محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2016/12/30
الكاتب
جيسي كينديج

نحن في عام 1942، وهناك فتاتان ترتديان معاطف منقوشة بمربعات متداخلة، تمسكان بحقائب طعام ورقية وتتعهدان بالولاء لعلم الولايات المتحدة في مدرسة رافائيل ويل بمدينة سان فرانسيسكو. الفتاة على اليمين تنظر مباشرة إلى الكاميرا، وتبتسم، وتشعر بالفخر. أما الفتاة على اليسار تنظر إلى العَلَم، قلقة وخائفة، يلامس حاجباها المرفوعان خصلات شعرها الأسود اللامع. وفي تلك الأثناء، وقَّع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت قرار الاعتقال القسري لذوي الأصول اليابانية في غرب الولايات المتحدة.

ردود الأفعال المختلفة للفتاتين تجاه العلم الأمريكي تجسِّد التاريخ المضطرب والمتزعزع لحقبة اعتقالات اليابانيين الأمريكيين أثناء الحرب العالمية الثانية. بعد عقود من الفعالية الآسيوية-الأمريكية من أجل الإصلاح وتصحيح الأوضاع، اعتذر قانون الحريات المدنية لعام 1988 رسميًا عن هذه الجريمة غير الشرعية المتمثلة في هستيريا زمن الحرب والعنصرية. هذه الفتاة على اليمين: تدَّعي بفخر دورها المتساوي في البلاد. ولكن مع كل توسع جديد للقوة الأمريكية العسكرية وكل عدو جديد بنيّ أو أسود البشرة، تُبعث الاعتقالات من مرقدها القديم ويجري تسويغها بأثر رجعي. وهذه الفتاة على اليسار، قلقة ومتشكّكة من بلدٍ حياتها فيه غير مستقرة على الدوام، وحقوقها غير محميّة على الإطلاق.

فتاتان يابانيتان في سان فرانسيسكو، أبريل 1942

بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، جادل كارل هيجبي، وهو مؤيد بارز لترامب، أنَّ تجديد سجل المهاجرين من الدول «الإرهابية» في عهد بوش كانت فكرة جيِّدة بسبب «السابقة» التاريخية المتمثلة في اعتقالات اليابانيين والأمريكيين من أصول يابانية أثناء الحرب العالمية الثانية.

أدان الآلاف من علماء التاريخ الأمريكي والتاريخ الآسيوي الأمريكي تعليق هيجبي، ولكنَّ البعض الآخر وجدوا الفكرة مستساغة. نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز رسائل القرّاء ردًا على مقالة سابقة عن معسكرات الاعتقال، وجادل بعض القرّاء أنَّ «خطر» اليابانيين «كان حاضرًا بقوة». كما جادل رجل من صن لاند بولاية كاليفورنيا، أنَّ «كل واحد تقريبًا في الولايات المت حدة كان مُكلفًا بالمساعدة في المجهود الحربي، في حين تمّ تكليف اليابانيين بمهمة البقاء بعيدًا وعدم التسبب في أي تعقيدات‌».

أدى قرار صحيفة لوس أنجلوس تايمز بنشر الرسائل المؤيدة للاعتقالات إلى تيار من الاحتجاج، و اعتذار من رئيس التحرير دافان مهراج لفشل الصحيفة في تحقيق معايير خطاب متمدن وواعٍ وقائم على الحقائق.

الاعتذار مهمّ ولكنه ليس سوى بداية التفكير في تاريخ تلك الاعتقالات، وليس النهاية. لقد كانت اعتقالات الأمريكيين-اليابانيين اعتقالات دون تهمة قانونية لما يقرب من 120 ألف شخص (الثُلثان منهم كانوا مواطنين أمريكيين، والبقية مُنعوا من أن يصبحوا كذلك) داخل معسكرات الاعتقال بموجب قرار رئاسي، برَّرته مخاوف لا أساس لها بأنَّ أي شخص من أصول يابانية من المحتمل أن يساعد العدو في زمن الحرب.

