مرَّ زهاء خمسين يومًا، ولا تزال النيران على مدِّ البصر في مصر العامرة، أو التي كانت عامرة. لا يكاد المراقب من بعيد يرى أثرًا لمساجدها ومدارسها وأسواقها ومتنزهاتها ومنازلها.. ولا يسمع بالطبع ذلك الضجيج الذي يطن الآذان ويطربها على البعد، لأمواج البشر الهادرة في ربوعها. اللهم إلا جامع ابن طولون الذي بقي منتصبًا وسط الخرائب المشتعلة، كاليتيم على مائدة اللئام.

لا تزال ألسنة اللهب تُعمِل أنيابها بشهوة سادية فيما تبقى من تراث 550 عامًا منذ الفتح الإسلامي لمصر. الفسطاط، العسكر، القطائع، تلك العواصم المتتالية للقطر المصري، والتي تمددت والتحمت عبر المكان والزمان، وشهدت تتابع الدول الإسلامية في تاريخ السيف والعمران، حتى انصهرت في الحاضرة العامرة: «مصر».

وكأنها بهذا الاسم قد اختصَّت نفسها حصريًا بالحضور دون مصر كلها. اللهم طبعًا إلا القاهرة المعزية ذات القرنين عمرًا. المدينة الملكية التي تضم قصور الخلفاء الفاطميين، ودواوين الحكم، ومنازل أصحاب الحظوة، وخاصة الخاصة، والتي احتضنها سورُها الضخم، وحاول أن يحجب عن ناظريْها ما يحدث لأختها الكبرى الممتدة على مرمى البصر خارج بواباته الصارمة.

ولكن هيهات، فشوارع القاهرة ومساجدها ومدارسها وقصورها الآن تكتظ بعشرات الآلاف من اللاجئين من سكان مصر المذهولين، والذين لم يكن لأغلبهم نصيب منها قبل ذاك بأكثر من قضاء المصالح نهارًا، ومشاهدة مواكب الخلفاء والوزراء واحتفالاتهم. هم الآن لا يريدون إلا من يوقظهم فورًا من هذا الكابوس المرعب المستمر منذ شهرين.

ما راعهم آنذاك إلا والأخبار تنهال كالصواعق عن اقتراب جيوش مملكة القدس الصليبية من مدينتهم، بعد أن دخلوا بلبيس، وذبحوا سكانها الذين منذ سنواتٍ تصدوا لهم مع عساكر ملك الشام العادل نور الدين. وكانت الصاعقة العظمى، والطامة الكبرى، أن نادى المنادي بأوامر وزير مصر الأخرق بإخلاء مصر، وحرق كل ما فيها، حتى لا يجد الصليبيون من خيراتها ما يتقوّون به على حصار القاهرة، واحتلال ما تبقى من مصر الكبرى.

كذبوا آذانهم، فلما بدأت النيران التي يشعلها الجند تلتهم حاضرهم وماضيهم، حاولوا تكذيب أعينهم. لم يستطِعْ أكثرهم نجاعة سوى أن ينجوَ بنفسه وأهله، وأقل القليل من حطام دنياهم، الذي أصبح حطبًا ونيرانًا الآن.


هو السيفُ لا يغنيكَ إلا جَلادُهُ*

النصف الثاني من القرن السادس الهجري.. الشرق الأوسط الإسلامي بدأ يتنفس الصعداء بعد 70 عامًا من غزو السرطان الصليبي للجسد الإسلامي المتهالك في صميم قلبه، منتزعًا بيت المقدس عام 1099م = 492 هـ بعد حمام دمٍ مأساوي، وساحل الشام كله، وأجزاءً من جنوب الأناضول.

نفذ الصليبيون في مادة الإسلام كنفاذ السهم في الريح، وإن ذرات الهواء لتقاوم أشد من خلافةٍ عباسية مهترئة لا تكاد تسيطر على عاصمتها بغداد، وسلطنةٍ سلجوقية استحالت عبئًا على بغداد وخليفتها، بعد أن تفانى بالسيف على كرسيِّها، ومغانمِها دون مغارمِها، الآباءُ والأبناءُ والأعمام الضعفاء، فاستقل بأشلاء سلطنتهم العظيمة عشرات الأمراء الأتراك وغيرهم، من ساقطي الكفاءة، وخائري الهمة، إلا في التقاتل فيما بينهم.

وقصيدة ما أشبه الليلة بالبارحة لتميم البرغوثي ترسم هذا المشهد المخزي بريشة فنان. لكن بدأ هذا المشهد القاتم في الزوال تدريجيًا بعدما فقد الصليبيون المبادرة، وحصرهم المسلمون سنواتٍ في أدوار رد الفعل، مُذ قام بالأمر في الشام أمراءٌ ذوو نخوةٍ وكفاءة، وجهوا عزائمهم لقتال العدو قبل خصومهم المسلمين.

