كنت أقطن في كوبري القبة، وأذكر كيف كنا نتجمع نحن «أولاد الحتة» لنُحيِّي الرئيس الجليل كل ليلة عند عودته من بيت الأمة إلى مصر الجديدة مارًا بضاحيتنا، وأذكر جيداً كيف كانت تتملكني الرهبة لهذا اللقاء العابر.
السادات، «30  شهرًا في السجن»

ما قبل قبل البداية

يحكي أمير عكاشة في كتابه «ملوك ورؤساء صنعوا تاريخ مصر»، إنه في عام 1929، احتدم الخلاف بين الملك والوفد، فأمر الأول بحل البرلمان لأن أغلبية أعضائه ميولهم خضراء (وفدية). وذات يوم، فوجئ النحاس باشا بخادم نوبي يدخل عليه المنزل مُتسلِّلاً من السطح، وقبل أن يستغيث النحاس بأحد، أخبره الخادم أنه لواء بالجيش، وعرض عليه أنهم مستعدون للتدخل لإرغام الملك على احترام رأي الشعب، فرفض النحاس، قائلاً: «أُفضِّل أن يكون الجيش بعيدًا عن السياسة، وأن تكون الأمة هي مصدر السلطات». وقبل أن يرحل (اللواء/الخادم) سأله زعيم الوفد عن اسمه، فأجابه: محمد نجيب.

الرئيس المصري السابق (محمد نجيب) مع (مصطفى النحاس) باشا

ما قبل البداية

في عام 1936، وقّع النحاس، بعد مفاوضات شاقة، أول معاهدة تنظّم مسألة استقلال مصر مع الإنجليز، وبالرغم من أنها لم تُخلِّص القاهرة من الدوران في الفلَك البريطاني، فإنها أتاحت العديد من المزايا للمصريين لأول مرة. ووفقًا لما قاله الصحفي محسن محمد في كتابه «ثورة 23 يوليو بالوثائق السرية»، إن الاتفاق شملت بنوده زيادة أعداد الجيش المصري، وإلغاء كافة القيود التي كانت تمنع أبناء الموظفين من الطبقة المتوسطة والدُنيا من دخول الكلية الحربية.

ويتابع عزمي بشارة في الجزء الأول من كتابه «ثورة مصر»، أن أغلبية أعضاء الضباط الأحرار كانوا من الطبقة الوسطى والدُنيا، وهم الذين لم يكونوا ليدخلوا الجيش لولا معاهدة 1936 التي أبرمها النحاس مع الإنجليز، بينما يضيف محسن محمد أنَّ عبدالناصر لم يحفظ هذا الجميل للنحاس بعد الثورة، فرفض رئاسته الشرفية للوفد وأصرَّ على إزاحته من منصبه.

البداية

يحكي مصطفى النحاس في مذكراته أنه كان في أوروبا عندما اندلعت ثورة 1952، وكان وقتها في الثانية والسبعين من عمره، وعلى الرغم من مرضه، فإن فرحته كانت غامرة بأنباء الحركة المباركة، فقرَّر قطع رحلته والعودة لمصر بأي ثمن، حتى لو كان عبْر ركوب طائرة، وهي الخطوة التي كان يتهيّب منها ولم يفعلها بحياته.

ما أن وصل النحاس القاهرة حتى زار مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في كوبري القبة، وكانت الساعة قد بلغت الثانية بعد منتصف ليلة 28 يوليو، وبالرغم من التوقيت المتأخر، عقد مع الضباط اجتماعًا إيجابيًا تبادلوا فيه التهاني والدعوات بالتوفيق، مما بشّر بعلاقة مميزة ستنشأ بين الطرفين.

ولا عجب أن يحصد النحاس وحزبه كل هذه الأهمية، فهو حامل راية سعد زغلول وآخر عنقود زعماء ثورة 1919 الباقين على الساحة، ورئيس حزب الأغلبية طوال رُبع قرن، وصاحب آخر حكومة وفدية حكمت مصر قبل الإطاحة بها في 27 يناير 1952، وهي الحكومة التي أتت إلى سُدَّة الحكم عقب انتخابات نزيهة حقّق بها حزبه فوزًا ساحقًا على كل منافسيه وحصد 296 مقعدًا بالبرلمان، عجزت كل الأحزاب المنافسة عن جمع رُبعها.

