لو سألت الغالبية العظمى من المصريين عن أكثر الأمراض انتشارًا في مصر الآن حتى اقترن اسمه بها، فستكون الإصابة بفيروس الكبد الوبائي سي هي الإجابة، لا سيّما وأن نسبة الإصابة به في مصر كانت حتى وقتٍ قريب الأعلى عالميًا.

لحسن الحظ، شهدت السنوات الأخيرة ظهور العديد من مضادات الفيروسات القوية والتي مثّلت طفرة كبيرة في علاج هذا الفيروس الخطير في مصر والعالم، والذي كان يسبب في أكثرية الحالات التهابًا كبديًا مزمنًا، غالبًا ما ينتهي بمضاعفاتٍ خطيرة تبدأ بالإصابة بالتليف الكبدي بمختلف درجاته، والذي يغير بشكل جذريٍّ لا رجعة فيه في الحالات المتقدمة من بنية أنسجة الكبد ووظائفها، مرورًا بفشل وظائف خلايا الكبد، وأعراضه الخطيرة مثل (ارتفاع نسبة الصفراء، الاستسقاء، القابلية للنزيف، دوالي المريء النزفية، الغيبوبة الكبدية بدرجاتها ..)، وانتهاء بأخطرِ الأخطار، وهو الإصابة بسرطان الخلية الكبدية الذي يصعب القضاء عليه جذريًا، ويعتبر من أهم أسباب الوفاة لدى مرضى الكبد.

ولكن قبل أن نمتن كمصريين خاصةً – والبشر بوجه عام – لمن اكتشفوا علاجاتٍ فعالة لهذا الفيروس، لا بد أن يتجه امتناننا أولًا لمكتشفي وجود هذا الفيروس من الأساس، والذي ظلّ قبل جهودهم يقتل – قيدَ مجهول – الآلاف من البشر سنويًا، ويفسد حياة الملايين، ويُعكر صفو مجال التبرع بالدم البشري الذي كان فتحًا طبيًا هائلًا غيَّر حياة كثيرين. كما كان هذا الفيروس يمثل خطرًا مُحدقًا بكل مريضٍ يُجري جراحة طبية.

حسَنًا ما فعلت لجنة نوبل للطب هذا العام عندما منحت جائزتها للثلاثي العلمي الذي اكتشف فيروس الكبد الوبائي سي، ذلك الفيروس الذي بلغت نسبة المصابين المزمنين به حول العالم أواخر القرن العشرين نحو 1% من البشر، أي ما يزيد على الـ60 مليون إنسان.

أمريكِيَّيْن وبريطاني

على عادتها في السنوات الأخيرة، لم ينفردْ بنيلْ جائزة نوبل للطب عالمٌ واحد، إنما تقاسمَها هذا العام ثلاثةٌ من الباحثين، والذين أسهمت جهودُهم مجتمعةً في الإمساك بتلابيب فيروس سي المراوغ. وتبلغ القيمة الكلية للجائزة ما يقارب المليون ومائة ألف دولارٍ أمريكي.

الأول، هو الباحث الأمريكي هارفي ألتر، البالغ من العمر 85 عامًا، والذي عمل باحثًا لأكثر من 50 عامًا في المعهد الأمريكي الوطني للصحة. أما الفائز الثاني، فهو أستاذ علم الفيروسات البريطاني مايكل هوتون، البالغ من العمر 65 عامًا، وعمل لما يُقارب 40 عامًا في أبحاث الفيروسات في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. وثالث الرابحين هو العالم الأمريكي تشارلز رايس، البالغ من العمر 68 عامًا، والذي يعمل منذ عام 2001م في جامعة روكفيللر الأمريكية، في نيويورك، وقضى أكثر من 17 عامًا كمديرٍ علميٍّ وتنفيذي لمركز أبحاث فيروس الكبد الوبائي سي التابع لتلك الجامعة.

