إن وصولنا لحقبة ما بعد المضادات الحيوية، حيث يمكن للعدوى البكتيرية الشائعة والبسيطة أن تكون قاتلة، ليس بمجرد خيال مستقبلي، هو بالفعل واقع واحتمال قريب قد نعيشه في القرن العشرين.
منظمة الصحة العالمية

تقتل البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية أكثر من 50 ألف طفل في الهند سنويًا، وقرابة 40 ألف ضحية في جارتها الآسيوية تايلاند، بينما تشير تقارير «مراكز مكافحة الأمراض و اتقائها-CDC»، إلى أن ضحاياها في الولايات المتحدة يقارب 25 ألفًا، ويرتفع عدد الضحايا إلى قرابة ربع مليون في القارة الأوروبية، ورغم غياب بيانات دقيقة أو أكثر شمولًا عن انتشارها في القارة الأفريقية أو منطقة الشرق الأوسط، تشير عدة دراسات وتقارير إعلامية متفرقة، إلى أنها تحصد أرواح الآلاف بشكل مستمر. فالوضع أشبه بحالة حرب مع كائنات لا نراها بأعيننا، كلما أكثرنا في استخدام أسلحتنا، كشرت عن أنيابها وازدادت شراسة.

الإسراف في استخدام المضادات الحيوية، تلك الأدوية التي كانت تعتبر بمثابة السحر الذي يشفي من كل العلل، قد ساعد في ظهور بكتيريا خارقة لا تتأثر بمعظم الأدوية المعروفة، كما أن معدل اكتشاف المضادات الحيوية الجديدة قد انخفض لأقل درجاته، فمنذ قرابة منتصف ثمانينات القرن الماضي، لم يتم اكتشاف أي أجيال جديدة فعالة من أسلحتنا العلاجية إلا بعد فترة تقارب الـ 30 عامًا.

وعليه، ارتفع معدل ضحايا الجراثيم المقاومة إلى قرابة 700 ألف سنويًا، ومن المقدر أنه بحلول عام 2080، ستزداد الأعداد إلى عشرة ملايين شخص سنويًا في جميع أنحاء العالم، وهو أكثر ممن يموتون حاليًا بسبب السرطان، لتصبح الأزمة الصحية الأكبر والأخطر على الإطلاق.

على كلٍ، فإن العديد من الباحثين من مختلف أنحاء العالم، يعكفون في معاملهم بهدف تطوير علاجات جديدة، قد تكون أكثر مرونة وفعالية من سابقتها. فدعونا نبدأ جولتنا بالتعرف على ترسانة الأسلحة التي يأمل الباحثون في أنها قد تشكل الفارق، في حربنا ضد الميكروبات المتطورة.


أسلحة جديدة

في مواجهة يفوز فيها الأقوى والأكثر تطوراً، لا شك أن استبدال المضادات الحيوية التقليدية بأخرى أكثر فعالية يمثل حاجة ضاغطة وحلاً بديهياً، وإن كان مؤقتاً، في سبيل حل أزمة البكتيريا المقاومة المتطورة.

من بين الجهود المبذولة في تصنيع أدوية جديدة، أطلق «ماثيو ابتون»، معاون رئيس العلوم الطبية الحيوية بـ«جامعة بليموث»، بالتعاون مع آخرين، شركة جديدة تدعى «امبرولوجيكس Amprologix» لتضمن تطوير وتسويق أنواع جديدة من المضادات الحيوية.

من المتوقع أن يكون المنتج الأول للشركة هو كريم يحتوي على مادة الإيبديرميسين Epidermicin، وهو أحد المضادات الحيوية الجديدة التي يجري تطويرها لمكافحة العدوى التي تسببها البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية بما في ذلك سلالات «ميرسا MRSA» البكتيرية الشرسة، وغيرها من الأنواع المقاومة الأخرى، إذ يعتقد بفعاليته عند تركيزات منخفضة للغاية.

لكن بدلًا من صفع البكتيريا مرة واحدة، ماذا عن صفعها عدة مرات! تشير دراسة حديثة إلى أن حشد قوة مضاد حيوي مع مضاد حيوي آخر، أو حتى مع أدوية أخرى غير المضادات الحيوية قد يعزز من فاعلية العلاج، وذلك بعد أن قام العلماء باختبار 3000 تركيبة مختلفة على ثلاثة أنواع من الميكروبات تشمل تلك متعددة المقاومة، لينجح 500 منها في تحسين نتائج العلاج.

على سبيل المثال، فإن إضافة مركب الفانيلين -الذي يعطي الفانيليا طعمها المميز- إلى مضاد «الستريبتوميسين» الحيوي، حَوَّله من دواءٍ عديم الفائدة بسبب المقاومة إلى علاج مُحتَمل للعديد من الميكروبات، وفقًا للنتائج المنشورة في نيتشر، يوليو 2018.