الإحياء الأخير للاعتقالات ليس مجرد مشكلة نسيان تاريخي، ولكنها تشير إلى واقع كيف أصبحت العنصرية ضد الآسيويين مسألة طبيعية في الثقافة الأمريكية؛ طبيعية، في الواقع، إلى حدّ أنّه يمكنها أن تستوعب مجموعات جديدة بسهولة. في كتاب «حياة مسلم أمريكي»، يتساءل مصطفى بيومي: «ماذا يحدث عندما تصبح الحياة العادية مسوغات للشكّ دون إشارة إلى خطأ ما … وعندما يمكن أن تتحول الأمور اليومية في حياة مسلم أمريكي إلى نوايا شائنة بسهولة؟»؛ الفتاتان في الصورة يمكنهما الإجابة بالتأكيد.

وبالرغم من أنَّ المحافظين والمتطرفين اليمينيين اليوم يحاججون بأنَّ الاعتقالات في زمن الحرب تُعدّ «سابقة» مفيدة، كان الليبراليون من أنصار «الصفقة الجديدة» هم المخططون والمؤيدون لمعسكرات الاعتقال. وبمساعدة عقود من المخاوف ضد الآسيويين، ظنّت الحكومة الأمريكية والمسؤولون العسكريون أنَّ الاعتقالات في زمن الحرب ستكون طبيعية، وروتينية، وفكرة صائبة، بل وإنسانية. لكنَّ معسكرات الاعتقال الأمريكية لم تكن كذلك.


فكرة جلية

في بداية عام 1936، خلال التوسع الإمبراطوري الياباني في المحيط الهادئ، كتبَ الرئيس فرانكلين روزفلت رسالة إلى رئيس مجلس الدفاع المشترك، يؤيد «الفكرة الجليّة» بإنشاء «قائمة خاصة» بالمواطنين اليابانيين وغير المواطنين في هاواي حتى يمكن «وضعهم في معسكر اعتقال في حال حدوث مشاكل». كان اقتراح روزفلت مناقضًا لنتائج الرقابة الحكومية لأكثر من عشر سنوات التي شهدت احتمالًا ضئيلًا لتحالف المجتمعات اليابانية الأمريكية مع اليابان الإمبريالية. وبخلاف ذلك، كانت مخاوف الرئيس «جليّة» بسبب تاريخ أطول بكثير من الإقصاء العنصري الذي جعل الشعوب الآسيوية تبدو غريبة على الولايات المتحدة.

فكرة أنَّ اليابانيين الأمريكيين كانوا عنصرًا متكتلًا ومشبوهًا داخل الجسد السياسي الأمريكي كان لها تاريخ طويل قبل الحرب العالمية الثانية. بعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور في 7 ديسمبر/كانون أول 1941، أتاحت «القائمة الخاصة» التي أشار إليها روزفلت لعملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، والشرطة العسكرية، وهيئة إنفاذ القانون المحلي، فرصة اعتقال أكثر من ألف شخص في هاواي وعلى الساحل الغربي في يومين فقط. وكان كثير من الذين تمَّ اعتقالهم آنذاك من قادة مؤسسات المجتمع الياباني الأمريكي، ومن ناشري الصحف، والمعلمين، والقساوسة.

يحكي قس كنيسة سياتل، دايسوكي كيتاغاوا، أنَّ «المجتمع الياباني كله كان في حالة ذعر. لقد عاش كل الرجال وهم يتوقعون الاعتقال من قِبل مكتب التحقيقات الفيدرالي في أي وقت، كما كابدت الأسر الخوف في كل يوم». كانت الفكرة وراء هذه الاعتقالات الجماعية — ومعسكرات الاعتقال التي تلتها — هي تدمير المجتمعات اليابانية الأمريكية من خلال الاستيعاب، والتشتت، والتفكّك. وقد جادل رئيس وحدة ترحيل المعتقلين، ديلون ماير، أنَّ الترحيل القسري يمكن أن يحل «مشكلة العنصرية من خلال نشر المعتقلين في جميع أنحاء الولايات المتحدة».

