أثناء الحديث عن أي موضوع من موضوعات النظرية السياسية، لا بد من ذكر بعض الأمور المرتبطة بالفلسفة فيما وراء الفكرة محل البحث والنظر والتحليل، والمقصود بالفلسفة هنا هو الحكمة من وراء الشيء المذكور، فعندما يقال «فلسفة العلوم» فالمقصود هنا هو حكمة تعلم العلوم ولماذا نتعلمها ولماذا وضعت هذه العلوم بهذا الشكل وبهذه المنهجية. فالفلسفة تُعنَى بما وراء الأمر، أي باطن الأمر وليس ظاهره، والمصطلح الدلالي لما وراء الأشياء يسمى في الفلسفة «الميتافيزيقا» تلك التي تُعنَى بدراسة كل ما هو وراء المحسوسات –والتي تدخل فيها المشاهدات– فهي تعنى بدراسة الوجود بصفة عامة وملحقاته [1].

فبعد الحديث عن مفهوم الدولة القومية الحديثة في الجزء الأول من السلسلة، يأتي في المقام الثاني في الأهمية وفي الترتيب المنطقي والمنهجي للسلسلة التعرض لميتافيزيقا الدولة، أي فيما وراء فكرة الدولة من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، بمعنى آخر، يبحث هذا الجزء في الدلالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية لفكرة الدولة من الناحية النظرية وبالتالي ما ينتج عن هذه الدلالة من تأثير وتفاعلات وانفعالات في أرض الواقع ملموسة.


القانون كجوهر للدولة

ثمة قناعة: ما من حق أخلاقي عموما في معصية القانون.
جفري مارشال

تم التطرق في الحلقة الأولى من السلسلة إلى مفهوم السيادة وهو من النظريات الحاكمة في تحليل فكرة الدولة وتفكيك علاقاتها العضوية والبنيوية والتي سوف تطرح بشكل أكثر تفصيلا في الحلقة الثالثة، إلا أن المهم في هذا المقام هو اعتبار القانون كأحد منتجات الإرادة السيادية للدولة الحديثة، وهو تعبير لتلك الإرادة، ومقتضى ذلك أن الدولة هي المشرع «السيد» للقوانين ولا يوجد من هو فوق الدولة من الناحية القانونية ليحاسبها على تقصير أو خرق أو مخالفة لقواعد القانون، باعتباره معيِّنا ومعبرا عن إرادتها السيادية.

تقوم فكرة الدولة القومية الحديثة على أنها مجموعة تعيش مكانا له «حدود» معينة، وهي حدود جغرافية وقانونية في الوقت ذاته حيث بداخلها ينفذ قانون الدولة. والقانون يعد جزءا من نظام سياق سياسي أوسع [2]، فهو يتقاطع مع كافة مفاصل أجهزة الدولة وعملها، كما يتقاطع مع خطط الحياة الفردية لرعايا الدولة القومية.

ومن الناحية التتنظيمية هناك ثلاث سلطات أساسية تقوم بالتعامل مع القانون، كل منها بشكل مختلف ومتكامل مع الأخرى، وهي السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية. أما التشريعية فتلك المعنية بتشريع القوانين التي تعكس الإرادة السيادية للدولة وتشكل العلاقة بين الدولة “كسلطة عليا مطلقة” ورعاياها من المجتمع، أما السلطة القضائية تلك السلطة التي تعنى بتفسير القانون ومواده طبقا للواقع الذي يحقق سيادة الدولة على الأرض المحدودة لها جغرافيا، وأخيرا السلطة التنفيذية وهي التي لها كافة الصلاحيات والاختصاصات لتنفيذ القانون حتى وإن تطلب ذلك استخدام أي من العنف الرمزي ” المعنوي” أو العنف المادي لفرض هذا القانون الذي بدوره يعكس الدولة.

http://gty.im/182286620

إلا أن مبدأ الفصل بين السلطات والذي يعبر عن فكرة «حكم القانون» التي سوقت بها الدولة الحديثة نفسها كنظام حكم متوازن، عانى العديد من الاستثناءات ومساحات عديدة من التداخل بين السلطات، فكثير من الأحيان وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية تقوم السلطة التنفيذية بتشريع بعض القوانين، وتتمركز بعض الوظائف القضائية والتنفيذية في يد العديد من الإدارات الحديثة بالدولة، الأمر يجعل دور الكونجرس الأمريكي في الرقابة أمر أشبه بالمستحيل، فيعاني مبدأ الفصل بين السلطات من فكرة تمركز السلطة، الأمر الذي يخول لكثير من الموظفين غير المنتخبين في الدولة الإدارية الحديثة سلطات واسعة النطاق والتأثير في حياة المواطنين وممتلكاتهم.

