى نصل إلى قمة الهرم، وأقوى الأدلة.


طبقات الدراسات العلمية الطبية study designs في هرم الدليل:

من أسفل لأعلى:
  • في القاعدة.. تقرير عن حالة واحدة Case report study.
  • تقرير عن سلسلة حالات Case series.
  • دراسة مقطعية في مكان ولحظة معيَّنيْن، لدراسة الانتشار الآني لبعض الظواهر الطبية. Cross-sectional study.
  • دراسة مقارَنة بأثر رجعي بين حالات مصابة، وأخرى غير مصابة بحالة مرضية، لاستجلاء أسبابها Case-control study
  • دراسة مستقبلية عن عوامل الخطر ودورها في نشوء وتفاقم الحالات المرضية Cohort study.
  • الدراسة الإكلينيكة المنضبطة على عينة عشوائية Randomized controlled trial RCT، وهي واسطة العقد في هرم الدليل العلمي، وبداية الدرجات العلا فيه، وأساس ما يعلوها من طبقات.
  • المقالات الطبية المراجَعَة نقديًا Critically-Appraised Topics ، ويرمز لها اختصارًا CATs، وتعتبر نوعًا موجزًا من النوع التالي.
  • المراجعة الممنهجة التفصيلية للدراسات الإكلينيكية القوية systematic review.
  • التحليل البعدي Meta-analysis والذي يدمج العديد من الدراسات الإكلينيكية القوية والمراجعات الممنهجة في تحليل إحصائي واحد، فيوسع حجم العينة المدروسة sample size، فيقلل احتمالات الخطأ، ويضاعف قوة الدليل، وإمكانية تعميم النتائج.

والآن نُفصِّل قليلاً في كل نوع:

1- تقرير الحالة الواحدة Case report study:

دراسة وصفية observational study لحالة طبية مميزة. تصفها جيدًا، وكيف تم التعامل معها وفقاً للمعرفة الطبية المتاحة في زمانها ومكانها. ونظرًا لكونها تشتمل على حالة واحدة قد لا بمكن القياس عليها، كما لا تتضمن مجموعة مُقارَنة control group، وأيضًا يغلب عليها الاعتماد على رأي الخبير، فليست مصدرا لدليل علمي قوي. لكنها تلفت النظر إلى ظواهر وحالات طبية فريدة.

ويحسب لها أنها كانت الأصل الذي تفرعت منه شجرة الدراسات العلمية. فأساس ظهور العلم الطبي كان الملاحظة الجيدة لظواهر أو أعراض جديدة وغريبة، ولَفْتُ نظر المجتمع العلمي إليها، لتبدأ دراسات أكثر وأقوى هنا وهناك تؤكد النتائج الأولية أو تنفيها.

ومن أشهر الأمثلة الحديثة التي تدل على أهميتها اكتشاف مرض الإيدز AIDS، والذي بدأ بتقارير طبية عن حالات من المثليين جنسيًا homo-sexual مصابين بالتهاب رئوي يسببه طفيل pneumocystis carinii الانتهازي، الذي لا يصيب سوى أصحاب المناعة الضعيفة.

2- تقرير عن مجموعة من الحالات Case series study:

وهذا النوع هو توأم النوع الأول، لكنه يتضمن دراسة وصفية لسلسلة من الحالات التي تشترك في ظاهرة طبية ما، وليس حالة واحدة.

3- الدراسة المقارنة بأثر رجعي Case control study:

وهنا ترتفع قوة الدليل عن سابقاتها، إذ يتم المقارنة بين مجموعتيْن. مجموعة الـ Case، وتضم الحالات المصابة بالمرض الذي نقوم بدراسته. والثانية الـ Control وتضم حالات سليمة. ويقوم الباحث من خلال التقارير الطبية، والتاريخ المرضي للحالات، بالبحث في الماضي عن مسببات محتملة exposure تعرَّضَت لها المجموعة المريضة، ولا توجد عند المجموعة السليمة، وذلك للوصول إلى الأسباب الحقيقية التي أنتجت الحالة المرضية outcome.

أي أن طرف الخيط يبدأ بالنتيجة المرضية outcome، ونهايته التي يريد الباحث الوصول لها هو ما تعرَّضت الحالة له exposure.

ويتم حساب ما يسمى بالـ odds ratio (وتعني حرفيا نسبة الاحتمالات)، وهي تحسب من نسبة عدد الحالات التي وُجد أنها تعرضت لمُسَبِّب معين exposure، إلى عدد الحالات التي لم تكن تعرَّضت لهذا المسبب. ولابد أن تزيد النسبة عن 1 لنتحدث عن احتمال وجود علاقة سببية بين النتيجة والمسبب. وكلما زادت القيمة، زاد الاحتمال.

ويتم حسابها من خلال وضع نتائج الدراسة في جدول 2*2 كما هو مبين:

وتكون الـ odds ratio = قسمة (أ/جـ) / (ب/د) = أ*د/ ب*ج .. حيث:

المجموعة أ هي الحالات المرضية التي تعرضت للمسبب المحتمل.

