الطفل الذي ولد للتو فور اكتمال تشكيل جسده يمتلك عقلًا لا يدرك به ما يدور حوله، لذلك فهو قد أنهى المرحلة الجنينية لتكوين الجسد، لكنه الآن في المرحلة الجنينية لتكوين إدراكه العقلي، والتي تستمر حتى العام الثالث من عمره.

إذا تأملنا هذا الطفل الوليد فهو لا يستطيع فهم حديثنا ولا التواصل معنا بلغتنا، وكأن الله قد منحه حماية طبيعية ضد تدخل العنصر البشري، لتكون الفرصة سانحة لعقله الناشئ أن يبني إدراكه ويتعلم بنفسه بالاستعانة بما يحيط به في بيئته، بينما لا نستطيع نحن إخباره أو تعليمه أي شيء.

وعلى الرغم من أنه ظاهريًّا لا يتلقى أي نوع من التعليم، فإن الدراسات العلمية أظهرت أن التشابكات العصبية في مخه تزداد منذ ولادته حتى تصل ذروتها في العام الثاني من عمره، بحيث تقارب عدد التشابكات في مخ الشخص البالغ، بل تزيد عليها أحيانًا، وهذا يدل على أن هناك عملية تعليمية تتم بالفعل داخل عقل الطفل، لكنها مختلفة في كيفيتها عن الفكرة التقليدية التي اعتدناها نحن من وجود طرفين للعلاقة: معلم ومتعلم، حيث نجد هنا أن الطفل هو المعلم والمتعلم في الوقت نفسه.

يستخدم الطفل في عملية تعلمه تلك كل ما يدعم تطوره من بيئته المحيطة، وبالتالي تتناسب جودة تعلمه مع كفاءة البيئة المعدة بما يلائم مراحل نموه،في مقال سابق أجملنا الأنشطة التي يمكننا تزويده بها في عامه الأول، وفي هذا المقال نستكمل الأنشطة المناسبة للطفل في عامه الثاني.


1. التطور الحركي

حين نقرأ لماريا منتسوري نجد مقولتها الشهيرة: «اليد هي أداة الذكاء الإنساني – The hands are the instruments of man’s intelligence»، نستطيع جميعًا أن نرى أن اليد هي التي يعبر بها الرسام عن ذكائه البصري، والموسيقي عن ذكائه السمعي، والكاتب عن ذكائه اللغوي، هي التي تميز الطبيب البارع في عملياته الجراحية، والطباخ الماهر في الطهي، والنجار والحداد والخياط وغيرهم، فهي التي تمكن الإنسان من التعبير ببراعة عن قدراته العقلية التي ميزه الله بها عن سائر المخلوقات، ولم يكن لأي منهم أن يصل لمرحلة الإبداع في التعبير عن ذكائه إلا بممارسة هذا الذكاء بيده ليطوره ويحسن قدراته.

لذلك من المهم أن نوفر للطفل العديد من الفرص التي تمكنه من استخدام يده بدقة ليتمرن على التحكم بعضلاتها وتنسيق حركتها مع بصره الذي يوجهه لاستخدامها، وأمثلة على ذلك ما يلي:

منتيسوري, تعليم, تربية, أنشطة للأطفال

في الأداة الموضحة يتدرب الطفل على توجيه يده لإدخال الكرة في الفتحة المخصصة لها بطريقة أفقية، وكان قد تدرب سابقًا على إسقاطها عموديًا –راجع هذا المقال– ونجد هنا أن نجاح الطفل في إدخال الكرة يتطلب تحكمًا في يده وأصابعه ومعصمه، بعدها نزيد مستوى التحدي باستخدام قرص دائري مع فتحة صغيرة ما يحتاج مستوى تحكم أكبر.

منتيسوري, تعليم, تربية, أنشطة للأطفال

هنا يتعين على الطفل إسقاط الكرة أو مجسم الإهليجي بزاوية مناسبة بحيث يستقر الوتد بداخله، فيعطي انطباعًا باختفائه داخل المجسم، وهو ما يثير اهتمام الطفل لتكرار التمرين، والفتحة الضيقة في المجسم توفر مستوى تحدٍ مناسب لقدرة الطفل على التحكم في يده.