الأمر الآخر هو أن في غالبية حالات الدول القومية الحديثة لا تقوم السلطة التشريعية وحدها بتشريع القوانين العامة. فهناك ما يسمى بالسلطة المدنية بجانب السلطة العسكرية، وأيضا فكرة المصادقة والضمان الأمر الذي يجعل فكرة حكم القانون أقرب إلى يوتوبيا مثالية، فالسلطة المدنية لها حق المصادقة والضمان فيما يتعلق بتعليق العمل بالقانون أو بعض مواده عند تحديد حالة من العداء الداخلي أو الخارجي، ويكون دور السلطة العسكرية هو تنفيذ العنف المادي إذا تطلب ذلك في إطار من شرعية الضمان والمصادقة لدى السلطة المدنية، فهي التي تمتلك الحق الشرعي الوحيد في استخدام العنف إذا تطلب الأمر كذلك، فهذه تسمى حالة الاستثناء أو الطوارئ والتي تضفي لونا من ألوان الشرعية القانونية والسياسية على أفعال الحاكم أو الدولة، بيد أن حالة الاستثناء أضحت حالة شائعة في العديد من الدول وباتت الواصلة بين القانون والواقعة، وفي هذه الحالة يصبح العنف أداة تم شرعنتها لممارسة الدولة له.

يعاني مبدأ الفصل بين السلطات من فكرة تمركز السلطة، الأمر الذي يخول لكثير من الموظفين غير المنتخبين سلطات واسعة النطاق.

ففي الدولة الحديثة يعتبر القانون هو «الدولة» ذاتها ومعبرا عنها ومحققا لما تراه الدولة مناسبا في التعامل مع القضايا وفض المنازعات وتطبيق الاحكام وتفسيرها وفقا لما تراه مناسبا دون العودة إلى أي مرجعية أخرى، فالدولة وقانونها هما المرجعية الشرعية الوحيدة والتي من خلالها تمارس مهامها وتحافظ على سيادتها، حتى لو تطلب ذلك الحفظ على القانون كقاعدة مجردة وايقاف العمل به، وهو قرار سياسي سيادي خالص للدولة وهي صاحبة الحق الوحيد في ذلك، فعلاقة الدولة بالقانون كعلاقة خلق الشئ من عدم ! ففي نشأة القانوني في الدولة الحديثة ينفصل ما هو كائن عن ما ينبغي أن يكون. كما يؤكدكلسن على أنه لا يمكن أن يتم تعيين نظامين معياريين أحدهما متتعلق بالدولة والآخر بالنظام القانون، فالقانون هو معبر عن الدولة بل هو الدولة وهي التي لديها الحق في وضعه وتشريعه وتفسيره وتنفيذه.


التحكم الكامل: السلطة والبيروقراطية

ليس على الأرض أعظم مني، بنان الله الناظم أنا.
نيتشه[3]

يقوم الجانب السياسي في الدولة القومية الحديثة على أسطورة التحكم الكامل في كل مناحي الحياة، الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية، حيث التحكم في أدوات الاقتصاد وفي حياة الفرد من ممارسة السلطة المباشرة سواء أكانت الآمرة أو التاثير “أي القائمة على الاقناع”، بجانب التحكم في الطبيعة لغرض الإنسان الذي تحكمه الدولة، وللوصول إلى أكمل نمط للدولة الحديثة.

ولا تستطيع أي دولة المحاولة لتحقيق تلك الأسطورة على أرض الواقع دون سلطة قوية شرعية تستطيع أن تستخدم العنف والعقاب إلى جانب وسائل التأثير من خلال الاقناع أو التلاعب والخداع لاخضاع رعاياها من الأفراد الذين يحيون على أرض تلك الدولة.