عندما جاءت ثورة يوليو 1952، فهمنا أول الأمر أن الثورة قامت لتأتي بالنحاس باشا إلى الحكم.
الشيخ الشعراوي، كتاب «الشعراوي الذي لا نعرفه» لسعيد أبو العينين

يقول دكتور رفعت السعيد في بحثه «مصطفى النحاس.. السياسي والزعيم والمناضل»، إن كثيرًا من المؤرخين يعانون حيرة لأن زعيمًا مثل محمد فريد أفنى حياته إعدادًا لثورة 1919، ولما قامت اعتلى دفتها أبطالٌ غيره، فهل كان موقف النحاس من ثورة يوليو نفس موقف محمد فريد من ثورة 1919؟

يضيف السعيد أن العلاقة بين الوفد والثورة بدأت وديّة، لكن بمرور الوقت ظهرت التناقضات بينهما، فكان الوفد يرى أن الواجب الأول والأخير للضباط هو إقامة انتخابات نيابية حرة ثم العودة بعدها إلى ثكناتهم مجددًا، أما التناقض الثاني فكان بسبب قانون الإصلاح الزراعي، بعد ما انقسم الحزب على نفسه لجبهتين: واحدة أيَّدت تحديد الملكية، وأخرى نادت بفرض الضرائب التصاعدية تزعمه فؤاد سراج الدين. ومن المفارقة أن النحاس كان مؤيدًا للفريق الأول، إلا أن تصميمه على تخلي الضباط عن الحُكم وإعادة إعمال دستور 1923 سبّب «الفراق» بينه وبين عبدالناصر والذين معه.

الثورة كانت تهتف في كل مكان أنها ستقيم حياة نيابية «سليمة»، وهذه الكلمة الأخيرة بالذات دمّرت علاقة النحاس والضباط، لأنها نتج عنها حملة تشهير ضد الحياة النيابية السابقة «غير السليمة» التي كان النحاس وحزبه إحدى دعائم أركانها.

يحكي عبدالرحمن الرافعي في كتابه «ثورة 23 يوليو»، أن الإذاعة بثت في منتصف 31 يوليو 1952 بيانًا من القيادة العامة دعت فيه الأحزاب لتطهير صفوفها من الفاسدين كما فعل الجيش، وإعلان برامج محددة يقدمونها إلى الشعب، وهو القرار الذي تعامل معه الوفد بخفّة، واكتفى بفصل 12 عضوًا ثانويين، ولم يقم بتغييرات جذرية في هيكل أعضائه.

خلال هذه الفترة، لعب أحد ألدِّ أعداء النحاس دورًا في زيادة الفجوة بين الطرفين، وهو سليمان حافظ، نائب رئيس مجلس الدولة، وهو الرجل الذي اقترح على الضباط تشكيل «مجلس وصاية» بعد طرد الملك، خوفًا من الاضطرار إلى دعوة مجلس الأمة الوفدي، أو إجراء انتخابات جديدة ستعيد الوفد حتمًا لسُدة الحُكم.

يحكي صلاح الشاهد في كتابه «ذكرياتي في عهدين»، وهو الرجل الذي عمل أمينًا لرئاسة الجمهورية، أن حافظ كان يُكن حقدًا دفينًا على النحاس، وحين قدّم مشروع قانون تنظيم الأحزاب السياسية كان يقصد من ورائه هدم حزب مصطفى النحاس أولاً وأخيرًا. وعلى الرغم من معارضة الدكتور السنهوري لهذا المشروع باعتباره مخالفًا للدستور، تم إقرار المشروع من منطلق الاقتناع بأن الأحزاب الفاسدة لا يمكنها أن تقيم ديمقراطية برلمانية سليمة، واعتبرت بموجبه جميع الأحزاب منحلة منذ صدوره ويُعاد تأسيسها من جديد وفقًا لأحكامه. وتسبب صدور القانون في قيام معركة طاحنة، أصدر بموجبها أصدر النحاس باشا بيانًا قال فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم
إنني أعد نفسي ملكًا للشعب، وقد كانت ثقتي في الشعب وثقته في شخصي طوال حياتي السياسية عوني على الشدائد وظهري في العيش، وسأظل ما بقي من عمري ملكًا لهذا الشعب الوفي، ولن تستطيع قوة أن تنحيني عن هذه المكانة بعد الله جلت قدرته إلا الشعب دون سواه.. والله ولي التوفيق.

