العمل في الشركات التقنية العملاقة مثل ألفابت (جوجل) وفيسبوك وسناب شات وغيرهم حلم يداعب الكثيرين، يسعون إليه جاهدين، يطورون من مهاراتهم العملية والشخصية ويخلصون في التعلم واكتساب الخبرات عسى أن تأتيهم الفرصة ذات مرة، فرصة العمر كما يقولون.

عندما نتحدث عن بيئة العمل في تلك الشركات يتبادر إلى أذهاننا البيئة المحفزة المليئة بالشباب المفعم بالطاقة، والأرضيات البراقة المتناثر عليها المكاتب الفردية والجماعية والـ Beanbags، والجدران المزدانة بأفخم وأحدث الديكورات والملصقات ذات المقولات التحفيزية متناثرة عليها هنا وهناك صوب ناظري العاملين بها.

هذا بالإضافة إلى وسائل الترفيه الجذابة من تنقلات بين المباني بالدراجات الهوائية المجانية، وطاولات البلياردو وتنس الطاولة للعب والاستمتاع في أوقات الراحة.

ولكن يبدو أن الوضع ليس دائمًا بتلك الصورة الوردية، بل ربما هو أسوأ مما يمكن أن يتصور أي حالم بالعمل معهم على الإطلاق! وهذا ما تناوله تحقيق مخيف قام به صحفي وادي السيليكون (كيسي نيوتن) في موقع TheVerge الشهير.


كوجنيزنت: وجه فيسبوك الخفي

في إحدى ضواحي مدينة تامبا بولاية فلوريدا تقع مؤسسة (كوجنيزنت)؛ تلك المؤسسة التي قامت قبيل بدء عملها رسميًا بنشر إعلان في كل مكان عن حاجتها إلى مُحللي شبكات اجتماعية «Social Media Analysts».

وعندما جاء المتقدمون في موعد مقابلة العمل قيل لكثير منهم إن مهمتهم الأساسية ستكون تحليل تفاعل الجمهور على صفحة المؤسسة على فيسبوك، وقد يتعين عليهم «أحيانًا» القيام بالإشراف على المحتوى. فهل هذا فعلًا ما قاموا به لاحقًا؟

لم يعرف هؤلاء أنهم سيعملون لدى شركة أخرى عن طريق العمل في كوجنيزنت، وهناك فئة أخرى كانت على علم بذلك، ولكن جل ما يعرفونه هو أنها شركة تواصل اجتماعي ضخمة، غير عالمين بأن هذه الشركة هي (فيسبوك) نفسه!

فهل تعلم ماذا كان المطلوب من هؤلاء الأشخاص في فيسبوك؟ كانت مهمتهم الوحيدة طوال فترة العمل هي تقرير ما إذا كان المحتوى المنشور على فيسبوك مخالف لسياساتها ويتوجب حذفه أم لا، وهذا المحتوى يكون عادة ما بين مقاطع الفيديو التي تحتوي على العنف أو محتوى جنسي للكبار أو حتى الأطفال، والتعليقات المتضمنة نوعًا من أنواع الكراهية أو العنصرية أو التحرش… إلخ.

إن كوجنيزنت هي إحدى المؤسسات التي استطاعت الحصول على عقد لمدة عامين مع فيسبوك بقيمة 200 مليون دولار للقيام بمهمة تنقية محتوى الموقع والبت في صلاحيته ليتناسب مع قوانين وشروط الاستخدام، ولو استطاعت القيام بذلك على أكمل وجه سيتجدد عقدها لمدد أخرى.

ومن الطبيعي أن يكون هناك أشخاص يقومون بهذا العمل، ولكن ما ليس طبيعيًا هو تضليلهم وإيهامهم بمهام مغايرة ثم مفاجأتهم بهذا العمل بدون استعداد أو تأهيل نفسي، فلربما رفضوه لو عرفوا حقيقته من البداية.

أما لماذا قبلوا رغم كل شيء؛ فلأن اختيار كوجنيزنت للموظفين جاء بخبث، إذ اختاروا المتقدمين ذوي الخبرات القليلة أو المعدومة، الذين أقصى ما يمكن أن يطمحوا إليه هو العمل ككاشير في أحد المحال التجارية أو كول سنتر، خاصة في بلدتهم الصغيرة، لذلك عندما تبين لهم في النهاية أنهم سيعملون في «فيسبوك» سيكون هذا أكبر من أقصى أحلامهم!