ولعل من أهم وأقوى تطبيقات ممارسة السلطة على رعايا الدولة هي الإدارة البيروقراطية التي تكونت مع مفهوم الدولة الحديثة والتي تعتبر امتدادا لقانون الدولة، وتنفيذا له، فيقول ماكس فيبر حول البيروقراطية والادارة في الدولة الحديثة:

«إن الخصائص نظام إداري وقانوني قابل للتغيير بواسطة التشريع الذي تتوجه إليه أنشطة الهيئة الإدارية الناظمة أيضا بلوائح منظمة، ويفترض هذا النظام امتلاكه سلطة ملزمة، ليس على أفراد الدولة، أي مواطنين فحسب، ولكن أيضا ولدرجة كبيرة على كل ما يقع ضمن إقليم سيادته»[4]

البيروقراطية والإدارة في الدولة القومية الحديثة تتسم بطابع الاضطراد والاستمرارية يصعب معها تغييرها كما تتغير البنى الاجتماعية والاقتصادية مع الثورات على سبيل المثال، فتعد البيروقراطية حجر أساس في بنية الدولة الحديثة لا غنى عنها في تحقيق عمليات الدولة ونفاذ سياساتها إلى أرض الواقع. ولعل من أحد أهم سمات البيروقراطية في الدولة الحديثة هو العقلانية التي وصفها بها فيبر، والتي تعضد من سمة الاستمرارية والاضطراد، بل وتؤكد على قوتها التشعبية فهي تنظم حياة المجتمع المدني من الميلاد وحتى الوفاة وكل ما يتعلق بتفاصيل حياته.

وكما يقولبول كاهن في تعريفه للسياسي في إطار الدولة الحديثة:

فواقع الدولة من الناحية السياسية اصطدم بالمفهوم الغائي الأخلاق لدى هيغل بأن الدولة هي كائن أخلاقي له غاية عليا لتحقيقها، فالواقع العملي لممارسات الدول الحديثة أثبت أن الغاية العليا من وجود الدولة هو بقاء الدولة نفسها، وعلاقة الدولة برعاياها هنا علاقة توفير الأمن والأمان والحماية والرعاية والحياة المستقرة مقابل تضحية المواطن بنفسه للحفاظ على كيان الدولة. فالواقع السياسي للدولة أقرب إلى تصور كارل شميت المبنى على فكرة نيتشه في ” الدولة الإله”.


المجتمع في إطار فكرة الدولة

يعتبر الوعي القومي هو أساس قيام الدولة العصرية الحديثة، وكيفما تشكل الوعي القومي في النسق الغربي، أن القومية هي مجموعة من الأفراد المتميزين عن غيرهم من المجموعات، وتقوم الدولة القومية حينئذ حيث تتخذ مجموعة مميزة متجانسة الثقافة والقيم أرضا لها حدود معينة، ويتخذوا لأنفسهم نظاما للحكم، والذي عرف بعد ذلك بالدولة القومية الحديثة. لعل تلك كانت بداية فكرة الدولة «القومية»، إلا أن ذلك يعني أن الدولة منفصلة عن ذلك المجتمع أو على الاقل في علاقة محايدة معه، بل إنها تنتج ذوات رعاياها التي تخضع لمنظومة وقيم الدولة الحديثة وبيروقراطيتها وسيادتها.

تعتبر مسألة التغول الثقافي في المجتمع من قبل الدولة أحد وسائل السلطة للتأثير في الأفراد وتشكيل وعيهم وإدراكهم تجاه الدولة مما يضفي عليها نوعا من الشرعية.

والقومية لا تتعزز إلا اذا شعر الافراد بما يوحدهم وتجردوا عن كل ما يمكن أن يفصلهم عن بعضهم البعض، كما ذكر فيليب برو في كتابه الاجتماع السياسي، كما أكد على أن القومية هي نتاج سيرورة تاريخية تدخلت بها عوامل عدة يمكن أن تفسر نجاحها، ولعل أهم ما جاء في تلك العوامل هو التعبئة السياسية الجماهيرية التي عضدتها الدولة الوليدة الحديثة حول أفكار جديدة مثل: الاستقلال الأمريكي والثورة الفرنسية [5]، وبشكل أكثر خصوصية نمو نظام تربوي متجانس يعمل لخدمة انتاج ثقافة عالية، وهو في نفس الوقت أحد أدوات الاختراق الثقافي للدولة في المجتمع، ولعل ذلك كان تغيرا في بنية المجتمع الذي كان يملك العديد من الأدوات كالتعليم والثقافة وهذه النقطة ستعرض كنقطة منفصلة بشئ من التفصيل في أحد أجزاء السلسلة. وتجلي ذلك أن الثقافة التي تنشطها الدولة التي تملك وبشكل حصري وسائل بثها ونشرها، تفترض وجود تعليم إلزامي ولغة موحدة وقيم ومبادئ واحدة تبث ثقافة واحدة في المجتمع.

