عرفت إيطاليا حلّ الحكومات والدخول في أزمات منذ انتهت الحرب العالمية الثانية. فقد بدلت 59 حكومة منذ ذلك الحين. ومنذ أسابيع قليلة دخلت في أزمة جديدة أسقطت الائتلاف الحاكم. وقادت البلاد نحو انتخابات عامة جديدة بعد حل البرلمان. وإجهاض مشروع إصلاحي بقيادة ماريو دراجي. المشروع الإنقاذي الذي رحبت به أوروبا كلها، في خطوة نادرة لم تشهد إيطاليا مثلها سابقًا.

حركة «النجوم الخمس» بدأت الأزمة برفضها التصويت على الثقة في الحكومة في مجلس الشيوخ. الحركة التي تمتلك أكبر كتلة برلمانية انسحبت بذلك من التحالف الحاكم الذي يقوده ماريو. هذا التحالف كان يضم كل أحزاب إيطاليا، باستثناء حزب وحيد هو حزب إخوان إيطاليا، اليميني المتطرف. لكن حركة النجوم الخمس آثرت مصلحتها السياسية والانتخابية على المصلحة الكبرى لإيطاليا. واختارت أن تنقل سلسلة الهزائم التي أصابتها بعد الفوز في الانتخابات العامة الأخيرة إلى كل إيطاليا. خصوصًا بعد الانشقاق الحاصل داخل الحركة نفسها بقيادة وزير الخارجية لويجي دي مايو، بسبب خلاف حول تزويد أوكرانيا بمساعدات عسكرية.

إيطاليا تتجه إلى مرحلة مخيفة من التضخم المتزايد بشراسة. ولم تحدث أي من الإصلاحات التي وعدت بها الحكومة للحصول على قرض من صندوق الإنعاش الأوروبي. وجاءت الانتخابات الحالية لتنذر بإعادة تشكيل المشهد السياسي بصورة مفاجئة للجميع. ليكون مشهدًا متماشيًا مع طبيعة إيطاليا السياسية التي لا تستقر على قرار منذ عقود مضت، لكن ربما لن يكون المشهد متناغمًا مع ذاته.

ومع إعلان ماريو دراجي مسبقًا أنه إذا انسحبت حركة النجوم الخمس من الائتلاف الحاكم فسوف يعتبر ولايته في حكم المنتهية. الحاكم السابق للمصرف الأوروبي، وحديث العهد بخفايا السياسة الإيطالية، أعلن أنه لن يحتمل تشكيل حكومة جديدة، وليس مستعدًا لتعديل التشكيل الحالي. وسيكون من الأسهل على الجميع الدعوة لانتخابات مبكرة.

غيوم اليمين تحجب الأفق

جاءت الانتخابات المبكرة بغيوم اليمين المتطرف لتملأ سماء إيطاليا. عصبة تتكون، ولا تتآلف، من إخوان إيطاليا وعصبة الشمال وحزب إيطاليا إلى الأمام. بهذا التكتل أظهرت استطلاعات الرأي أن جمهور اليمين المتطرف منفردًا بات يقارب 40%. فقبل أن تظهر النتائج الرسمية كان متوقعًا أن يحصل اليمين على أغلبية مطلقة في كلا المجلسين.

خصوصًا «إخوان إيطاليا»، الذي فاز في الانتخابات قبل أن تبدأ. فرغم أن الإعلان الرسمي عن فوزه لم يكن إلا من عدة دقائق إلا أن الاستطلاعات أظهرت أنه سوف يسيطر على أغلبية المقاعد. ليكون بذلك أكبر حزب منفرد في الانتخابات الحالية، بنسبة 25.1% من المقاعد. وبهذه النسبة ستكون جورجيا ميلوني، رئيسة الحزب، هي رئيسة وزراء إيطاليا القادمة. وقد ارتفعت تلك الأرقام بوتيرة شديدة التسارع في الأشهر القليلة الماضية بعد رفضه الواضح للانضمام للتحالف الواسع الذي قاده ماريو دراجي.

مهما أتت النتائج الرسمية مختلفة عن أرقام الاستطلاعات، فستقع في منطقة دافئة يحصد حزب إخوة إيطاليا فيها نسبة تتراوح من 22 إلى 26 في المئة. لكن المهم أن النتائج والاستطلاعات اتفقت على أن إخوان إيطاليا في المقدمة، وأن إيطاليا سوف تعيش 5 سنوات تحت قيادة جورجيا ميلوني. ومع إقرار الحزب الديمقراطي بالهزيمة، وأنه سيصبح أكبر قوة معارضة في البلاد، فيُتوقع أن تلك السنوات ستكون ساخنة ومليئة بالمفاجآت.