وقد تواترت النتائج البحثية التي شارك فيها العلماء الثلاثة كُلٌّ في مكانه في الدوريات العلمية المرموقة على مدار أكثر من 25 عامًا، بدأت عام 1972م بالدراسة التي اشترك فيها الأمريكي هارفي ألتر، ونُشِرَت نتائجها في دورية مشهورة للأمراض الباطنية، وكان موضوعُها عن اكتشاف حالات للإصابة بالالتهاب الكبدي بعد نقل الدم رغم استبعاد وجود إصابة بفيروس بي الكبدي الوبائي، والذي اكتُشِفَ قبل عقود من اكتشاف فيروس سي، وكان يُعتقد أن السبب الأوحد أو الأبرز للالتهاب الكبدي الذس ينتقل عبر الدم.

أما آخر الدراسات في تلك الرحلة الطويلة، فتلك التي نُشرَت عام 1997م في مجلة Science الشهيرة، وشارك فيها الأمريكي الآخر تشارلز رايس، وأثبتت على مستوى البيولوجيا الجزيئية – الأحماض النووية – كيفية انتقال الإصابة بفيروس سي.

وما بين الخطوتيْن الأولى والأخيرة كان هناك مسار طويل، كل سلسلةٍ فيه تؤدي للتالية، حتى أصبح بإمكان البشرية الحديث عن أنها قد تعرَّفت جيدًا على هذا الفيروس الداهية، ثمَّ أمكن في سنواتٍ قريبة لاحقة، عبر جهودٍ لعلماء وباحثينَ آخَرين، التوصل إلى الأجيال الحديثة من المضادات الفيروسية التي رفعت نسبة الشفاء من إصابة فيروس سي فوق الـ 90%، بعد أن كان أقصى ما نطمح إليه مع العلاج القديم بالإنترفيرون قبل عقديْن من الزمان.

رحلة اكتشاف فيروس سي

فيروس سي

نعود الآن إلى بعض التفاصيل المهمة المتعلقة بالرحلة الطويلة لثلاثي نوبل الجديد في سبيل اكتشاف هذا فيروس الكبد الوبائي سي. لم يكن ما فعله العلماء الثلاثة هو استكمال لجهودٍ معاصرة في هذا المجال، إنما تعود خيوط هذا البحث العلمي إلى 4 قرونٍ قبل الميلاد، عندما وصف الطبيب اليوناني الأشهر في التاريخ، أبقراط – صاحب قسَم الأطباء الشهير – أعراض التهاب الكبد، وما يصاحبها من اضطراب في وعي وسلوك المريض، وبالطبع لم يُتَح لأبقراط من الوسائل لاستِكْناه السبب الأكيد للإصابة بتلك الحالة المرضية.

بحلول عام 1947م، كان العلماء والأطباء قد ميَّزوا ما بينَ نوعيْن من الالتهاب الكبدي، هما A وB، طبقًا للتطور المرضي، وطريقة الانتقال، وذلك قبل أن يتعرَّفوا على كل نوع له فيروس معين يسببه. الالتهاب A ينتقل عبر الطعام الملوث، ويسبب التهابًا حادًا في الكبد، ويرفع الصفراء في الدم بنسبة كبيرة، لكنه في معظم الحالات ينتهي خلال أسابيع بالشفاء التام. أما الالتهاب B فينتقلُ عبر الدم، وغالبًا ما يسبب التهابًا مزمنًا، ينتهي في حالاتٍ عديد بمضاعفاتٍ خطيرة كالفشل الكبدي وسرطان الكبد.

عام 1967م، نجحَ العالم باروخ بلومبيرج في اكتشاف فيروس الكبد الوبائي بي، المسؤول عن الإصابة بالالتهاب الكبدي بعد نقل الدم وبعد إجراء الجراحات، وتمكَّن من عزل الجزء القادر على تحفيز المناعة من هذا الفيروس، مما أدى إلى إمكانية إنتاج مصل وقائي يمنع انتقال تلك العدوى بفاعلية، ليحصل على جائزة نوبل مُستحقَّة في الطب عام 1976م.

