العالم في تغيّر مستمر، يمكننا إدراك ذلك بقراءة التاريخ، وهو درس مهم نحتاج إلى تعلمه، فلا شيء يبقى على حاله، كل شيء يتغيّر باستمرار. تارة تجد الغرب في ازدهار، وتارةً ينتزع الشرق عصا القيادة. يرجع ذلك إلى عوامل متعددة، منها رغبة الطرف المنتكس في استرداد مكانته، فيعمل جاهدًا لتحقيق ذلك. وفي الناحية الأخرى، نرى الخمول وهو يغشى المتقدم، فيفقده الريادة ويسلبه النجاح.

بالنظر إلى وضع مصر الحالي نجدنا في تشوق إلى الصعود مرة أخرى، لكن ذلك يشترط منا إدراكًا صحيحًا للعناصر التي نحتاج إليها لتحقيق ذلك. من هنا تنبع أهمية كتاب «البعث من جديد: رؤية استراتيجية للدولة المصرية والدول الإقليمية الكبرى» الجزء الأول، للمفكر والمهندس خالد فرّاج. إذ أودع فيه جوابًا للسؤال الرئيسي: كيف يمكن لمصر أن تبعث من جديد؟


البعث من جديد

إن كتابنا هذا سيتناول ما يمكن أن نطلق عليه بعثًا جديدًا للدولة المصرية، يعيد إليها مجدها السابق ومكانتها الرائدة الطبيعية بالمنطقة والعالم، ويرسم أبعادًا لهذا البعث وأهدافه العليا واستراتيجياته وسياساته وبرامجه ومبادراته.[1]

مؤلف الكتاب هو المهندس خالد فرّاج، من مواليد القاهرة عام 1968، حاصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة القاهرة عام 1992. إلى جانب ماجستير إدارة الأعمال الدولية من جامعة إسلسكا الفرنسية عام 2004، ودبلوم التحليل المالي والإدارة المالية من الجامعة الأوروبية بالقاهرة، ودبلوم إدارة الموارد البشرية من جامعة عين شمس.

عمل فراج مديرًا إقليميًا للعديد من الشركات، داخل مصر وخارجها. وهو باحث وكاتب في شئون السياسة الدولية والاقتصاد والتخطيط الاستراتيجي وقضايا الأمن القومي.

تعكس التفاصيل المذكورة مدى ثقافة الكاتب، وأن هذا الكتاب، في جزئه الأول، يعد عصارة تجربته في العمل السياسي.

يبدأ الكتاب بالحديث عن توسط مصر لمنطقة الشرق الأوسط، ثم يتطرق إلى أهمية المنطقة ككل من الناحية الاقتصادية والسياسية والجغرافية والتاريخية، وقد لخص هذه الأهمية في النقاط التالية:

1. توسطها قارات العالم، وتحكمها في أهم طرق المواصلات البحرية والبرية والجوية.

2. احتواؤها على أهم وأكبر آبار النفط والغاز المنتجة في العالم.

3. أحد المحركات الرئيسية للاقتصاد العالمي، نظرًا للكتلة السكانية الضخمة، والثروات المالية والطبيعية الكبيرة.

4. مهد الأديان السماوية الثلاثة، كما أنها منشأ للعديد من الحضارات القديمة.

5. احتواؤها على أكثر من مائة وعشرة مواقع تراثية عالمية نادرة.

سرد الكاتب هذه الامتيازات للتأكيد أن فهمنا لوضع مصر الحالي يعتمد على إدراكنا لكل ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك فهمنا لـ«عناصر القوة الشاملة»، وهو ما قد يحقق لمصر البعث من جديد حقًا.


عناصر القوة الشاملة

بالقراءة المتأنية والعميقة لما كتبه كل هؤلاء، وما كتبه قديمًا ابن خلدون منذ أكثر من 600 عام، وبعد أن درسنا العيوب التي أُخذت على كتابات السابقين ونظرياتهم، يمكن أن نرصد أن النماذج السابقة كانت قاصرة وغير مكتملة الأركان، ولم تراعِ أهم مكونات القوة الشاملة للدول.[2]

غالب الظن أنك قد قرأت مصطلح «عناصر القوة الشاملة» من قبل. وفي هذا الكتاب يقدم لنا المهندس خالد أسماء العديد من العلماء الذين تحدثوا عنه. مثل «كلاوس كنور» مؤلف كتاب «القدرات الحربية للدول»، و«أرلوند توينبي» أهم مؤرخي القرن العشرين والباحث في صراع الحضارات، و«مالك بن نبي» المفكر الجزائري. هذا إلى جانب من حاولوا الربط بين مفهوم عناصر القوة الشاملة وعالم الرياضيات، مثل: ميكافيلي، أفلاطون، أرسطو.