وعلى الرغم من استجابة الوفد لهذا القانون، فتنحّى النحاس لأول مرة عن رئاسة حزبه، واكتفى بأن يكون رئيسًا فخريًا له، فإن هذا لم يُرضِ ضباط يوليو فتم الاعتراض على هذه الاستجابة بدعوى أن بقاء النحاس على رأس الوفد مخالف لقانون تنظيم الأحزاب.

بعد ذلك، في أبريل 1954، أُطلق ما يمكننا تسميته «قانون مصطفى النحاس» الذي نصّ على حرمان أي شخص تولّى منصبًا وزاريًا خلال فترة ما قبل 23 يوليو وكان منتميًا للوفد أو الأحرار الدستوريين أو الحزب السعدي، من ممارسة العمل السياسي، وبالطبع كان النحاس على رأس المعاقبين بمقصلة هذا القانون، إضافة إلى العشرات غيره.

وعلى هامش هذا التباين المتصاعد، تصاعَد خلاف آخر بين عبد الناصر ومحمد نجيب، على إثره أرسل الأول الدكتور طه حسين، وزير المعارف في آخر حكومة ترأسها النحاس باشا قبل الثورة، وطلب منه أن يُعلن تأييده لناصر إلا أن زعيم الوفد رفض، فأدرك البكباشي أن الساحة لا تتسع لزعيمين، وعلى واحد منهما فقط أن تُلقي عليه الجماهير الورد خلال سيره بالشارع.

خرج هذا التوتر سريعًا إلى العلن، قرر بموجبه عبدالناصر أن يتقدّم خطوة إضافية وقدّم لمحمد نجيب كشفًا بأسماء بعض الزعماء السياسيين الذين اعتبرهم «خطر على النظام» وطالب بضرورة اعتقالهم، ولمّا كان سَجْن زعيم شعبي كالنحاس أمرًا مستحيلاً فاكتفى بطلب تحديد إقامته، وهو ما رفضه نجيب فورًا، ولم يوقّع الكشف إلا بعد إزالة اسم زعيم الوفد منه، غير أن عبدالناصر أعاده بعدها دون عِلمه، فكانت أحد أسباب تقديم نجيب لاستقالته في فبراير 1954، وهي الفِعلة التي تراجع عنها عقب اندلاع المظاهرات في مصر والسودان.

يقول خالد محيي الدين في مذكراته: «أكثر محمد نجيب من جولاته الجماهيرية وتقرَّب إلى الناس، وحاول أن يكون نسخة مُحسَّنة من مصطفى النحاس، ما أكسبه شعبية واسعة وهو الأمر الذي أثار القلق لدى جمال عبد الناصر والزملاء في القيادة».

عبدالناصر كان يعتقد أن مصطفى باشا النحاس واحدًا من أولياء الله الصالحين، لذا فإنه لا يمكنه أن يحاكمه أبداً لأن من «يأتي عليه لا يفلح».
أنور السادات، كتاب «أوراق من السادات» لأنيس منصور

ويضيف محيي الدين:

ردَّد صلاح سالم كذبًا أن بعض السياسيين القدامى يتعاونون مع أمريكا من أجل إعادة الملك فاروق مجددًا، وادَّعى أنه يمتلك وثيقة تثبت هذا الكلام، فتقرر تشكيل «محكمة الثورة» التي تشكلت من بغدادي وحسن إبراهيم وأنور السادات وقُبض على إبراهيم عبدالهادي وعلي إبراهيم فرج بتهمة التآمر مع أمريكا، وكذلك كانت هناك محاولة لتقديم النحاس لذات المحاكمة لكنها لم تنجح.