تبدو حالة المواطنة قليلة الأهمية مقابل التصوّرات المحمومة للعنصرية الأمريكية، والمخاوف العنصرية التي تتجاوز الهواجس الدستورية. بعد إمعان النظر في اقتراح عملية الإجلاء الجماعي في مذكراته بعد هجوم بيرل هاربور، خلصَ وزير الحرب الأمريكي هنري ستيمسون إلى أنَّ «الخصائص العِرقية اليابانية تتمثل في أنّه لا يمكننا فهم أو الثقة حتى بالمواطن الياباني. هذا الأخير هو حقيقة ولكني أخشى أنها ستُحدث ثغرة هائلة في نظامنا الدستوري عند تطبيقها». كما ذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز: «الأفعى تظل أفعى أينما فقست بيضها – وكذلك الياباني الأمريكي الذي وُلِدَ لأبوين يابانيين – يكبر ليكون مواطنًا يابانيًا، وليس أمريكيًا».

حدث اختلاف بين «النيسي» (Nisei)، وهم اليابانيون المولودون في الولايات المتحدة من الجيل الأول من المهاجرين اليابانيين المعروفين باسم «إيسي» (Issei). كامرأة شابة في ولاية كاليفورنيا، قالت يوري كوشياما: «تغيَّر كل شيء بالنسبة لي يوم قصف ميناء بيرل هاربور … كنتُ مواطنة أمريكية مُخلصة للعلم الأمريكي، لم أستطع تصديق أن هذا كان يحدث لنا. الأمريكيون لن يفعلوا بنا شيئًا مثل هذا». لكنَّ معرفة أنَّ جنسيتهم الأمريكية ستكون مشروطة فجأة كان اكتشافًا صارخًا. تحكي أكيكو كوروس، مراهقة يابانية تربت في حيّ متعدد الأعراق وسط مدينة سياتل: «كانت الحرب بمثابة صدمة كبيرة؛ لأنّه لم يسبق وأن تمَّ النظر إلينا باعتبارنا مواطنين غير أمريكيين». وبعد الخروج من تجربة الاعتقال في زمن الحرب، كرَّست كوشياما وكوروس حياتهما لمكافحة العنصرية الممنهجة، وعنف الحرب والظلم.

كانت الاعتقالات الأولى بعد هجوم بيرل هاربور مؤشرًا مشؤومًا لما سيحدث بعد ذلك. وأعقبها مجموعة من القيود: أولًا المناطق «المحظورة» على «أي شخص من أصل ياباني» عبر المناطق الغربية من الولايات المتحدة وفرض حظر التجول على «الأعداء الأجانب». وفي يوم 24 مارس/آذار 1942، صدر أول قرار إقصاء بترحيل المواطنين اليابانيين واليابانيين الأمريكيين من جزيرة بينبريدج في واشنطن، قبالة سواحل مدينة سياتل.

ذكر بيل هوسوكاوا أنَّ «كل عائلة من بين أربع وخمسين عائلة تحمل فقط الأدوات البسيطة التي أذن بها الجيش» اجتمعت عند رصيف العبَّارات. ويتذكر المراقبون صمت الأشخاص الذين تمَّ إجلاؤهم وهم يستقلوا العبَّارة. و ذكرت مجلة بينبريدج ريفيو أنَّ الأصدقاء القوقازيين للأشخاص الذين تمَّ إجلاؤهم «تجمعوا عند رصيف الميناء»، وبكوا بشدة أثناء صعود جيرانهم اليابانيين على متن العبَّارة كيهولكن في رحلتهم الأخيرة من الجزيرة منذ فترة طويلة.