منتيسوري, تعليم, تربية, أنشطة للأطفال

يتدرب الطفل على مجموعة من الأوتاد، يبدأ بالوتد العمودي حيث يسقط الأقراص الدائرية فوقه وهي المرحلة الأسهل، بعدها ينتقل لوتد عمودي آخر لكن باستخدام مكعبات بدلًا من الأقراص، وهنا يتعين عليه اختيار وجه المكعب المناسب الذي يحتوي على الفتحة التي سيدخل منها الوتد، مما يتطلب لف المعصم أحيانًا لضبط زاوية إسقاط المكعب، ثم ينتقل لاستخدام الوتد الأفقي لتثبيت الأقراص عليه، وهي المرحلة الأصعب.

هنا يتدرب الطفل على دمج الحركتين الأفقية والرأسية في وتد واحد مستقيم بزاوية قائمة، ووتد آخر منحنٍ يمثل تحديًا أكبر لتحكم الطفل بيده.

2. أنشطة الحياة العملية

منذ اليوم الأول لولادته يسعى الإنسان دائمًا للاستقلالية، وتأخذ استقلاليته أشكالًا مختلفة على مدى سنوات نموه وتطوره، ففي أعوام طفولته المبكرة يسعى للاستقلال الجسدي، فلا يعتمد على أبويه في تلبية حاجاته الجسدية كالمأكل والملبس والإخراج والنوم وغيره، وبعد العام السادس يتحول سعيه نحو الاستقلال العقلي.

وفي المراهقة يسعى نحو الاستقلال الاجتماعي، وهكذا، ولذلك فالأنشطة المناسبة للطفل في عامه الثاني وحتى عامه السادس يجب أن تدعم رغبته في الاستقلال الجسدي مثل:

إطارات الملابس توفر فرصة التدرب على الأقفال المختلفة التي قد يواجهها الطفل في ملابسه ليستطيع الاعتماد على نفسه في ارتدائها.

أنشطة الصب والنقل المختلفة توفر للطفل فرصة التدرب على التحكم بيده لاستخدام الملعقة والصب من الإبريق، وهي مهارات يومية مهمة تساعده على الاستقلالية وتكسبه الثقة بالنفس والشعور بالمسئولية إذا ما نجح في أدائها، نبدأ بتقديم المواد الصلبة في البداية تيسيرًا عليه وللحد من الفوضى، وحين يتقنها ننتقل لاستخدام المواد السائلة التي تمثل مستوى صعوبة أكبر بالنسبة له.

أنشطة العناية بالبيئة مثل سقاية النباتات أو تنسيق الأزهار، مسح الانسكابات ونفض الغبار، كلها مهام يسعد الطفل بالقيام بها إذا ما توفرت له أدوات مناسبة لحجم يده الصغيرة، وهي أدوات حقيقية تؤدي الغرض المطلوب منها، وليست مجرد ألعاب بلاستيكية للعب تخيلي.

الأنشطة الخاصة بإعداد الطعام أيضًا من الأنشطة المفضلة للأطفال بعمر عام ونصف تقريبًا، ابدأ بتقديم أنشطة بسيطة مثل تقشير الخيار والبيض، تقطيع الموز والفراولة، خلط الزبادي بالزبيب، وما إلى ذلك، مع مراعاة عوامل الأمان والسلامة فلا نستخدم سكينًا حادة أو ذات سن مدببة.


3. أنشطة تطور الحواس

منتيسوري, تعليم, تربية, أنشطة للأطفال

الحواس هي القنوات التي يستقبل المخ عن طريقها كل المعلومات من البيئة المحيطة، وكلما زادت حدتها زادت قوة الملاحظة والتركيز لدى الطفل، ما يدعم تعلمه ويعزز مستوى ذكائه، لذلك نحرص دائمًا على توفير فرص جيدة يستخدم فيها الطفل حواسه ليصقلها، فهي مثل العضلات إذا لم تتدرب تقل كفاءتها، خاصة في السنوات الأولى من عمر الطفل.