صحيح أن خليفة سعد زغلول نجا من «بهدلة القضبان» إلا إجراءات «قصقصة ريشه» استمرَّت، فبقيْ سجين داره مُحدَّد الإقامة، علاوة على انطلاق حملات تشهير عنيفة ضده وضد زوجته زينب الوكيل، فنشرت «أخبار اليوم» سلسلة مقالات عنيفة ضدها، كما نشرت «روز اليوسف» تقريرها الشهير، الذي شككت به في مصادر ثروتها بعنوان «كم تبلغ ثروة السيدة حرم الرئيس مصطفى النحاس؟»، وبعدها صدر قرار بتقديمها إلى محكمة الثورة بتهمة «إفساد الحياة السياسية، والتدخل في شئون الحكم»، وعُوقِبت بمصادرة كل ممتلكاتها، وإعراب المحكمة عن «أسفها لموقف السيد مصطفى النحاس إزاء تصرفات زوجته، وسماحه لها بالتدخل في شئون الحكم».

أيضًا تم تقديم أقرب المقربين له وهو إبراهيم فرج إلى محكمة الثورة، وبالرغم من أنه كان يُحاكم بتهمة «الانتماء لجماعة سرية ذات نظام هدّام»، فإن التحقيقات معه تركزت على طبيعة علاقته بالنحاس وكأنه يُعاقب بسببها، حتى أن محاميه دكتور محمد صلاح الدين قال خلال الجلسات: «هل يخاف أحد من النحاس وهو في هذه السن؟ مثل هذا المريض المتقدم في السن يخاف عليه من الثورة؟»، وصدر الحكم على إبراهيم فرج بالأشغال الشاقة المؤبدة ثم تخفف إلى 15 عامًا.

وشعر الجميع أن المحاكمة الحقيقية لا تجري لزينب ولا لإبراهيم، وإنما كانت لشخص آخر، وهو النحاس باشا.

ويتابع محيي الدين: بالرغم من أنه اتضح أن صلاح يكذب وأنه لا يمتلك أي وثيقة، حكمت المحكمة على عبد الهادي بالإعدام فرفض محمد نجيب وخالد محيي الدين التصديق على الحكم، وبعد ذلك استكملت هذه المحكمة مهامها ضد الوفد وبقايا التنظيمات السياسية ومن ضمنهم فؤاد سراج الدين، وبعد ما انتهت جلساتها كان معظم القيادات خلف السجون.

هذه الإجراءات القمعية دفعت أحد القيادات الوفدية، وهو إبراهيم طلعت، للتخطيط في اغتيال زعماء حركة يوليو، وعلى رأسهم عبدالناصر، ويحكي في مذكراته أن أشدَّ من عارضه هو النحاس بشدة، الذي اعتبر أن «الغدر والاغتيال لا يقيم دولة ولا يرد حقاً».

يضيف الشاهد أنه بعد انتهاء أزمة مارس سنة 1954، أُفرِج عن المعتقلين وألغي تحديد إقامة الزعيم، وأراد محمد نجيب أن يتأكد بنفسه من تنفيذ قرارات الإفراج، فاتصلَّ بالنحاس، وقال له: «لعلك راضٍ الآن يا رفعة الرئيس»، فأجابه النحاس: «راضٍ عن إيه؟! أنتم أفرجتم عن كل الناس بينما ضُوعفت الحراسة عليّ»، فرد نجيب مطمئنًا إياه: «إن شاء الله قريبًا سيزول هذا الغبار»، وانتهت المحادثة بسؤال عن صحته وصحة زوجته.