صمت سكان الجزر كان مُعبِّرًا للغاية، إذ كان الناس مجبرين على التخلي عن حياتهم من أجل مستقبل هشّ. وأصبح نظام بينبريدج سابقة لأوامر إجلاء واسعة النطاق في ولاية كاليفورنيا وأجزاء كبيرة من واشنطن، وولاية أوريغون، وأريزونا. كما مُنِح اليابانيون مهلة لأسبوع واحد من أجل تسوية أمورهم، وإنهاء أعمالهم، وتخزين أو بيع ممتلكاتهم. وبالرغم من أنَّ بعض العائلات كانت قادرة على نقل منازلهم ومزارعهم للأصدقاء أو الجيران، اضطر الكثيرون منهم لترك المزارع لتصبح أرضًا جرداء أو إلى بيع ممتلكاتهم مقابل جزء من قيمتها.

يحكي متطوع ياباني أمريكي في ولاية كاليفورنيا: «النساء بكت بشدة … بعضهن حطّمن أمتعتهن، وكسرنها أمام أعين المشترين لأنهم عرضوا عليهن أسعارًا زهيدة». كما سُمح للناس بأخذ ما يستطيعون حمله: تتذكر كوروس والدتها وهي تشتري لها حقيبة وتملأها بالملابس وبعض الكتب، وآلة الكلارينيت.

تمَّ تسجيل اليابانيين، وترقيمهم، ووسمهم وكأنهم قطعة من الأمتعة (رقم 107351A للأب، ورقم 107351B للأم، والأطفال من الفئة “C” وحتى “F”، وهلم جرّا) قبل إرسالهم عبر القطار أو الحافلة إلى «مركز التجمّع» الذي كان عادة ما يشمل ساحات الألعاب أو المعارض أو مضامير سباق الخيل. وصلت عائلة كوروس إلى ساحات بويالوب خارج مدينة سياتل، حيث كانوا يقيمون في مرابط الحيوانات التي لا تزال تفوح منها رائحة الخيول، وتحيط بها الأسلاك الشائكة، وتخضع لرقابة حرَّاس مسلحين في برج المراقبة. في مركز التجمع تانفوران بمدينة سان برونو، خارج سان فرانسيسكو، مشى النازحون عبر صفين من القوات التي تحمل البنادق والحراب الثابتة. وفي ظل عدم وجود مرافق طبية في مدينة تانفوران، وضعت امرأة حامل مُنِعت من زيارة المستشفى طفلها في اسطبل الخيل.

بعد قضاء عدة أسابيع في هذه المعتقلات، تمَّ نقل الأمريكيين اليابانيين إلى واحد من عشرة مخيمات دائمة: بحيرة تول ومانزانار في ولاية كاليفورنيا، مينيدوكا في ولاية إيداهو، وهارت ماونتن في وايومنغ، وبوستون وجيلا ريفر في ولاية أريزونا، وتوباز في ولاية يوتا، وجرانادا في ولاية كولورادو وروهوير وجيروم في ولاية أركنسو. كما تمَّ وضع أسرة كوروس في «قطار قديم وقذر» ونُقلوا إلى مخيم مينيدوكا، حيث ظلّت هناك حتى تخرجها من المدرسة الثانوية.

كانت العزلة وبُعد المسافة هي السمة الفارقة في تلك المخيمات. تقع المخيمات في صحراء عالية الجبال حيث سلسلة جبال روكي وسييرا أو داخل المستنقعات في دلتا المسيسيبي، وكانت قاسية على أناس اعتادوا على المناخات المعتدلة في سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس، وسياتل، والآن باتوا يعيشون في شتاء قارس البرودة أو صيف لا تُطاق حرارته. بعد وصولهم في قطارات مغلقة، وجد الأمريكيون اليابانيون أنفسهم على بُعد مئات الأميال من المدن الكبرى، منعزلون عن أنظار باقي المواطنين. في مخيم مانزانار، تحكي هاروكو نيوا وهي تحيط بها جبال سييرا الجميلة والقاسية: «صباح اليوم الأول في مخيم مانزانار، عندما استيقظتُ ورأيتُ كيف يبدو المخيم، بكيت».