كما أن الموظفين رأوا الجانب الأخلاقي والرسالة السامية من الأمر، فسيكون على عاتقهم مهمة جعل المنصة أفضل وأكثر أمانًا لـ 2.38 مليار مستخدم نشط، ولم يكونوا على دراية بما يمكن أن يتسبب به الأمر لهم من الناحية النفسية والضغط العصبي.


ضغط إداري

تقدر درجة النجاح في فيسبوك للمؤسسات المتعاقدة معها لإدارة المحتوى 98%، و98% هي درجة الدقة المطلوبة من الموظفين في كوجنيزنت لكي يستمر العقد ويتجدد وإلا سيخسرون كل شيء. الرقم 98% هو الرقم الكابوسي الجاثم على أنفاسهم ولم يصلوا إليه قط.

لماذا الأمر ليس بتلك السهولة؟ لأن مراقب المحتوى يجب عليه أخذ القرار بحذف المنشور أو الإبقاء عليه لو ارتأى أنه لا يخالف سياسة فيسبوك، تلك السياسة التي تتغير يوميًا تقريبًا! فيجب عليه الاطلاع الدائم على تلك السياسات والقوانين وتغيير قراراته يوميًا حسب التجديدات الواردة بها، فيسمح بوجود منشور اليوم كان ليحذفه أمس والعكس، حتى لا يتم اتهام فيسبوك بوضع قيود على حرية التعبير وممارسة الديكتاتورية.

وهناك بواقع الحال ضغط هائل من أعضاء الإدارة على الموظفين حتى تصل دقة العمل إلى الـ 98% المطلوبة، فهو أمر لا مزاح فيه، عقد بهذا المبلغ فرصة لن تتكرر! فليس من المسموح للموظف الالتفات إلى زميله أثناء العمل أو تجاذب أطراف الحديث بين الحين والآخر، بل إنهم لو وجدوا الموظف يدخل الحمام عدة مرات خلال اليوم يرسلون إليه رسالة بريد إلكتروني تحثه على الحد من هذا الفعل الشنيع والانتباه أكثر في العمل!

هناك 30 دقيقة استراحة غداء، واستراحتان أخريان كل منهما لمدة 15 دقيقة، و 9 دقائق للتعافي والحديث مع أخصائي نفسي لو شعر الموظف بالضغط؛ هذا هو كل ما يحصل عليه الموظف من استراحات في يومه الطويل، الذي مهما طال لا يحصل مقابله على زيادات مستحقة وعدتهم المؤسسة بها.

كل ما يملك الموظف ليُخرج كل ما في جعبته من مشاعر سلبية واكتئاب وانزعاج هي 9 دقائق؛ للشكوى والفضفضة والبكاء، لتلقي النصيحة والتعاطف والتفهم، فهل حقًا تكفي؟


جحيم «نفسي» على الأرض

تحذير: الفقرة التالية تحتوي على وصف أعمال عنف.

تخيل أن تقضي ساعات عملك كلها في مشاهدة ممارسات عنف ضد أبرياء، ذبح عصابة لفتاة تمردت عليهم، تعذيب فأر وقطع جهازه التناسلي بالمقص وهو يطلق صيحات الألم، مربية تستغل عدم وجود والدي الرضيع في المنزل لتوسعه ضربًا وركلًا وخنقًا، مجموعة من الشباب يقبضون على ذيل سحلية إيجوانا ويبدأون بتهشيم رأسها على قارعة الطريق وهي تصرخ مستنجدة بلا أحد حتى تفارق الحياة وسط بحيرة من الدماء وضحكات استمتاع وحشية، مدرس ينهال على تلاميذ صغار بالضرب المبرح بالعصا على أجسادهم الرقيقة غير مستجيب لتوسلاتهم ودموعهم، وغيرها من المشاهدات التي نراها نحن من الحين إلى الآخر ونتألم بسببها.

