هل ما زلنا نمارس الشعوذة؟

يلجأ الإنسان عادةً إلى الشعوذة حين يستنفد كل الوسائل المتاحة دون تحقيق رغبة جوهرية بالنسبة إليه، أي حين يدرك أن تحقيق غرضه لا يتوقف عليه أو على شيء يتحكم فيه، ولا يكون عليه إلا انتظار تصاريف القدر. عندئذ يبدأ تفكيره العاجز في ابتكار علاقات بين الأحداث المختلفة.

مثلًا إذا كنّا في عام جفاف وارتدى الشخص ثوبًا أبيض اللون وتصادف أن هطلت الأمطار في اليوم ذاته، لاعتقد وجود علاقة سببية خفية بين الزي الأبيض والمطر، ولأصبح يرتدي زيًا أبيض كلما عانى الجفاف. كذلك إذا اضطر أعرابي إلى شرب بول ناقته عطشًا لعدم إيجاد الماء وتصادف أنه كان مريضًا فشُفي، لعزا شفاءه إلى بول الناقة ولصار يشربه كلما أصيب بالمرض.

السببية والتفكير المنطقي

فكرة السببية التي تقوم عليها الشعوذة فكرة صحيحة في أساسها، بل إن التفكير المنطقي استغرق قرونًا حتى اكتشفها. فقديمًا كان يسود الاعتقاد أن النتيجة تترتب على السبب بضرورة منطقية تنبع من طبيعة الأشياء الداخلية، فالأشياء تهبط إلى الأرض لأن للأرض قوة جاذبية بطبيعتها، كذلك يطفو الخشب فوق الماء لأنه بطبيعته أقل كثافة من الماء.

النتيجة وفقًا لهذه النظرة ضرورة منطقية تنبع من الطبيعة الداخلية للسبب، وقد ظل هذا التصور سائدًا حتى قوّضه الفيلسوف الإنجليزي «ديفيد هيوم» في القرن الثامن عشر. فقد أوضح هيوم أن تلك العلاقات السببية المُستقاة من التجارب والمشاهدات لا يمكن بحال أن تتصف بالضرورة طالما أنها تعتمد على الاستقراء، إذ لا توجد ضرورة عقلية تُحتِّم سقوط الأجسام إلى الأرض أو طفو الخشب على الماء، كل ما في الأمر أن هناك تتابعًا زمنيًا بين السبب والنتيجة متواتران في جميع المشاهدات، فكلما ألقينا جسمًا في الهواء سقط أرضًا، وكلما ألقينا قطعة خشب في الماء طفت.

إذن فعلاقة السببية لا تقوم إلا على التتابع الزمني بين السبب والنتيجة، تتابع ظاهري لا يمكن للتجربة التثبت من صدوره عن الطبيعة الداخلية للأشياء، ولا يمكن أن تفرضه الضرورة العقلية، إذ لا يوجد في المنطق العقلي البحت ما يمنع أن تلقي قطعة خشب في الماء ذات مرة فتغرق، أو أن تلقيها في الهواء فترتفع لأعلى. وليس قانون الجاذبية وقانون الطفو إلا تجريدات لوصف التتابع الزمني المتواتر في المشاهدات التجريبية.

السببية إذن لا تقوم إلا على التتابع الزمني بين السبب والنتيجة دون وجود ضرورة منطقية بينهما. وبناء على ذلك لا يمنع المنطق العلمي إمكانية وجود علاقة سببية بين الملابس البيضاء وهطول المطر، أو بين بول الإبل والشفاء من الأمراض. إذن ما الخطأ الذي وقع فيه المشعوذون في تلك المعتقدات؟

تشريح العقلية المشعوذة

الخطأ يكمن في عدم ضبط التجربة. فالتجربة العلمية تتطلب من الباحث اختبار كافة الفروض بحياد، وتكرار التجربة مع فصل العوامل الأخرى للتأكد من عدم ارتباط النتيجة بشيء خلاف السبب محل الاختبار. ويحدد المنهج العلمي شروط التجربة بتفصيل لا مجال لمناقشته هنا، وهذه الشروط هي ما يغيب عن تجربة المُشعوِّذ.

فالمُشعوِّذ يستنتج العلاقة السببية من حادثة فردية دون محاولة التثبت من صحة افتراضه، بل إنه حتى قد يتخلّى عن الاعتماد على مشاهدته ويكتفي برواية غامضة أو حكاية أسطورية دون إخضاعها للاختبار التجريبي، أو قد يعتمد على قياس مغلوط بين أشياء متباينة، كنسبة الإرادة والمشاعر إلى الجمادات قياسًا على الإنسان.

هل يرجع إذن القصور في التجربة إلى قصور في القدرات الذهنية للمشعوذ بحيث يعجز عن تمحيص التجربة كما يفعل الباحث في معمله؟

الإجابة، وبالأدق في الجزء الجوهري الغالب منها؛ لا.