لقد كانت هذه المخيمات عبارة عن سجون. الأسلاك الشائكة تطوّق المخيمات، والحرَّاس المسلَّحون يضمنون عدم مغادرة أي شخص. التهديد بالعنف يُبقي السجناء تحت حصار دائم: أطلقت الشرطة العسكرية الرصاص على جيمس هاتسواكي في واكاسا، البالغ من العمر ثلاثًا وستين عامًا، أثناء المشي وقت غروب الشمس مساء يوم الأحد، كما قُتل سويتشي جيمس أوكاموتو من مسافة قريبة على يد الجندي برنار جوي بسبب غضبه من أن أوكاموتو أوقف شاحنته عند البوابة الرئيسية في بحيرة تول وطلب السماح له بالمرور. وإجمالًا، قُتل أربعة أشخاص في المخيمات وأصيب أكثر على يد الحرَّاس. ولكن من الصعب إحصاء أعداد الكثيرين الذين قُتلوا أثناء تجولهم في المساء، أو الذين تعلموا الرقابة الذاتية أثناء العيش تحت رقابة مستمرة من حرَّاس بيض مسلَّحين.

أبراج الحراسة، والثكنات المصنوعة من الورق المقطرن، وقاعات الطعام، كلها شكَّلت المعالم الجديدة لحياة اليابانيين الأمريكيين. لقد صُمّمت هذه المخيمات لتدمير الكرامة الشخصية والحياة الأسرية. وكانت الخصوصية غائبة. كما تمَّ إيواء عائلات بأكملها في غرف ضيقة، وكانت المراحيض بدون جدران داخلية. وكانت أوقات تناول الطعام بنظام المناوبات، والمواد الغذائية (الفاصوليا، النقانق المُعلبة، وما شابه ذلك) بدت غير مشهيّة ومحبطة للأذواق اليابانية. وجدت كوروس أنَّ «التفاعل الحميمي مع العائلة كان غائبًا، لأننا نقضي الكثير من الوقت معًا، نتحدث ونمزح ونغني. لم يكن هناك فرصة لفعل ذلك في ثكنة بها ستة أسرّة وقاعة لتناول الطعام».

لم يكن هناك الكثير للقيام به، وأولئك الذين اعتادوا على العمل وجدوا أنفسهم ينتظرون فحسب. الطبيعة التعسفية والإطار الزمني الغامض للسجن جعل المستقبل محفوفًا بالمخاطر. «كنا نظن أننا سنكون قادرين على الرحيل قريبًا»، تحكي كوشياما. «كل هذا كان غير معقول. قبل عام كنا لا نعتقد أن أي شيء من هذا القبيل يمكن أن يحدث لنا – ليس في هذا البلد». وقالت ساداي تاكيزاوا: «لقد كنا نعيش في جحيم. الجميع شعر بالوحدة والقلق بشأن المستقبل … شعرنا بالغضب بداخلنا: كان شعورًا بالحزن، إنّه شعور معقّد». وأضاف زوجها أوسوكي تاكيزاوا:

لم نستطع فعل أي شيء حيال أوامر الحكومة الأمريكية. لقد عشتُ كل يوم بلا هدف. شعرت بالفراغ … كنتُ أتبدد كل يوم. لا أتذكر أي شيء آخر … لقد شعرت بخواء داخلي فحسب.

وسط اليأس والغضب، قاوم اليابانيون الأمريكيون بروح وبراعة. وفي ظلّ حظر امتلاك الكاميرات، قام المصور المحترف تويو مياتاكي بتهريب عدسة داخل مخيم مانزانار وتصميم كاميرا بنفسه، وإخفاءها في شكل حقيبة طعام. واستخدم بيل مانبو ألوان كوداكروم في الكاميرا المهربة، وأظهرت الصور التي التقطها الألوان الزاهية لفستان الكيمونو (ثوب ياباني فضفاض)، وقمصان الأطفال المنقوشة باللون الأحمر مقابل كآبة سهول وايومنغ.