رغم ذلك، لم يقدم أي منهم أطروحة تستوعب جميع عناصر القوة. من هنا تأتي أهمية ما قدمه الكاتب في نموذجه الخاص بـعناصر القوة الشاملة، الذي أطلق عليه اسم «Farrag Model»، محاولًا استيعاب جميع العناصر الممكنة.

1. السكان (القوة البشرية): عدد السكان، القوى العاملة، نسب الأمية والفقر والبطالة، عدد العلماء والباحثين والمهندسين والأطباء، القيم السائدة.

2. الموارد الاقتصادية (القوة الاقتصادية): إجمالي الناتج القومي، الموارد الأولية، الطاقة ومصادر المياه، الاحتياطات من ذهب وعملات أجنبية، معدلات الادخار المحلية، التدفقات الاستثمارية الخارجية، الكفاءة الصناعية وحداثتها، كفاءة البنية التحتية وحداثتها، الاكتفاء الذاتي من السلع والخامات الاستراتيجية، إجمالي الدين العام المحلي والأجنبي.

3. القوة الجيوستراتيجية: المساحة والموقع، الاتساع والعمق، المناخ، الموانع الطبيعية.

4. القوة العسكرية: عدد القوات النظامية والاحتياطية، التسليح، الاستخبارات، الاكتفاء الذاتي من الأسلحة والذخائر، القدرات الاستراتيجية (نووية، بيوكيماوية، صواريخ باليستية، منظومات فضائية، قدرات إلكترونية).

5. القوة السياسية: الهيكل التنظيمي للدولة، علاقة مؤسسات الدولة وسلطاتها وتوازناتها واستقلال السلطة القضائية، كفاءة الأحزاب وقوتها المادية والمعنوية ومستوى تمثيلها للإرادة الوطنية، الثقافة السياسية والمشاركة في الحياة السياسية، وغيرها.

6. القوة الاجتماعية: الأمن الداخلي، نظام توزيع الموارد، تقاسم الأعباء بين قطاعات المجتمع، الرعاية الصحية، المؤسسات التعليمية، التأمينات الاجتماعية، الأمن البيئي، وضع الأقليات الدينية والعرقية، الأعراف والقيم السائدة، شيوع الانتماء، الشعور بالمواطنة، احترام الحريات، رعاية الإبداع والمبدعين والعلماء.

7. القوة الثقافية: نمط وأسلوب الحياة، اللغات، الديانات، الإبداع الفني والثقافي.

8. القوة المعنوية (القوة الناعمة): القدرة الدبلوماسية، كفاءة العلاقات الدولية والإقليمية، القدرة الإعلامية ومساحة تأثيرها، وضوح الأهداف القومية والاستراتيجية، توحد الإرادة الوطنية نحو الأهداف القومية العليا.

بالنظر إلى هذا النموذج المقدم في الكتاب، يمكن القول بأن من واجب صناع القرار الالتفات دائمًا إلى كل هذه الجوانب، والعمل على الاهتمام بها جميعًا حتى لا يختل أي من مكونات النموذج، مما سينعكس على وضع الدولة ومكانتها بين سائر الدول.


المقارنة ومعيار اختيار الدول

يوضح خالد فراج أن تقييم عناصر القوة الشاملة لمصر فقط لا يكفي، بل يتوجب تقييم وضع الدول الكبرى في المنطقة، محددًا أهمها في منطقة الشرق الأوسط، وهي: إيران، تركيا، السعودية، الإمارات، قطر، العراق، سوريا، إسرائيل، مصر، الجزائر. ثم يقرر التركيز في الكتاب على السعودية، إسرائيل، إيران، تركيا. للحديث عن عناصر قوتها الشاملة، موضحًا أسباب ذلك في البحث، إضافة إلى الحديث عن مصر في آخر فصول الكتاب.

كما يهتم في كل فصل بالربط بين عناصر القوة الشاملة لكل دولة وأهدافها الرئيسية. فنجد أن الجمهورية التركية قد وضعت أهدافها على ثلاثة مراحل، أولها عام 2023، ثم عام 2053، وأخيرًا عام 2071. مما يدل على القدرة على التخطيط بعيد المدى، والنظرة المستقبلية الشاملة للدولة.

ويكمن سر اختيار العام 2053 محورًا لخطة تركيا، في موافقته للذكرى رقم 600 لفتح إسطنبول (القسطنطينية سابقًا)، في محاولة لاستعادة أمجاد الدولة التركية.

أما إسرائيل فقد وضعت بين عامي 1994 و1997 خطة للعام 2020، تستهدف عدة نقاط، منها الوصول بإسرائيل إلى قائمة أقوى 8 اقتصاديات عالمية. وبالفعل، مع حلول عام 2010، كانت إسرائيل قد حققت أهم أهداف الخطة. لذا جرى تعديلها، وحملت اسم خطة 2028 المعدلة؛ استكمالًا لأهداف ورؤية الدولة الصهيونية.