ولم يكن نجيب يعلم أن هذا الغبار لن يزول وإنما سيمتد ليغطيه هو نفسه، فعقب حادث المنشية، صدر القرار 15 نوفمبر 1954 بإعفاء اللواء نجيب من مناصبه، وكانت المفارقة، أنه تم تحديد إقامته في فيلاّ زينب الوكيل زوجة النحاس، وهو القصر الذي كانت قد أعدّته لنفسها ثم صادرته منها محكمة الثورة، وهكذا زامل نجيب صديقه النحاس باشا في الإقامة الجبرية.

الله يعينك يا جمال

وينفرد سعيد أبو العينين في كتابه «الشعراوي الذي لا نعرف»، بأن الإمام حكى له واقعتين عن العلاقة بين الرجلين، الأولى أن زينب هانم زوجة النحاس رفضت الانصياع للضباط الذي حضروا إلى منزلها لتحضر إحدى جلسات محكمة الثورة، فلما اتصلوا بعبدالناصر قال لهم: «قولولها تيجي بكره المحكمة برضاها، وإلا «يجرجروها» غصب عنها ويودوها للمحكمة». ولما اشتكت للباشا، أخذ يهدئ من ثورتها وهو يقول: «إن شالله ميحصلش يا زينب».

وفي اليوم التالي، لم يحضر الضباط بالفعل، لا لأنهم انصرفوا عنهما ولكن لأن مقدمات العدوان الثلاثي قامت، واشتعلت الدنيا، وفوجئ النحاس بعبدالناصر يكلمه ويطلب منه المشورة في الموقف الصعب الذي يواجهه، فطالبه النحاس بالتحمل، ودعا له الله أن يعينه!

يحكي علي سلامة في كتابه «ما لا تعرفه عن النحاس»، إنه بعد قرار مصادرة أمواله، كان الزعيم يواجه أزمة تغطية نفقات منزله، ومعاشه لا يتجاوز 120 جنيهًا، فاضطرت السيدة حرمه لأن تبيع ما تمتلكه من حُليِّها الذهبية وبعض قطع أثاث منزلها؛ لمواجهة أعباء المرض التي بدأت تزحف عليهما بشكل خطير، ومع ذلك اضطر الزعيم إلى التخلص من سيارته بالبيع، وتخفيض عدد القائمين على خدمته؛ لعجزه الشديد عن مواجهة أعبائه المالية المتزايدة.

أتى عام 1955، وأصبح زعيم الأمة سابقًا عاجز تمامًا عن مواجهة أعباء حياته، فاضطر ابن شقيقته محمود شوقي سكرتير عام مجلس الوزراء سابقا، إلى تكليف اثنين من سكرتارية الزعيم السابقين بالسفر إلى الوجهين القبلي والبحري لجمع تبرعات من أعضاء الهيئة الوفدية السابقين للزعيم، ولما علم فؤاد سراج الدين أمر بصرف 400 جنيه شهريًا تُرسل إلى منزل الزعيم.

يحكي النحاس هذا الموقف في مذكراته، قائلاً: جاءنى عثمان محرم وأحمد حمزة وفؤاد سراج الدين، وبدأ فؤاد الحديث قائلاً: أنت تعلم أن «عبدالناصر» استولى على جميع ما تملك السيدة حرمك، وأن المعاش لا يكفيك ولا يفي بمطالبك الضرورية، ونحن والحمد لله لا يزال لدينا زائد عن حاجتنا، ولطالما غمرت المحتاجين منا ومن أعضاء الهيئة الوفدية وأنصار الوفد بعطفك وفضلك كعهدنا بك، كما عودتنا أن تنزل عند رأي الجماعة، وقد قررنا أن نساهم معك فى بعض النفقات، ونرجو ألا ترفض طلبنا.

لم يستمر هذا المعاش كثيرًا، لأن الحراسة فُرضت على فؤاد سراج الدين، وحينها بزغت فكرة اللجوء لعبدالناصر شخصيًا لإنقاذ عدوه اللدود من الضنك، وهنا يمدنا التاريخ بروايتين، الأولى، في مذكرات النحاس بأن زوجته زينب اتصلت بعبدالناصر مباشرة، وطلبت منه صرف معاش كي لا يُهان زوجها «في أخريات أيامه، ولا يجد ثمن الدواء الذي يُعالج به»، فاستجاب لها وأمر بصرف 300 جنيه شهريًا، أما بكتاب الشاهد، فيحكي أن فؤاد سراج الدين هو الذي بادر بالاتصال بمكتب الرئيس لشرح الظروف الأليمة التي يمر بها رفعة الباشا، فسُمح له بـ250 جنيهًا شهريًا.