تكشف صورهم مشاهد من الحرمان واليأس، والملل، وفي الوقت نفسه مشاهد من الضحك والرقص والاحتفال على الرغم من الصعاب. زرع البستانيون الزهور وحوّلوا الصحراء القاحلة إلى حديقة جميلة، وصنع النجارون الأثاث من الخشب وبنوا الجدران والرفوف داخل الثكنات، وتبادل السجناء النكات وسخروا من أوضاعهم، وأطلقوا على ثكناتهم اسم «النُزل الترابية»، وأقاموا مسابقات الإمساك بالذباب داخل المرابط.

رفض المعتقلون، مرارًا وتكرارًا، التناقض والمنطق الخاطئ وراء اعتقالهم. وفي محاولة لتحديد الياباني «الخائن» من «المخلص»، أُجبر جميع المعتقلين في عام 1943 على ملء استبيان تضمن القَسَم بعدم الولاء لإمبراطور اليابان وإعلان ولاءهم للولايات المتحدة. وبالنسبة للآباء والأمهات المحرومين من الجنسية الأمريكية، فهذا يعني إعلان أنهم عديمو الجنسية من خلال التخلي عن الجنسية الوحيدة التي يمتلكونها. تحدث المعتقلون مرة أخرى، رافضين حصر احتجاجهم في خانة «نعم» أو «لا» التي تفرضها عليهم الحكومة الأمريكية. وطالب أحدهم قائلًا: «أود أن أعرف تعريفك للمواطن الأمريكي المخلص. هل هو ياباني أم لا؟» في حين تساءل آخرون في غضب شديد: «هل لك أن تخبرنا أين هي الحرية والعدالة لكي نقاتل من أجلهما؟».

ملء استمارة الحكومة ليست الطريقة المعتادة لقول الحقيقة للسلطة، ولكنها كانت واحدة من أشكال متعددة ومتنوعة للاستجواب، والرفض والاحتجاج التي يمارسها المعتقلون. عندما أعلن الجيش في عام 1944 أنَّ رجال «النيسي» مؤهلين الآن للتجنيد – في البداية تمَّ تصنفيهم باعتبارهم أعداء أجانب من الفئة 4-C – ظهرت حركة احتجاج صاخبة وغاضبة في المخيمات.

في مخيم هارت مونتين، شكَّل كيوشي أوكاموتو، وفرانك إيمي، وبول ناكاداتي، «لجنة اللعب النظيف»، وهو تنظيم قائم على عضوية الرجال في سن الخدمة العسكرية الذين رفضوا أداء الخدمة حتى إعادة الحقوق المدنية الكاملة للأمريكيين اليابانيين. وكتبوا: «نحن لا نخشى الذهاب إلى الحرب، ولا نخشى المخاطرة بحياتنا من أجل بلدنا». ولكن:

دون أي تُهم موجهة إلينا، ودون أي أدلة على ارتكاب مخالفات من جانبنا، تمَّ طرد 110 ألف من الأبرياء من منازلهم، واجتثاث جذورهم حرفيًا من الأماكن التي عاشوا فيها الجزء الأكبر من حياتهم، وسَوقهم مثل المجرمين الخطرين إلى معسكرات اعتقال ذات أسوار من الأسلاك الشائكة تحرسها الشرطة العسكرية.

انتشرت فكرة «اللعب النظيف» في مخيمات أخرى، ورفض أكثر من ثلاث مئة رجل مشروع التجنيد. ولذلك، تمَّت إدانة ثلاثة وستين من المقاومين في مخيم هارت مونتين وحُكم عليهم بالسجن لعدة سنوات في سجن فيدرالي.