استغلت ميلوني انضمام عصبة الشمال بقيادة ماثيو سالفيني لتحالف دراجي وخاطبت أنصاره المتطرفين. نجحت في اجتذاب العديد من أنصاره المتطرفين الذين وجدوا في الخطاب شديد القومية والعنصرية الذي تقدمه ميلوني ضالتهم بعد أن ارتد سالفيني عن مبادئهم. لكن رغم محاولة سالفيني التخلي عن بعض أفكار الحزب فقد ظل الحزب فاشيًا. ورغم أن سالفيني يحاول الهروب من عقيدة حزبه بالدعوة للانفصال عن إيطاليا، فإن أفراد الحزب لا يخجلون من تلك النقطة. وقد تأسس حزبهم من الأصل تحت اسم عصبة استقلال بادنيا، وكونه أفراد من شمال ووسط إيطاليا.

أما الحزب الثالث، فحزب إيطاليا إلى الأمام، فهو تحت قيادة رئيس الوزراء الأسبق سلفيو برلسكوني. وقد حكم برلسكوني إيطاليا 3 مرات. وتأسس الحزب عام 2012 مستلهمًا الاسم من الحزب الأول الذي أسسه برلسكوني عند نزوله للساحة الانتخابية عام 1994. لكن بعد تفكك الحزب واضطرار برلسكوني للاستقالة عام 2011، عاد الرجل ليملم شتاته وينشئ حزبه من جديد.

أوروبا تستعد للطعنة

أوروبا قلقة، ولا تكفيها رسائل التهدئة التي يرسلها قادة اليمين المتطرف. فتلك الرسائل تتركز حول عدم الانفصال عن أوروبا. أو عدم اتخاذ أي إجراءات تصعيدية ضد التكتل الأوروبي الموحد. والانكفاء على مشاكل الدولة الإيطالية المأزومة بوضع اجتماعي واقتصادي خانق. لكن الواقع أن ذلك ليس ما يشغل بال الأوروبيين من الأصل.

حكومة تقودها جورجيا ميلوني، ويساعدها في إدارتها برلسكوني، بالتأكيد لن تكون أفضل حكومة تساعد أوروبا في أزمتها الحالية لمواجهة الغزو الروسي. برلسكوني هو في الأساس صديق مقرب لبوتين. وميلوني أقل الجميع حماسة لدعم المزيد من الجهود الأوروبية لإمداد أوكرانيا بالسلاح. أو حتى تحمل تكاليف معيشة مرتفعة لأجل الالتزام بفرض عقوبات على روسيا.

فميلوني إذا لم تنفصل عن أوروبا فهي على الأقل تدعو لمراجعة المعاهدات الأوروبية. وتريد ميلوني اعتماد كونفدرالية دول ذات سيادة، بدلًا من الاتحاد الأوروبي بصورته الحالية. ويشارك ميلوني في هذا التوجه العديد من الشخصيات الإيطالية البارزة. وبنتائج تلك الانتخابات لا تحتاج ميلوني إلى الكثير من الدعم لتنفيذ ما تريد، فالشارع معها. وسيتكاتف معها الشارع أكثر فأكثر حين تنفذ أجندتها فيما يتعلق بالمسلمين والمهاجرين.

من الواضح أن ميلوني تحاول الظهور في مظهر المعتدل من قضية المهاجرين والمسلمين، بتجاهلهم. وتركز على القضايا التي تمس الناخب الإيطالي مباشرة مثل الإعفاءات الضريبية، والتوظيف. لكن أنصارها أنفسهم لا يبالون بهذا التجمل الدبلوماسي. فاليمين المتطرف يدعو لهدم المساجد الموجودة في إيطاليا. كما يدعون للحد من الهجرة النظامية وغير النظامية. ويطالبون بإعادة آلاف المهاجرين لبلادهم. فالمهاجرون في المخيال الإيطالي هم سبب كل المشاكل، وخروجهم حل سحري وسريع لتلك المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.

وتشاركهم ميلوني هذا المعتقد، لكن قلّت حدة تصريحها به في الآونة الأخيرة. لكن كان لها تصريح واضح في يوليو/ تموز 2021 حين أرسلت سفينة إنقاذ فرنسية طلبًا لروما من أجل استضافة 600 مهاجر غير شرعي استطاعت السفينة أن تنقذهم من الغرق. طلبت السلطات الإيطالية وقتًا للتشارو، لكن كان رد ميلوني سابقًا للجميع. قالت إنه على السفينة أن تتجه إلى ميناء مارسيليا الفرنسي، وإن إيطاليا ليست مخيمًا للاجئين، وإنها كذلك ليست مستعمرة فرنسية أو ألمانية. ثم تساءلت هل تكون المعاملة مثل الخدم هي الثمن الذي يجب على الحكومة الإيطالية دفعه كي تحصل على الثناء من أوروبا.