لا شك أن السذاجة وخفة العقل لهما دور كبير في تسويغ الشعوذة والمعتقدات الخرافية وتدعيم انتشارها، لكن الأمر الجوهري، في نظرنا، يتعلق في الأساس بحاجة الإنسان إلى خداع نفسه. فحين يفلت زمام الأمور من يد الإنسان وتحيط به المخاطر، ويدرك عجزه أمام قوى الطبيعة، عندئذ يتملك الإنسان قلق عميق قاس لا يقوى على تحمله.

إنه القلق الوجودي الذي تحدث عنه كثيرًا فلاسفة الوجودية، وهذا الإحساس القاسي يدفعه إلى التخلص منه بأي طريقة كانت، حتى لو بخداع نفسه وإيهامها بأن الأمور لالا تزال تحت السيطرة بدلًا من مواجهة الأمر الواقع بشجاعة والتصرف على أساسه.

وهذا الأمر نجربه جميعًا؛ فكثيرًا ما يلجأ أشخاص ذوو مستويات تعليمية عالية إلى ممارسات خرافية إذا ما أعوّزهم العلاج من مرض أو عقم لم يكتشف له علاج. كذلك ينتشر بين العشاق الاهتمام بالأبراج والاعتقاد بتوقف صفات البشر عليها رغبة في الاطمئنان على مستقبل علاقاتهم الغرامية مع منْ يحبون والتأكد من عدم خيانته أو سوء معاملته في المستقبل، وهو ما يشكل الخوف الأكبر للعشاق. بل يظهر هذا الأمر في ممارسات أقل شأنًا؛ كالتفاؤل بشيء أو شخص معين والتشاؤم منه.

أكبر خرافات هذا العصر

إذن فالعقلية الخرافية المشعوذة ليست حكرًا على الشعوب البدائية، إذ هي متجذرة في صميم تفكيرنا. لكن الخرافة المعاصرة تختلف عن الخرافة البدائية في جانبين: الأول؛ الاختلاف النوعي، فخرافات العقل المتعلم أعقد وأخفى من خرافات العقل ذي القسط المتواضع من التعليم. وثانيًا؛ الاختلاف الكمي، فالشعوب البدائية تواجه مخاطر طبيعية أكثر، ومعارفها عن الظواهر الطبيعية أقل بكثير مما نتوفر عليه من معرفة علمية تمكننا من التنبؤ بسلوك الطبيعة، ومن ثَمَّ لم يكن أمامهم سوى ملء هذه الهوة الواسعة بالمعتقدات الخرافية. إذ كلما ازدادت المخاطر ازدادت الشعوذة والخرافات.

وهنا يثور السؤال؛ ألا يحيط بالإنسان في هذا العصر مخاطر جسيمة؟ ألا يشعر الإنسان بالعجز أمام تلك المخاطر؟ ألم تسقط أوهام الحداثة والتقدم فلم يعد الإنسان يعلق عليها أملًا، بل على العكس أصبح التقدم العلمي والتقني مصدر خطر في ذاته بما يجلبه من مخاطر نووية وبيئية؟ ألا يحتاج الإنسان المعاصر إلى الخرافة والشعوذة؟

تشكل النزعة الاستهلاكية، في نظرنا، أكبر خرافات هذا العصر. وقد تجد النزعة الاستهلاكية أساسًا عقليًا في فلسفة اللذة التي تحصر سعادة الإنسان في إشباع شهواته ولذاته الحسية. بالطبع تقوم الكثير من الاعتراضات في مواجهة الفلسفة الاستهلاكية، سواء اعتراضات فلسفية، أو نفسية، أو عملية، وهي على أي حال قابلة للمناقشة والتفنيد شأن أي فلسفة، غير أن الأمر لو توقف على خطأ فلسفي أو فساد في الاستدلال المنطقي لما كنا أمام خرافة أو شعوذة، فما يميز الشعوذة والخرافة عن المغالطات المنطقية هي الرغبة في خداع الذات، الخداع عن طريق الاستهلاك.

فالإنسان المعاصر لم يقرر الانغماس في الاستهلاك بعد تفكير عقلي استنتج منه حصول السعادة من الاستهلاك، فلو أنه فكر لما ثارت مشكلة. المشكلة أنه لم يفكر في ما يفعل، بل انغمس في الاستهلاك حتى يهرب من التفكير فيما يفعل وفيما هو قادم. فهو لا يريد الانتباه إلى المخاطر النووية والبيئية والاحتباس الحراري التي تهدد الحياة على الكوكب بالفناء.

هو لا يريد التفكير في مدى تهديد هذه الأخطار الكلية للمستقبل الجزئي الذي يكد ويتعب من أجل تأمينه لأبنائه، ربما من خلال خرافة لا واعية تفصل بين الكلي والجزئي؛ فطالما استطاع أن يؤمن الحاجات الاستهلاكية لأسرته في المستقبل القريب، فإن مستقبل الأسرة مضمون بغض النظر عن مستقبل المجتمع أو البشرية، وكأن الأخير يحدث في عالم منفصل.