برز من هؤلاء أمير حلب عماد الدين زنكي، الذي وإن تورَّط في حروبٍ أهلية كثيرة، فإنه صبَّ أكثر عزمه على الصليبيين، وكسر لهم أول ذراعٍ، عندما انتزع إمارة الرها منهم 539 هـ = 1144 هـ. وكان ابنه العادل نور الدين لهم بالمرصاد بعده. فصال وجال في الأراضي المحتلة، ونجح بالسياسة الحكيمة المتدرجة أن يوحد الشام الإسلامي تحت سلطانه، فتطلعت أبصارُه إلى مصر، ليطبق بالكماشة الإسلامية على مملكة بيت المقدس الصليبية، أقوى ممالكهم، وجائزتها الكبرى.


من يحرز الهدف الذهبي؟

لن تنعم القدس بالأمان إلا إذا استمر العداء بين القاهرة ودمشق
مؤرخ الحملات الصليبية وليم الصوري

عام 564 هـ = 1169م.النتيجة الآن هي التعادل الإيجابي 2-2 في مباراة نهائي كأس مصر المستمرة لسنوات، بين العادل نور الدين، و«أمالريك» ملك بيت المقدس الصليبي. ونحن الآن في جولةٍ فاصلة حاسمة، لا يسمح فيها بالتعادل. والخاسر سيخرج من بطولة الشرق مدحورًا.

في الجولة الأولى 559 هـ = 1164م، دفعت الأقدار مصر في طريق نور الدين دفعًا. فقد استنجد به وزيرها «شاور السعدي»، ضد الأمير ضرغام الذي غلبه بالسيف على الوزارة -قيل بتحريض من الخليفة الفاطمي العاضد – ورغم عدم ارتياح المجاهد نور الدين لشاور الذي ما استنصره إلا ليستعيد وزارة سبق أن أخذها بمؤامرات ودماء، وأساء فيها السيرة وظلم الرعية، فإن توحيد مصر والشام كان يستحق أن يقبض على جمر التحالف مع هذا الدعي.

رمى نور الدين مصرَ بأقوى أمرائه أسد الدين شيركوه الذي كثيرًا ما ألحَّ عليه بانتشال مصر من ضياعها بين مؤامرات وزرائها وخلفائها. نجح أسد الدين وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي في هزيمة ضرغام، وقتله.

لم يفِ شاور بالتزاماته للعادل نور الدين بمنحه ثلث خراج مصر، ومد الأواصر بين القاهرة ودمشق، وأساء معاملة قادته، وأبقاهم خارج أسوار القاهرة. وكانت الفاجعة، أن راسل ملك بيت المقدس الصليبي يستنصره ضدَّهم. وصلت الأخبار للعسكر الشامي، فتحصنوا في بلبيس – 60 كم شرق القاهرة- فحاصرهم فيها شاور والصليبيون شهورًا، استبسل فيها المدافعون، وعاونهم أهل مصر في بلبيس وجوارها بالإمدادات.

وللفكاك من حالة التجمد العسكري، تفاوض الملك الصليبي مع أسد الدين على خروج كلٍّ من الشاميين والصليبيين معًا من مصر، خاصة وقد وصلته أنباء موقعة حارم في الشام، والتي سحق فيها نور الدين جيشًا صليبيًا كبيرًا، وأسر 3 من كبار قادتهم.

في الجولة الثانية 562 هـ = 1167م، وتحت إلحاح أسد الدين، أرسله نور الدين إلى مصر لينتزعها من شاور. استنصر الأخير بالصليبيين، فجاءوا بجيوش جرارة. تحصّن الشاميون بالأسكندرية – فتح أهلُها أبوابَها لهم – بقيادة صلاح الدين. بينما أخذ «أسد الدين» يغير على العدو حتى شمال الصعيد، لكنه اضطر غير مرة إلى نهب بعض القرى للتزود بالمؤونة.

نفدت الأقوات في الأسكندرية بعد حصار شهور، فتصالح الطرفان على الخروج معًا من مصر، خاصة وقد ضغط نور الدين مجددًا على الصليبيين في الشام. لكن لم يخرج ملِكُهم من مصر إلا بعد أن أخذ من شاور أموالًا طائلة، وترك حامية صليبية صغيرة قرب القاهرة.

والآن الجولة الأخيرة بعد عامين. طمع الصليبيون في انتزاع مصر خالصةً لهم، ورفضوا كل عروض شاور بأخذ القسط الأكبر من خراجها، إذ طمأنتهم حاميتهم فيها على فساد أوضاعها وجيشها. تباطَأ نور الدين عمدًا، حتى يتحقق الخطر الصليبي، ويعرف شاور ومن معه أنه لا ملجأ منهم بعد الله إلا إليه. لم يخِبْ رهانُ نور الدين، فجاءته هذه المرة رسل العاضد يستنجدونه حاملين معهم ضفائر من شعور نساء بيت الخليفة، فأسمعوا سامعًا، وأقنعوا مقتنعًا.