وعلى الناحية الأخرى، نجد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد وضعت رؤية تشمل الفترة 2005–2025، هدفها الرئيسي الوصول بإيران إلى المركز الأول في المجال الاقتصادي والعسكري والعلمي والتكنولوجي، متفوقة على جميع الدول السابق ذكرها، لتلعب دورًا مميزًا ومؤثرًا وفاعلًا في السياسات الدولية.

قبل الانتقال إلى مصر، نختتم حديثنا بالمملكة العربية السعودية، إذ وضعت عدة أهداف تسعى إلى تحقيقها بحلول عام 2030، تخطى عددها ثلاثين هدفًا. ولتحقق هذه الرؤية، أطلقت المملكة برنامج التحول الوطني 2020، يمكن اعتباره جزءًا من المشروع السعودي، وهو خطة سريعة وافتتاحية في معركة تحويل السعودية إلى قوة إقليمية متفوقة وعالمية مميزة.

أما عن مصر، فإنها تملك رؤية 2030، التي تحمل ثلاثة أهداف رئيسية: أولًا، تحقيق اقتصاد تنافسي ومتنوع، يعتمد على الابتكار والمعرفة. ثانيًا، استثمار عبقرية المكان والإنسان للارتقاء بجودة حياة المصريين. وأخيرًا، الوصول إلى قائمة أفضل 30 دولة على مستوى العالم، من حيث متوسطات التنمية الاقتصادية ومكافحة الفساد والتنمية البشرية وتنافسية الأسواق وجودة الحياة.


خارطة طريق مشروع نهضة مصر العظمى

لهذا، ونحن نحاول وضع أسس بعث أمتنا ودولتنا من جديد، وإعادة مجدها وعزها وقوتها، فإنّه يجب علينا أولًا وقبل أى شيء قراءة توازنات الأمن الإقليمي اليوم وفي المستقبل، علينا أن ندرس واقع الدول الرئيسية الكبرى بالمنطقة وعناصر قوتها الشاملة، ومنها نستطيع أن نستنبط شكل تلك الدول وقوتها وإمكانياتها على فرض سياساتها ورؤيتها بمجالها الحيوي، وأسس الأمن الإقليمي بالمنطقة اليوم وفي المستقبل.[3]

بالطبع، تسعى مصر خلف أهداف طموحة ومثالية، لكن الواقع أن جميع أجهزة الدولة تعمل ضد هذا تمامًا. هنا يقدم الكاتب تصوره لمشروع النهضة المصرية الأمثل، الذي يرتكز على ستة أهداف قومية رئيسية. يأتي على رأس هذه القائمة خلق نظام سياسي ديموقراطي حديث، وتحويل القاهرة إلى العاصمة الاقتصادية رقم واحد في الشرق الأوسط. كما يهدف المشروع إلى امتلاك مصر جيشًا مدربًا على أعلى مستوى، ومنظومة أمنية لحماية الدولة داخليًا وخارجيًا، مع الاهتمام بالنظام التعليمي والعمل على تعزيز قوة مصر الناعمة، كي تصبح الأولى عربيًا وأفريقيًا وإسلاميًا.

لكن هذه الأهداف لا تحقق بسهولة، لذا حدد المهندس خالد فراج أهم المحاور اللازمة لتحقيق هذا المشروع الطموح، وهي: الدستور، التخطيط الشامل، تطوير وتحديث الهيكل الإداري للدولة، تحديد أولويات الاستثمار الحكومي، تحديث القوانين وترسيخ قيم الدولة المدنية، تهيئة بيئة قوية لجذب الاستثمارات الخارجية.

بهذه المحاور ختم الكاتب الجزء الأول، موضحًا أن الجزء الثاني سيتناول الخطوات العملية والخطط التنفيذية لتحقيق ما ورد بخارطة الطريق السابقة، مع تناول كل ما يخص رؤية النظام السياسي للدولة، وأهم بنود الدستور المقترح، وتقديم تصور لخطط قصيرة الأمد تحقق معدل نمو اقتصادي سريع، وكيفية التعامل مع التحديات من فقر وبطالة وغيرهما.

ختامًا، وكما ذكرنا في المقدمة، فإنّ العمل على الارتقاء بمصر ثانية ليس بأمر مستحيل، لكنه لن يتم بمجرد التمني، بل تحتاج المسألة إلى جهد كبير، ورؤية واضحة حاول هذا الكتاب تقديمها. و«البعث من جديد» هدف علينا ألا نفقد الأمل فيه.

المراجع
  1. خالد فراج، البعث من جديد: رؤية استراتيجية للدولة المصرية والدول الإقليمية الكبرى، كتبنا، 2018، ص21.
  2. السابق، ص27.
  3. السابق، ص22.