لكن في تلك اللحظة برز لغزًا كبيرًا كسر موجة النشوة بالاكتشاف العظيم السابق، لماذا ظلت هناك نسبة إصابة مرتفعة بالالتهاب الكبدي بعد نقل الدم والجراحات، رغم تحييد الخطر المتمثل في فيروس بي، وإنتاج المصل المضاد له؟ هنا تبنَّى العلماء نظرية أن هناك مُسبِّبًا آخر، ليس هو فيروس بي، ولا بالطبع فيروس إيه، الذي اكتُشف في بعض عينات البراز لمصابين، مع تطور وسائل الكشف المناعي الإلكتروني عام 1973م، فخرج من معادلة البحث عن سبب فيروس للالتهاب الكبدي المنتقل عبر الدم.

وكنموذج لسلاسل العلم المتتالية، كان من بين الباحثين العاملين مع بلومبيرج – مكتشف فيروس بي – الطبيب هارفي ألتر، الفائز الأول بجائزة نوبل هذا العام، والذي استفاد كثيرًا من النتائج التي توصل لها أستاذه، ومن الخبرات البحثية التي راكمها في فريقه لسنوات. لاحظ ألتر أن عزل العينات المصابة بفيروس بي، يحد فقط من 20% من حالات انتقال الالتهاب الكبدي. في أواخر السبعينيات، اكتشف ألتر والباحثين معه أن ذلك الفيروس المجهول الذي ليس بي ولا إيه، قادر على إصابة حيوان الشمبانزي، مما وفَّر مساحة أكثر حرية للتجربة في نموذج حيواني، مما أعطى معلوماتٍ أكثر عن مدى الضرر الذي تُلحقه الإصابة بخلايا الكبد، وكذلك تمكن الباحثون عبر وسائل معقدة من اكتشاف أن الفيروس المجهول من الفيروسات المغلفة، وأن قطره تقديريًا يتراوح بين 30 و60 نانومتر.

هنا يتسلم حائز نوبل الثاني مايكل هوتون طرف الخيط في مطلع الثمانينيات، واستفاد من التطورات المتلاحقة في مجال البيولوجيا الجزيئية، ليتمكن مع فريق من الباحثين من عزل أجزاء من الحمض النووي الريبوسي RNA للفيروس المنشود، باستخدام تقنية الحمض النووي المكمل C-DNA، وسموْه فيروس سي، وعبر تجارب طويلة على الشمبانزي، ثم متطوعين بشر، تمكنوا من الحصول على الأجسام المضادة التي يكونها الجسم ضد هذا الفيروس الذي أسموه فيروس سي، وأمكن عن طريق وجود تلك الأجسام الخاصة تشخيص الإصابة بذلك الفيروس.

وفي تتويجٍ لجهود سابقيه، تمكن الفائز الثالث تشارلز رايس من اكتشاف أجزاء جديدة من الحمض النووي الريبوسي للفيروس مسؤولة عن تكاثره، وأضافَ بعض الأجزاء المُعدَّلة جينيًا إليها، لتضمن فاعلية عملية التكاثر دون تثبيط، وحقنها في دماء قرود الشمبانزي، فأصيبت بالالتهاب الكبدي، وظهرت عليها أعراضه، وكذلك الضرر المميز له في خلاياها الكبدية. وبذلك قدَّم رايس الدليل النهائي الذي أغلق الدائرة، وربط ربطًا قطعيًا بين هذا الفيروس، والصورة الإكلينيكية للالتهاب الكبدي الناجم عن الإصابة به. واستحقَّ الثلاثي أن تقدرَ الجائزة العلمية العالمية الأبرز جهودَهم في اكتشاف هذا الفيروس الخطير بعد أكثر من 20 عامًا من تمامها.