تعتبر مسألة التغول الثقافي في المجتمع من قبل الدولة أحد وسائل السلطة للتأثير في الأفراد وتشكيل وعيهم وادراكهم تجاه الدولة وقراراتها مما يضفي عليها نوعا من الشرعية، والذي تؤمن به نفسها ضد أي محاولة للخروج عن تلك المنظومة الثقافية الغالبة المهيمنة التي ساهمت في تشكيلها من خلال التوغل وممارسة وسائل الاغراء، كالوعد بتوفير فرص عمل، وتأمين العلاج من خلال مستشفيات تابعة للدولة وإلى غير ذلك من المؤسسات التي تخضع للجهاز البيروقراطي للدولة الحديثة.

ولا يمتلك المواطن في نهاية المطاف في تلك الحالة إلا الخضوع إما الالزامي، أو الخضوع الطوعي للدولة ولسيادتها المطلقة والتي لا مفر منها، بل والدفاع عنها والتضحية من أجلها، كما ذكركارل شميت في مفهوم التضحية، فالمفهوم هنا اجتماعي – سياسي في المقام الأول، فهو يربط بين ارادة الدولة السيادية لكون المواطن على استعداد للتضحية من أجل وجود الدولة وبقائها، ومن جانب المواطن أن يكون مستعدا بالفعل للتضحية فتكون كالعنف الرمزي الذي يترسب في عقول وأرواح البشر دون أن يشعروا بذلك وبجهل كامل بأسباب الخضوع [6]، بيد أنه ليس بالضرورة أن يكون ذلك على سبيل الحصر، فهناك من المواطنين يخضعون للدولة بكامل ارادتهم وبوعي كامل بأسباب الخضوع ولعل أقلها تلبية الدولة لحاجتهم وخاصة المادية والنفسية.


خاتمة: دلالة الفكرة

«السياسي وحده يملك السلطة على الحياة والموت، ويبدأ عندما أستطيع أن أتخيل أنني أضحي بنفسي وأقتل الآخرين حفاظا على الدولة. ولا تتحقق الدولة الحديثة بشكل كامل عندما تحميني من العنف، بل عندما تجندني في قواتها المسلحة»

عقلانية الدولة الحديثة كأحد معاييرها وأوصافها وخصائصها هي مسألة ظنية ولا سبيل للتيقن منها باعتراف فيبر نفسه.
عبد الله العروي[7]

تدلّل الدولة القومية الحديثة على العديد من الظواهر التي يجب أن يتناولها البحث العلمي النظري والتطبيقي بكثير من العمق والتدقيق، فلابد من التعرض لمسألة الشرعية، والحق في استخدام العنف المبني على فكرة السيادة المطلقة والتي تعد بمثابة إيجاد الشئ من العدم، كما يجب اعادة النظر في غائية الدولة والهدف من وجودها، حيث أن يكون الشئ متوقف على نفسه هذا من قبيل التناقض المنطقي وهو باطل عن أهل المنطق الأرسطي والإسلامي على حد سواء. وتحتل نظريتا السيادة والسلطة جانب كبير من الأهمية والتحليل والبناء المعرفي والتطبيقي لما لديهم من تأثير على توجيه وتشكيل الرأي العام وإخضاع الأفراد وتشكيل الوعي والادراك.

وهذه هي موضوعات الحلقة القادمة..


[1] أ.د. إمام عبد الفتاح إمام، مدخل إلى الميتافيزيقا، نهضة مصر، القاهرة، 2005، ص 18.[2] وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للابحاث ودارسة السياسات، الدوحة، 2014، ص 88.[3] المرجع السابق، ص 57 [4] Max Weber, Economy and Society: An Outline of Interpretive Sociology, Edited by Guenther Roth and Claus Wittich; Translators Ephraim Fischoff {et al.}, 2 vols. (Berkeley: University of California Press, 1978) vol.1, p.56.[5] فيليب برو، الاجتماع السياسي، ترجمة محمد عرب صاصيلا، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 2014، ص 115.[6] فيصل دراج، حول الدولة، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، عدد 404، أكتوبر 2012، ص 176.[7] عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2011، ص 104- 105.