الولادة أهم دور للمرأة

في كتابها الذي تحكي فيه سيرتها بعنوان «أنا جورجيا»، الذي باع قرابة 100 ألف نسخة، وشغل قائمة أكثر الكتب مبيعًا على موقع أمازون الإيطالي. تحكي الشقراء ذات الملامح القاسية عن عملها كوزيرة للشباب في حكومة بيرلسكوني الرابعة، وأنها ترأست ائتلافًا للشباب أنشأه بيرلسكوني عام 2007. كما حصلت على دبلومة في الصحافة عام 1996.

 وقبل ذلك كانت قد بدأت مسيرتها السياسية بالانضمام لشباب الحركة الاجتماعية الإيطالية. ثم أنشأت حركة طلابيّة باسم الأجداد، وفي عام 1995 أصبحت عضوة في حزب التحالف الوطني صاحب التوجه الفاشي. وفي عام 1998 انتُخبت في مجلس مدينة روما، وظلت فيه 4 سنوات. ثم في عام 2004 أصبحت أول رئيسة لنشاطات الشباب، وهو ما يعادل جناح الحزب المسئول عن الشباب. وبعد العمل كصحفية لبضع سنوات دخلت مجلس النواب الإيطالي، وأصبحت نائب رئيس، فكانت بذلك أصغر نائب لرئيس مجلس النواب.

تلعب ميلوني بهذه النغمات على وتر النسوية الحديثة. رغم أنها تقول دائمًا إنها تحب أن تُوصف بالمحافظة التي تريد الدفاع عن وطنها وعن المبادئ العائلية التقليدية. ورغم الحشد النسوي المناصر لها فإن ميلوني ترفض تخصيص حصة ثابتة للنساء في البرلمان أو في مجالس الإدارة. مؤكدة أن النساء يجب أن يصلن للمناصب العليا عبر الجدّ والتعب كما فعلت هي، وليس عبر كوتة مخصصة مسبقًا.

وفي ما يتعلق بالنساء فإن حزبها يركز بصورة أكبر على ضرورة الحد من قلة عد المواليد. وتحاول ميلوني في هذا الصدد ألا تضع المرأة بين اختيار التخلي عن عملها للاعتناء بمنزلها. وسوف تعمل على إيجاد طريقة تتمكن بها المرأة في أداء الدورين في وقت واحد. وتظهر نساء إيطاليا استعدادًا واعدًا لطاعة ميلوني، بصفتها أول امرأة تتولى منصب رئيس وزراء إيطاليا.

نحو فاشية عصرية

الخطوة المهمة في حياة ميلوني السياسية كانت حين اندمج حزب التحالف الوطني مع حزب فورزا إيطاليا، إيطاليا إلى الأمام، وكان الكيان الناتج يحمل اسم حزب شعب الحرية، تولت هي جناح الشباب في الحزب الجديد، وكان الجناح يحمل اسمًا مستقلًا، إيطاليا الشابة. وحين شغلت منصب وزيرة الشباب في حكومة بيرلسكوني عام 2008 وحتى عام 2011 كانت أصغر وزيرة في تاريخ إيطاليا.

إذا كثر أعداؤك فقد حُزت الشرف، عبارة ميلوني المفضلة، وهي للمصادفة عبارة موسوليني المفضلة. لذا فإن شعبيتها آخذة في الازدياد، حتى وصلت إلى منصبها الحالي، قد يقول الكثير عن ميلوني، البالغة 45 عامًا، لكنه يُعبر أكثر عن الشعب الإيطالي الذي ما زال يشعر بالحنين للفاشية المنقضية، سواء بصورة واعية أو غير واعية.

 فلم تقف إيطاليا مع ماضيها وقفة جادة، ولم يزل بعض الإيطاليين يرون في الفاشية مذهبًا كباقي المذاهب. أمّا الآخرون الذين يرون الفاشية شرًا، فإنهم يردفون قائلين إنها لم تكن شرًا محضًا. وتلك الفئة هي التي تغازلهم ميلوني وتريد استمالتهم، وتلعب في أحاديثها على ذلك التناقض الموجود داخل المجتمع الإيطالي. فهي تريد أن تخلق مجتمعًا فاشيًا من دون وجود رموز الفاشية التقليدية.

وفوز ميلوني يمنح دفعة قوية لليمين المتطرف الذي اهتز قليلًا بعد هزيمة ماري لوبان أمام منافسها ماكرون، الرئيس الفرنسي الحالي. لكن بحمل ميلوني للواء الحكومة الإيطالية، رغم الجذور المثبتة لحزبها في الفاشية، يستعيد اليمين الزخم مرة أخرى. ويعرف القادة أن الحل ليس مزيدًا من الاعتدال أو المنطق، بل لا بد من الذهاب لأقصى اليمين وما وراءه لضمان الحصول على تصويت عدد أكبر من الناخبين. فتصبح المعركة ليست بين يسار ويمين، بل بين يمين ويمين، كل منهما يريد الإثبات للناخب أنه أشد تطرفًا من الآخر.