كان مخيم بحيرة تول أحد المخيمات التي أصبحت مراكز العزل لإثني عشر ألفًا من «مثيري الشغب» و«الخائنين» الذين أجابوا بــ «لا» على الاستبيان. داخل المعتقل كان هناك سجن آخر، حظيرة داخلية تسمى «المنطقة ب» حيث يُحتجز فيها السجناء لعدة أشهر دون تهمة أو محاكمة في خيام شديدة البرودة تحت حراسة مسلَّحة. وبعد عيد الميلاد في عام 1943، احتج جميع الرجال الــ 199 المعتقلين في المنطقة (ب) على حبسهم في هذه المنطقة الفاصلة: «اعتبارًا من مساء يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 1943، نتعهد نحن الموقِّعين أدناه بالإضراب طوعًا عن الطعام حتى يحين الوقت الذي يُطلق فيه سراح الجميع هنا وإرسالهم إلى المستعمرة في وقت واحد ودون قيد أو شرط».

داخل مركز العُزلة الداخلية، لا ينطبق الدستور، الوحشية هي التي تسود هناك. في عاميّ 1943 و1944، بعد أشهر من التوتر الشديد، وإضرابات السجناء، والجهود السلمية من جانب السجناء للتفاوض بشأن ظروف معيشة وعمل أفضل، أثيرت مخاوف حكومية إزاء تمرد مسلَّح ومن ثمَّ استخدام القوة العسكرية على نطاق واسع. وفي 4 نوفمبر 1943، بعد أن سعى السجناء لوقف شاحنة تأخذ المؤن إلى مفسدي الإضراب، تمَّ استدعاء قوات الجيش وأُلقي القبض على زعماء التمرد وتعذيبهم. ويحكي الطبيب جون ت. ميسون أنَّ:

أحد المحققين ضرب يابانيًا بمضرب بيسبول. أسقطت الضربة الياباني أرضًا، ولكنها لم تقتله. [المحقق 2] شرع أيضًا في ضرب الياباني باللكمات، وخلال ذلك الوقت اتهموا هذا الياباني بأنه وصف العديد من القوقازيين بأنهم «أبناء الساقطات» … وأخيرًا، ذكر شخص ما إلى [المحقق 3] أنّه كان «الموسم المفتوح» لليابانيين، وسأله عما إذا كان يود أن يجرب حظه هو الآخر. أجاب [المحقق 3] «إنَّ الأمر أشبه بإطلاق النار على البط».

وجدت الشهادات اللاحقة أنَّ بعض الرجال الذين تعرضوا للضرب احتاجوا قضاء أشهر في المستشفى، و «أُصيب أحدهم بمرض عقلي دائم نتيجة الضرب الذي تعرض له». وكان هناك سجين معه كاميرا مهرَّبة سجَّل هذه الأحداث، وتُظهر الصور الضبابية الحراس البيض وهم يبتسمون بفخر، ويدخنون السجائر، ويسحبون الرجال اليابانيين الأمريكيين — مشعَّثين، مع قمصان ممزقة — من الذراعين عبر ساحة الحظيرة.

كان يجري وسم وترقيم وترحيل اليابانيين، ووضعهم في ثكنات عسكرية، يعيشون فيها تحت رقابة حرَّاس مسلَّحين، مصنفين في مجموعات من «المخلصين» و «الخونة»، يُسمح لهم أو يُمنعوا من مغادرة المخيمات. لقد صُمِمَ نظام معسكرات الاعتقال من أجل تنظيم وجعل اعتقال اليابانيين الأمريكيين يبدو عملًا بيروقراطيًا. في البيروقراطية يأتي التسويغ، مثلما هو الغرض من الهيئات الحكومية، وتُحفظ الأوراق، ويصبح الاعتقال الوضع الطبيعي الجديد. ولجعل المخيمات تبدو طبيعية قدر الإمكان، سعى المسؤولون إلى إنشاء النوادي الاجتماعية، وسمحوا بتواجد الصحف والفرق الرياضية، وبذلوا الكثير من الجهود للمحاججة بأنَّ هذا الاعتقال الجماعي ليس اتهامًا لجميع اليابانيين، بل مجرد وسيلة للتمييز بين «الخونة» و«المخلصين».