إنه لا يريد التفكير في جدوى ساعات العمل الطويلة، وضجيج المدينة، وعدم ملاءمة راتبه مع ما مجهوده، فطالما أن ذلك يمكنه من دفع إيجار سكن مريح، وشراء سيارة عصرية، والتنزه في منتجعات راقية، وابتياع السلع التي يريدها، فإنه قد بلغ السعادة، أما إن لم يستطع توفير ذلك فعليه مضاعفة الانغماس في العمل حتى يصل إلى ذلك.

والحقيقة أن السعادة المتمثلة الإشباع الاستهلاكي أمر مستحيل، فالنفسية الاستهلاكية لا تشعر أبدًا بالرضى والاكتفاء، فمنْ يشترى سيارة يبحث عن سيارة أفخم، ومنْ يشترى فيلا يبحث عن قصر. غير أن الإنسان الحديث مضطر إلى اعتناق تلك الخرافة، إذ من دونها يكون كل سعيه الفردي، بل كل مسيرة الحضارة التقنية الحديثة هباء بلا قيمة.

فمنذ أن تخلّت تلك الحضارة عن القيم الروحية وانغمست في المادية، لم يعد أمامها قيمة إلا المادة، فإذا سقطت تلك القيمة، فقدت الحضارة كل قيمة وأضحت بلا جدوى، وهي صدمة لا يستطيع الإنسان تحملها. لذا التجأ الإنسان إلى شعوذته الكبرى؛ الاستهلاك. طالما في إمكاني استهلاك السلع التي أريد فأنا ناجح وسعيد، وكلما ازداد استهلاكي ازداد نجاحي وسعادتي. وهكذا أضحى الاستهلاك طقس شعوذة هستيري لجلب السعادة.

لكن السعادة والرضى لم يبلغه المجتمع بعد رغم تفانيه الكامل في الطقوس الشعوذية الاستهلاكية!

العنصرية كخرافة

هنا ظهرت الحاجة إلى اختراع خرافة نعزو إليها التعاسة التي نحياها، فظهرت العنصرية كأبرز الخرافات التي تسد تلك الفجوة. والممارسة العنصرية تمثل امتدادًا لممارسات النبذ والإبعاد التي تمارسها المجتمعات البدائية ضد المجذومين والساحرات، غير أن العنصرية لا تهدف إلى التخلص من الشؤم أو غضب الآلهة، وإنما تستعير لها أساسًا علميًا وعقلانيًا يلائم العصر.

فقد حاول كثير من البيولوجيين في القرن التاسع عشر إيجاد أساس تشريحي لتفوق العرق الأوروبي على باقي الأجناس، وأنتجوا سيلًا من الخرافات العلمية التي لم تصمد كثيرًا، لكن العنصريين وجدوا أخيرًا تبريرًا عقلانيًا لتلك الخرافة في ارتفاع معدل الجريمة في صفوف الأقليات والمهاجرين، متغافلين عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تكمن وراء ارتفاع معدل الجريمة، والتي كانت ممارسات العنصرية ذاتها سببًا فيها. هم لا يريدون الاعتراف بوجوب إحداث تغييرات جوهرية في المجتمع، فقط تكفي ممارسة طقوس إبعاد الدخلاء حتى يسود السلام والرخاء في المجتمع.

حديثنا حتى الآن ينطبق بالأساس على المجتمعات الغربية المتقدمة باعتبارها الممثل الرئيس للحضارة الحديثة، أمّا مجتمعاتنا العربية فهي مرتع لجميع أنواع الخرافات بدءً من العصور البدائية وحتى ما بعد الحداثة.

فما زالت ممارسات الشعوذة البدائية وأعمال السحر والدجل سائدة بقوة وتخصص قنوات فضائية لعرضها، كذلك تمارس الجماعات الدينية طقوس النبذ والإبعاد ضد غير المحجبات مثلًا باعتبارهن يجلبن غضب الله على المجتمع كله ويفسدن الشباب، فضلًا عمّا تضطلع به من أعمال إرهابية لتطهير المجتمع بالقوة.

وفي المقابل تسود الجماعات التنويرية طقوس شعوذة تتمثل في التشبه بالغرب في الشكليات ونمط الحياة الاستهلاكي باعتبارها وسيلة لبلوغ التقدم، كما يمارسون أيضًا ضد الجماعات الدينية الطقوس الإقصائية ذاتها التي تمارسها ضدهم.

وفي ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة، وانعدام كل أمل في التغيير بعد إجهاض الثورات العربية، فإن معدل الخرافات يتزايد يومًا بعد يوم، ولن يكون الأمر غريبًا إذا أصبحنا ذات يوم نمشي في الشوارع معلقين في رقابنا تمائم وأصدافًا وريش طيور!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.