على الصعيد الآخر، في أغسطس من هذا العام، حصل باحثان من جامعة هيوستون على منحة تقدر بمبلغ 3.5 مليون دولار لمدة خمس سنوات من قِبل المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية،وذلك لتطوير جهاز تشخيصي فائق السرعة، يمكنه فحص عينات بكتيرية مختلفة لتحديد أي مزيج من العلاجات هو الأنجح لعلاج مريض بعينه في خلال ساعات.


مضادات التطور

دواء, صحة, طب

لكن بدلاً من السعي وراء إنتاج مضادات حيوية جديدة ستجد البكتيريا الطريقة لمواجهتها بأي حال من الأحوال، ماذا عن استئصال قوة البكتيريا من جذورها وانتزاع قدرتها على التطور ومقاومة المضادات الحيوية في الأساس!

هذا تماماً ما فكر فيه فريق من باحثي الأحياء الدقيقة والجينات من جامعة واشنطن، بعد التعرف على بروتين يعرف باسم Mfd، والذي يمثل وجوده ضرورة لتطور آليات مقاومة سريعة ضد المضادات الحيوية في مختلف سلالات البكتيريا، كما ذكر في الدراسة المنشورة هذا الشهر في دورية Molecular Cell.

فهذا البروتين أو ما يطلق عليه «عامل التطور» يزيد من معدل حدوث الطفرات – أي تغييرات في المعلومات الجينية داخل الخلية ــ وهي المحرك وراء تطور البكتيريا لأشكال أكثر شراسة.

فعندما تم حذف الشفرة الجينية المسئولة عن تكون Mfd في بكتيريا خطيرة مثل البكتيريا المسببة للسل، قل معدل الطفرات مرتين أو ثلاثة تقريبًا وذلك في مواجهة ثلاثة أنواع مختلفة من المضادات الحيوية. وعليه تقترح نتائج البحث أنه إن استطعنا خلق أدوية تستهدف هذا البروتين أو غيره من «عوامل التطور» يمكننا أن نحد من حدوث الطفرات الجينية أو نكبح جماح التطور.

وفقاً للدراسة، إن تم إعطاء هذه الأدوية «مضادات التطور» جنبًا إلى جنب مع المضادات الحيوية إلى المرضى أثناء العلاج، قد يقلل هذا من احتمالية حدوث المقاومة في بداية العلاج، بل قد يعطي فرصة أفضل لجهاز المناعة في التغلب على العدوى.

وبناء على المبدأ نفسه، يسعى الباحثون من جامعة كولورادو إلى تطوير استراتيجية مختلفة تدعى CHAOS اختصارا للـ«تحكّم في إعاقة تكيف الكائنات»؛ وكما يقترح الاختصار فإن هذه الاستراتيجية تسعى لخلق الفوضى داخل الخلية البكتيرية وإحباط قدرتها على تطوير أسلحتها الدفاعية.

تعتمد هذه الطريقة على استخدام أداة التعديل الجيني «كريسبر-كاسCRISPR-Cas9»، لتعبث في ترجمة الشفرة الجينية للبكتيريا في مواضع مختلفة، كَرةً تُنَشِّطها وكَرةَ تُثَّبِطها، وهو ما يضع البكتيريا تحت ضغطٍ مستمر، تاركاً إياها ضعيفة ومعرضة لتأثير الأدوية.

يقول دكتور بيتر أوتوبال، المؤلف الرئيسي للدراسة: «لقد رأينا أنه عندما قمنا بتعديل العديد من تعبيرات الجينات في نفس الوقت – حتى تلك الجينات التي تساعد البكتيريا في البقاء على قيد الحياة – انخفضت لياقة البكتيريا بشكل كبير»، وذلك بعد تطبيق التقنية على بكتيريا الإيشريكية القولونية E.coli متعددة المقاومَة والتي تختبئ في أنواع مختلفة من الأطعمة.

«في الماضي، لم يخطر ببال أحد أنه قد يكون من الممكن لنا إبطاء التطور». «لكن مثل أي شيء آخر، التطور يقوم على قواعد محددة، وقد بدأنا نتعلم كيف نستخدمها لصالحنا»، كما يقول دكتور أوتوبال.


كريسبر

المثير للسخرية هو أن أداة كريسبر-كاس هي في الأصل جزء من الجهاز المناعي للبكتيريا المصمم كي يحميها من غزو الفيروسات أو أي حمض نووي غريب، حيث تحتفظ البكتيريا بقطع من جينوم الفيروسات الدخيلة، في موقع معروف باسم كريسبر على الجينوم البكتيري كي يتم تصنيفها على أنها جينومات عدو، ومن ثم بمجرد دخول حمض نووي يحمل نفس التسلسل الجيني إلى الخلية، يقوم بروتين كاس بالتعرف عليها وتدميرها على الفور.