إليكم بعض الأدوات والأنشطة التي قد تدعم تطور حواس طفلكم في هذه المرحلة:

منتيسوري, تعليم, تربية, أنشطة للأطفال

هنا يتدرب الطفل على الإمساك بالأسطوانات الملونة بأصابعه الثلاثة الإبهام والسبابة والوسطى، وهي نفس الأصابع التي تستخدم في الكتابة لاحقًا، ليقوم بإسقاطها في الفتحات المناسبة لحجمها تمامًا والمتساوية القطر، وتفيد أيضًا في التمييز البصري للألوان حيث يستكشف الأنماط المختلفة الناتجة من ترتيبها في أماكنها، ينتقل بعدها لاستخدام الأسطوانات ذات المقبض مختلفة الحجم، حيث يتدرب على التمييز البصري للأحجام عن طريق مطابقة كل أسطوانة مع الفتحة الملائمة لها تمامًا.

تفيد مثل تلك الأنشطة في التدرب على التمييز البصري للألوان حيث يطابق الطفل الأقراص مع العمود الملون بنفس لونها، أو يصنف الأقراص حسب اللون.
منتيسوري, تعليم, تربية, أنشطة للأطفال

استخدام البازل فرصة جيدة لتدريب الطفل على التمييز البصري للأشكال، غير أنه يجب اختيار المستوى المناسب للطفل حتى لا يصاب بالإحباط أو الملل، في سن عام يمكننا البدء بتقديم بازل من إطار واحد يحتوي شكلًا واحدًا، والأسهل أن نبدأ بالدائرة، ثم المثلث فالمربع، بعدها ننتقل لبازل إطار واحد يحتوي أشكالًا مختلفة، لكن لكل شكل مكانًا خاصًّا به، بعدها ننتقل لبازل إطار واحد يحتوي أشكالًا غير منتظمة، وهكذا نتدرج في مستوى الصعوبة حسب قدرات الطفل.

منتيسوري, تعليم, تربية, أنشطة للأطفال

توفير ألعاب صوتية توفر فرصة استخدام حاسة السمع وصقلها، لا سيما الأدوات التي تصدر أصواتًا متقاربة مثل الأجراس ذات النغمات المختلفة والإكسليفون، والتي تحتاج لتركيز عالٍ للتمييز بينها، أيضًا الإنصات لأصوات البيئة كصوت العصافير والسيارات والغسالة وغيرها يزيد من انتباه الطفل وملاحظته لبيئته.

منتيسوري, تعليم, تربية, أنشطة للأطفال

في هذه السن يحب الطفل استكشاف كل شيء بيده، الملامس المختلفة والغريبة تثير اهتمامه وهي فرصة رائعة لصقل حاسة اللمس لديه، ولعل من أشهر الخبرات اللمسية عند الأطفال اللعب بالماء والرمل والعجين، يمكنك تعزيز تلك الخبرات بإضافة ملامس لأقمشة مختلفة وورق صنفرة متدرج الخشونة.

حاستا الشم والتذوق أيضًا ليستا بأقل أهمية من باقي الحواس، طفلك حديث عهد بالطعام فلم يمر بضعة أشهر على بدء تناوله إياه، وأمامه العديد من الخبرات ليجربها ويستكشف الأطعمة المختلفة من حلو ومر ومالح وحامض.

ما ذُكِرَ في هذا المقال هو أنشطة إرشادية، يمكنكم تنفيذ أفكار مشابهة بما يناسب إمكانياتكم، كما تجدون غيرها الكثير من إبداعات الأمهات حول العالم عبر الإنترنت، المهم هو ألا تفوتوا هذه المرحلة من عمر طفلكم دون تقديم أقصى دعم ممكن، ربما لا تظهر لكم النتائج بصورة فورية، لكن الأكيد هو أن ذلك الجهد سيمضي ويبقى الأثر.