لكن لن تكتمل الصورة إلا بعودةٍ سريعةٍ إلى الوراء قرنًا من الزمان.


مصر في الغيبوبة

مسجد الحاكم بأمر الله الفاطمي بشارع المعز الكائن بحي الجمالية ( نسبة إلى بدر الجمالي ) بالقاهرة

464 هـ = 1071م. القاهرة تلتقط أنفاسها مع وصول أمير عكا – كان مملوكًا أرمنيًا – بدر الدين الجمالي، الذي استدعاه الخليفة الفاطمي المستنصر ليتولى الوزارة، وينقذ ما بقي من مصر بعد 7 سنواتٍ من المجاعة الكبرى. الشدة المستنصرية، والتي أهلكت أكثر من نصف شعبها.

تزامن جفاف النيل مع الصراعات الجنونية بين الأمراء على المناصب، واحتكار الثروات، مستغلين ضعف المستنصر، والذي لم يكن بقوة آبائه وأجداده في السنوات المائة الأولى من دولتهم في مصر، والذين حكموا من القاهرة دولة عظمى تمتد من العراق ومكة إلى صقلية والمغرب، وساسوا رعيةً يخالف معظمهم مذهب الدولة الشيعي الإسماعيلي، بل يكفره أكثرهم.

قتل الجمالي الأمراء المتنافسين، وخفَّفَ الضرائب، وأعاد الاستقرار للدولة. تزامن هذا مع فيضان النيل، فانتهت أسباب المجاعة جميعًا. لكن فقدت الدولة سيطرتها على الحجاز، ومعظم الشام لخصومها السلاجقة الأتراك، سلاطين بغداد السنة.

استبد الجمالي بالسلطة لسنواتٍ، وترك للمستنصر الاسم دون الرسم، فدشَّن «عصر الوزراء»، ولكن لم يكن أغلب خلفائه بقوته. كثرت الصراعات على منصبي الوزارة والخلافة، فاضطربت الدولة، ولم تستطِع حماية بيت المقدس عندما غزاهُ الصليبيون. استمرت الكرة في الانحدار بسرعة مخيفة، واكتظ الأفق بسحب الاستبدال. والآن نعود بالزمن مجددًا إلى حيث كنّا، إلى حيث صلاح الدين وشاور والصليبيين.


جائزة شاور المستحقة

على مشارف القاهرة، علم الصليبيون أن جيش أسد الدين ينهب الأرض نهبًا ليكبسَهم، فخافوا أن يُحصَروا بين جيش الشام، والمدافعين بالقاهرة. ففروا مسرعين إلى فلسطين بالغنائم والأسرى. استقبل شاور أسدَ الدين استقبال الفاتحين، وأخذ يسوق الأعذار لسوابقه، وتظاهر الأخير بالعفو. قام العاضد بتكريم أسد الدين، وقلَّده الوزارة، وسمح بالدعاء لنور الدين معه على منابر الجمعة.

تلظَّت نفسُ شاور حقدًا، فدعا أسد الدين وقادة جيشه إلى وليمة عظمى أعدَّها على شرفهم. وصلتهم تسريبات أنه فخٌّ لتسميمهم أو قتلهم غيلة، فتباطَؤا في الحضور، حتى جاءهُم شاور يستعجلهم، فقبضوا عليه، وقتله صلاح الدين بنفسه، فمات غيرَ مأسوفٍ عليه لا من الرعية، ولا العاضد، ولا الشاميين، ولا حتى الصليبيين.بعد ذلك، جرت مياه كثيرة تحت النهر، وتتابعت فصول درامية، أصبحت بعدها مصر والشام دولةً واحدة تحت حكم صلاح الدين الأيوبي الذي حقق حُلم مولاه نور الدين، وحرَّر القدس 583هـ = 1187م بعد أكثر من 20 عامًا من وفاته.. ولكن لهذا أحاديث أُخَر.


* الشطر الأول من مطلع قصيدة شهيرة امتدح بها ابن القيسراني عمادَ الدين زنكي بعد فتحه الرها، ومنها البيت الشهير:

سَمَتْ قبةُ الإسلام فخرًا بطولِهِ ـــــ ولم يكُ يسمُ الدينُ لولا عمادُهُ

( تناول المسلسل التاريخي السوري صلاح الدين الأيوبي، لكاتبه المبدع د.وليد سيف، هذه الفترة بشكل رائع في الحلقات 13 إلى 18، وينصح الكاتب بمشاهدته).