بالنسبة لمدير وحدة ترحيل المعتقلين، ديلون ماير، كانت المخيمات «مجتمعات ذاتية الحكم»، و«محطات على جانب الطريق»، و«ملاذات مؤقتة»، أو على أقل تقدير «مراكز ترحيل»، و«محطات تجمع»، أو «معسكرات اعتقال». (أشار ماير ذات مرة إلى «داخاو» معسكر الاعتقال الألماني).

في الواقع، بالنسبة لحكومة الولايات المتحدة، كان هذا أمرًا عاديًا؛ إذ كان العديد من المسؤولين المعنيين، كما وثَّق المؤرخ ريتشارد درينون، خبراء في «رقابة الشعب». وقد عمل بوحدة ترحيل المعتقلين، تلك الهيئة الجديدة المصممة للإشراف على ترحيل اليابانيين إلى المخيمات، عملاء مكتب الشؤون الهندية (BIA)، وهم متخصصون في نقل وتنظيم السكان. استمر ديلون ماير في إدارة سياسة «الإنهاء» الشائنة التي تبناها مكتب الشؤون الهندية في الفترة من عام 1950 إلى 1953، والتي أدت إلى طرد السكان الأصليين من أراضيهم قسرًا وترحيلهم إلى أحياء حضرية معزولة.

كان هناك مخيمان في ولاية أريزونا — بوستون ونهر جيلا — على محمية هندية، وكان السجناء اليابانيون في مخيم بوستون يسألون المسؤولين حول ما «إذا كانوا سيعيشون ما تبقى من حياتهم في «محميات» مثل الهنود». من منظور الحكم على الاعتقال مقابل الترحيل القسري لسكان أمريكا الأصليين في عام 1800، وجدَ علماء الأنثروبولوجيا بوحدة ترحيل المعتقلين أنَّ مشروعهم الخاص هو «عمل رائع، ومختلف وأفضل في الأسلوب وإدارة الشؤون الإدارية عن نقل الهنود».

تحكي الناشطة السياسية اليابانية-الأمريكية، يوري كوشياما، عن الفترة التي قضتها في معسكرات الاعتقال الأمريكية، وتقول إنّه يجب أن ننظر إلى هذا التاريخ الطويل بعين الاعتبار:

تاريخيًا، لطالما وضع الأمريكيون الناس وراء الجدران. في البداية، كان الهنود الحمر الذين وُضِعوا في محميات، ثمَّ الأفارقة الذين عاشوا في عبودية تامة، وأفنوا حياتهم في المزارع، وهناك المكسيكيون الأمريكيون الذين عملوا في أمور الهجرة. . . وهناك أيضًا الصينيون الذين عملوا في مخيمات السكك الحديدية حيث كانوا معزولين تقريبًا، وهناك المحرومون، والمغلوبون على أمرهم … هذه الفترة التي عاشها اليابانيون مهمة للغاية. إذا كنا نستطيع رؤية علاقة عدد مرات حدوث ذلك في التاريخ، فإننا بوسعنا منع حدوث هذه الأمور مرة أخرى عن طريق معارضتها علنًا.

في النهاية، ووسط الدعوات المتجددة لاعتقال الأمريكيين المسلمين، فإنَّ دعوة كوشياما لفهم اعتقالات اليابانيين الأمريكيين كجزء من حملة طويلة من الاستعمار الأمريكي، وإدارة العمالة، ونشر العنصرية هي مسؤولية ضرورية، على الرغم من صعوبتها. ولكنَّ التحدي الذي تجبرنا الفتاة على اليسار على أن نقبله، بعد ما يقرب من خمسة وسبعين عامًا، هو أنَّ: حياتها وحقوقها، ومستقبلنا جميعًا، سيكون محفوفًا بالمخاطر على الدوام حتى نأخذ هذه المسؤولية على عاتقنا.