المجموعة ب هي الحالات غير المصابة التي تعرضت للمسبب المحتمل.

المجموعة جـ هي الحالات المرضية التي لم تتعرض للمسبب المحتمل.

المجموعة د هي الحالات غير المصابة، والتي لم تتعرض للمسبب المحتمل.

ولحساب الـ odds ratio بطريقة سريعة إلكترونيًا .. من هنا.

4- الدراسة المستقبلية عن دور عوامل الخطر في نشوء الأمراض prospective cohort study:

وفيها يتم تقسيم الحالات إلى مجموعتين أيضا، مجموعة معرضة لعامل الخطر قيد الدراسة (التدخين مثلا)، ومجموعة تخلو منه. يتم متابعة المجموعتين في المستقبل، ومعرفة نسبة ظهور أمراض القلب مثلا في كلا المجموعتيْن.. إذن فطرف الخيط معكوس، فتكون البداية مع مسبِّب معين exposure، وآخر الخيط هو النتيجة المتوقعة outcome.

ومن نسبة المصابين في كل مجموعة، يتم حساب الخطورة النسبية لعامل الخطر المدروس relative risk، والذي يتم حسابه أيضًا من نفس جدول 2*2، ولكن بالمعادلة الآتية:

الخطورة النسبية = [ أ/ ( أ+ب) ] / [ ج/ ( ج+د ) ].

البسط [ أ/ ( أ+ب) ] هو حاصل قسمة عدد الحالات المرضية التي تعرَّضت لعامل الخطر exposure على مجمل المتعرضين لعامل الخطر، مرضى وأصحاء.

والمقام [ ج/ ( ج+د ) ] هو حاصل قسمة عدد الحالات المرضية التي لم تتعرض لعامل الخطر، على مجمل غير المتعرَّضين له، مرضى وأصحاء.

جدول 2*2 لحساب الـ relative risk

ولابد أن يكون ناتج المعادلة أكثر من 1، ليكون هناك فعلًا احتمالية علاقة خطورة بين عامل الخطر المدروس، والمرض الناشئ عنه. وكلما زاد الرقم، زادت الخطورة النسبية لعامل الخطر.

أما لو كانت النتيجة أقل من 1، فسيكون العكس أقرب للصواب. أي أن عامل الخطر ليس فعلًا عامل خطر، بل قد يكون عامل حماية يقلل من احتمالات الخطورة!

وهذا الرابط للمساعدة في حساب الـ relative risk إلكترونيًا.

5. الدراسة المقطعية cross-sectional study:

لهذه الدراسة الوصفية خصوصيتها، والتي يمكن على أساسها اعتبارها في مكان خاص على جانب هرم الدليل العلمي. فهذه الدراسة شغلها الشاغل هو مدى انتشار بعض الظواهر المرضية في مكان معين، وزمان معين، وهو ما يسمى الـ prevalence، حتى أنها تسمى أحيانًا prevalence study.

على سبيل المثال، يقوم الباحثون بإجراء هذه الدراسة على قرية، لمعرفة مدى انتشار مجموعة من الأمراض المزمنة، ومجموعة من عوامل الخطر المحتملة بين سكانها.

بالمسح الشامل لسكان القرية (التاريخ المرضي، واختبارات طبية سريعة…)، تستطيع الدراسة بسهولة الوصول إلى نسب انتشار الظواهر المطلوبة في القرية، فمثلا ١٠٪ منهم مصابون بالسكر، و ١٥٪ بالضغط، و ١٢٪ بالسمنة ( وأكثر من نصف هؤلاء مصابون بالسكر )، و 25٪ منهم مدخنون، و ١٢٪ يعانون من قصور بشرايين القلب. لكن لا تستطيع الدراسة بكفاءة تحديد السبب والنتيجة. فمثلا هل السكر هو ما سبب السمنة، أم السمنة هي التي سببته؟! أم وجودهما بالتزامن مجرد صدفة؟

باختصار، وأمام ميزان المزايا والعيوب، فهذه الدراسة السريعة جدا، قليلة التكاليف، تضع أمامنا طرفيْ الخيط exposure and outcome، دون تمييزهِما. ولذا تحتاج للبناء عليها بتحليلاتٍ إحصائية أعمق، ودراساتٍ أعلى.

إلى القمة

الخطورة النسبية، odds ratio، relative risk، جدول ثنائي، الدراسات العلمية الطبية، الدراسات الطبية، البحث العلمي، طب، صحة

سنصعد في الجزء القادم إلى قمة هرم دراسات البحث العلمي، والتي تبدأ بالدراسات الإكلينيكية التدخلية المنضبطة ذات العينات العشوائية RCTs، والمراجعة الممنهجة systematic review، والتحليل البعدي meta-analysis، والتي ترتكن إلى أدلتها العلمية القوية كل التوصيات الطبية guidelines في جميع فروع الطب، والتي لا غنى عنها لمعظم الأطباء من أجل الوصول إلى ممارسة طبية علمية الأسس، تحقق أفضل النتائج للمرضى، الذين هم المنتج النهائي الذي تقوم من أجله العملية الطبية كلها.