وداع النحاس الأخير لعبدالناصر

في يوم 23 أغسطس 1965، أُعلنت وفاة الزعيم بعد 12 عامًا قضاها حبيس منزله. يحكى على سلامة أنه فور وفاة الزعيم، تدفق الآلاف على بيته في جاردن سيتي، وراحوا يبكونه بحرارة ويهتفون له: «إلى جنة الخلد يا نحاس»، و«لا زعيم إلا أنت»، و«اشكي لسعد الظلم يا نحاس»، وفشلت الشرطة في السيطرة على الموقف فسارت الجنازة من جاردن سيتي إلى التحرير وعبر شارع سليمان إلى شارع صبري أبوعلم ثم تمت الصلاة عليه في مسجد الكيخيا، وانطلقت نحو الحسين حيث صلى عليه مرة ثانية والناس تبكي ولا تكاد تصدق، حتى انطلقت بعدها السيارة إلى مقابر البساتين حيث صُلي عليه للمرة الثالثة قبل أن يدفن في مقبرته هناك.

أما عن موقف عبدالناصر، فيروي الشاهد بكتابه أن البكباشي كان وقتها بزيارة خارج مصر إلى جدة، ويصف أن توديع الصحافة العالمية له كان رهيبًا، حتى أن الملك فيصل قال له: «لقد كان النحاس باشا رجلاً عظيمًا فاضلاً»، وهنا صمت جمال!  فهذه المرة قراراته العقابية بحق الرجل لن تستطيع ملاحقته إلى الدار الآخرة.

يقول مصطفى أمين في كتابه «سنة أولى سجن»، أن الملايين خرجت لتشييع جنازة النحاس، و«حزنتُ لأن الصحف لم تُخصص الصفحات الملائمة للحديث عن تاريخ هذا الرجل وأمجاده»، واعتبر عبد الناصر أن خروج كل هذا الحشد بالجنازة هو ثورة على النظام، فأصدر أمرًا بالقبض على كل مَن سار بالجنازة، وهو ما يسخر منه قائلاً: «هل ستقبضون على 3 ملايين؟!».

وصدر لاحقًا قرار باعتقال وحبس كبار الوفديين الذين شاركوا في جنازة النحاس، ويضيف أمين أن مسؤولاً أكد له لهم أنهم «لن يخرجوا من السجن أحياء أبدًا»، بعضهم قضى بالسجن عامين وآخرون لم يخرجوا إلا بعهد السادات.

أنا بحبك يا مصطفى

لم تكن هذه الجنازة هي اللقاء الأخير بين زعيمي مصر، وإنما جمعتهما لمرة أخيرة أغنية ظهرت في أواخر الخمسينيات، وهي «مصطفى يا مصطفى» التي كتب كلماتها شاعر غير معروف في الوسط الفني، وهو سعيد المصري، ولحّنها الموسيقار الفذ الراحل محمد فوزي، وأراد الأخير أن تغنيها المطربة العالمية داليدا، لكن ظروفًا إنتاجية منعتها من إتمام التجربة، فرشحت شقيقها برونو مورو الذي غيّر اسمه بمجيئه إلى مصر ليصبح أورلاندو، وغناها برفقة المطرب المسيحي السكندري الشهير بـ«بوب عزام».

حقق العمل نجاحًا ساحقًا، وتم توزيع الملايين من نُسخها حول العالم، إلا أن مصر قرّرت عدم إذاعتها عام 1960 بدعوى أن كلماتها تمتدح في النحاس وتتحسّر على مرور 7 أعوام من سقوط الملكية، بناءً على قرار الرقابة التي كان يرأسها آنذاك الروائي الشهير نجيب محفوظ!