لكن هؤلاء الموظفين يتعاطون جرعات مكثفة يومية من هذه البشاعة، لساعات وساعات يضطرون لمشاهدة ما بين 15 إلى 30 ثانية من كل فيديو حتى يقرروا بسماح وجوده أو حذفه. إنهم يرون أسوأ ما في البشر فقط، الأفاعيل الدنيئة والخسيسة والشريرة، الدموية والقاسية.

ولو قرروا حذف مقطع يجدون من يرفعه مرة أخرى، وتظل لعبة القط والفأر هذه التي يرون بسببها نفس المقطع مرارًا وتكرارًا حتى ينجحوا في التخلص منه نهائيًا.

كل هذا يترك أثره العميق على نفسياتهم، يؤرق مضاجعهم، ويملأ ساعات نومهم القليلة بالكوابيس المريعة، تنهمر دموعهم وتخفق قلوبهم وهم يرون هؤلاء المجرمين حول العالم لا يتلقون أي عقاب إلا فيما ندر.

فكيف لا تختار كوجنيزنت من هم مؤهلون لهذا الضغط النفسي الفائق؟ كيف ترتكب هذه الفعلة في حق موظفين بسطاء لم يدركوا ما هم مقبلون عليه بالضبط؟ وهل اقتصر الضغط على طبيعة العمل فقط؟ للأسف لا، فإن بيئة العمل نفسها مزرية بكل المقاييس.

800 موظف ليس لديهم سوى حمام واحد للاستعمال، حمام يتناثر فيه الغائط وتشوبه الروائح الكريهة، والمكاتب قذرة لدرجة أن يجد عليها الموظفون شعر عانة! هذا بالإضافة للأفعال الجنسية الفاحشة وتحرش المدراء بالموظفات، ومهما علا صوتهم بالاستغاثة فلا حياة لمن تنادي.

ونتيجة كل هذا أصيب أحد الموظفين بأزمة قلبية داخل الشركة ومات على إثرها، واستقال عدد منهم لينجو من هذا الجحيم حتى وإن لم يجدوا سنتًا واحدًا من أي عمل آخر، وذهب بعضهم إلى أطباء نفسيين حقيقيين ليستطيعوا التعافي من أثر صدمة هول ما كانوا يشاهدون على مدار أشهر عملهم.


أين فيسبوك؟

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: أين فيسبوك من كل هذا؟

حسب قول الموظفين فإن إدارة فيسبوك تقوم بزيارات كل حين وآخر للتأكد من سير العمل على ما يرام. هذه الزيارات يسبقها تجهيزات وحملات تنظيف لكي يبدو كل شيء لامعًا براقًا وأن ظروف العمل أكثر من ممتازة. فإذا غاب القط؟ عاد كل شيء لسابق عهده وكأن شيئًا لم يكن.

لكن إدارة فيسبوك على علم بما يحدث وبالشكاوى المتعددة والضغط المستمر على الموظفين، وقامت في آخر اجتماع مع المؤسسات المتعاقدة معها بإخبارهم بنيتها رفع أجر الموظفين وإلغاء نظام الـ 98% والاهتمام أكثر بصحة الموظف نفسيًا وجسديًا، وأيضًا الإكثار من الزيارات المفاجئة لمواقع العمل.

كل هذا جميل، لكن متى سيطبق؟ الإجابة هي ليس قبل منتصف عام 2020 لأن «الأمر ليس بتلك السهولة». إذن فلقد تحول فيسبوك إلى ما يشبه المصالح الحكومية لدينا التي تنخر البيروقراطية عظامها، فلا يستطيع إصدار أمر فوري بتحسين وضع الموظفين، بل إن زياراته المفاجئة هي تكرار لما يحدث في أي مصلحة حكومية حرفيًا عندما يزورها أي من المسؤولين.

وفي النهاية ليس كل طريق إلى شركة تقنية عملاقة هو بالضرورة فرصة مفروشة بالورود يجب اقتناصها، بل يجب التأني والتأكد من بيئة العمل وطبيعته قبل اتخاذ تلك الخطوة، قبل أن يتحول الحلم إلى كابوس.

لمزيد من التفاصيل والحقائق المؤلمة والحوارات مع الموظفين وإدارة مؤسسة كوجنيزنت وفيسبوك، تفضل بزيارة التقرير الأصلي على موقع TheVerge بعنوان Bodies in Seats.