يأمل العلماء الآن، بعد انتشار «كرسيبر» كأداة تعديل جيني دقيقة، أن يتم استخدامها لمواجهة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. ففي عام 2012، نشرت دراسة في صحيفة Cell Host & Microbe، تفيد بأنه من الممكن لكريسبر أن يقلل من شراسة ميكروب العقدية الرئوية الذي يسبب الالتهاب الرئوي. يقوم هذا الميكروب بتغيير الكبسولة المحيطة به عندما تتم مهاجمته؛ إذ يقوم باكتساب الجينات الخاصة ببناء الكبسولة الجديدة من سلالات أخرى مقاومة، كي لا يستطيع جهاز المناعة التعرف عليه وإبادته. في حين أنه عندما تمت إضافة جينات كريسبر فقدت البكتيريا قدرتها على تكوين الكبسولة وأصبحت عاجزة عن التسبب في عدوى لفئران التجارب، وهو ما يقترح قدرة كريسبر على إعاقة انتقال جينات المقاومة.

ومنذ ذلك الحين، تهدف الدراسات إلى اختبار فعالية كريسبر كمضاد للميكروبات، خاصةً وأنه يتميز بقدرته الانتقائية على استهداف سلالات البكتيريا التي تحمل جينات المقاومة عن بقيتها وبالتالي تحويل عشيرة البكتيريا من فتاكة إلى حساسة، بل وقتلها مباشرة في بعض الأحيان.

وعلى الرغم من وجود الكثير من التحديات في طريق كريسبر كي يتوج بطلًا في مواجهة الميكروبات مثل: كيفية حمله وإيصاله إلى البكتيريا المستهدفة، مدى فعاليته على أرض الواقع في بيئة يقطن بها آلاف الأنواع من الميكروبات، واحتمالية تطور مقاومة ضده نسبياً، يضاف إلى ذلك صلاحيه تسويقه بما أنه ينتمي لتكنولوجيا العلاج بالجينات التي تحتاج إلى تشريعات وضوابط خاصة بتطبيقها، لا شك أن الأبحاث المستقبلية ستساعدنا في الإجابة على هذه الأسئلة لفهم وتحسين هذه التكنولوجيا إلى الأوقع والأفضل.


أعداء البكتيريا

رسم يوضح كيف تدمر عاثيات البكتيريا الخلية البكتيرية

بسلوك مشابه لما قد تفعله حينما تجد فأرًا في منزلك فتحضر له قطاً ليأكله، فكر العلماء في تسخير الأعداء الطبيعيين للبكتيريا في قتلها، ألا وهي الفيروسات. تلك الكائنات الصغيرة المعروفة بــ«العاثيات أو آكلات البكتيريا Bacteriophage» هي فيروسات تصيب البكتيريا بالأخص، تقوم بتعطيل عملية الأيض البكتيري وتتكاثر بداخل الخلية إلى أن تتسبب في انفجارها وتحللها، ومن هنا ظهرت إمكانية استخدامها كعلاج للعدوى للبكتيرية، كما أنها تتميز باقتصار تأثيرها على سلالة بعينها من البكتيريا مما يقلل من أعراضها الجانبية ويحد تأثيرها على البكتيريا المفيدة التي تعيش بأجسام الكائنات الحية.

على مدار السنوات، وحتى من قبل اكتشاف البنسيلين، أثبتت التجارب على الحيوانات والبشر فاعلية العاثيات ضد العديد من مسببات الأمراض الخبيثة مثل العنقوديات الذهبيّة التي تسبب العدوى الجلدية، الزائفة الزنجارية التى تسبب العديد من عدوى المستشفيات، البكتيريا المسببة لحمى التيفوئيد والدوسنتريا، وغيرها.

إلا أنه في ظل ازدهار العلاج بالمضادات الحيوية المعتادة، لم تحظى هذه المدمرات الصغيرة بالكثير من الاهتمام كوسيلة علاجية، حيث اقتصر استخدامها على العلاج السريري في أوروبا الشرقية وبلدان الاتحاد السوفيتي.

ومع تفشي أزمة مقاومة المضادات الحيوية، بدأت الأنظار تتجه مجددًا للعلاج بالفيروسات، إذ أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية مركز «التطبيقات والمعالجات المبتكرة بالعاثيات IPATH» في جامعة كاليفورنيا سان دييجو هذا العام. الهدف الرئيسي للمركز هو التوسع في مجال العلاج بالعاثيات عن طريق إجراء التجارب السريرية على المرضى المصابين بعدوى مقاومة للأدوية المتعددة، على أمل الحصول على موافقة منظمة الغذاء والصحة العالمية في تداول هذه الأدوية.

وعليه وبجانب جهود الباحثين، فإن المساهمة الجمعية لكل منا من خلال تقليل استهلاك المضادات الحيوية إلا في الحالات الضرورية، وإكمال جدول المضادات الحيوية المحدد لك من قبل الطبيب حتى بعد اختفاء أعراض المرض، والحفاظ على عادات صحية دائمة، قد يسهم في إنقاذنا من أزمة صحية مُرَّوِعة تهدد العالم بأكمله.