شطبوا يا ناس حضارة كاملة

واغتالوا أمان النوبة السمرا

بتنادي علينا أنين الساقية

وطحنوا عظام أجدادنا الباقية

فرضوا علينا الهجرة المُرة

قالوا (كوم أمبو) الجنة الخضرا

عشنا فيها ليالي حزينة

مشينا سنين طويلة

يغني النوبيون في أسى هذا المقطع من أغنية (اسمي هناك) التي خلّدها الفنان النوبي الراحل خضر العطار، يغنونها في أفراحهم وتجمعاتهم في القاهرة، والإسكندرية، وأسوان، وخارج مصر. لا يملون من تكرارها وغيرها من اﻷغاني واﻷهازيج التي تذكرهم وتذكّر أبناءهم وأحفادهم ما عانوا منه من آثار أكبر تهجير قسري في مصر خلال القرن العشرين، تهجير النوبيين لبناء السد العالي في عام 1964.

التهجير لديهم كما عرفوه لم يعنِ سوى الشطب والاغتيال والفرض كما قالت اﻷغنية، ولا يدل حالهم الآن وما عانوا ولا يزالون يعانون منه سوى على كذبِ وعودِ الدولة رغم تغير الرؤساء الحاكمين لها. فالدولة التي وعدتهم في عهد ناصر بأن منطقة (كوم أمبو) التي سيهاجرون إليها، شمال قراهم اﻷصلية بأكثر من أربعين كيلو مترًا، ستكون جنة خضراء، فوجئوا بأنها منطقة موحشة في قلب الصحراء مات فيها عشرات من أطفالهم حديثي الولادة.

وتدهورت أحوالهم المعيشية والاقتصادية نظرًا لعدم صلاحية اﻷرض للزراعة ولعدم وجود نيل يصطادون منه ويعتمدون على موارد بيئتهم في العيش كما كانوا دائمًا لآلاف السنين.


لا تنتهي المعاناة مع التقادم

آلام التهجير ومعاناته لم تنتهِ، فتهجير النوبيين لم يكن مجرد انتقالَ جماعةٍ من البشر من مكان إلى مكان آخر. التهجير كان انتزاعًا لآلافٍ من البشر من قراهم ومناطقهم وبيئتهم اﻷصلية على ضفاف النيل. وإلقائهم في قلب الصحراء، في بيوت لا تمتُّ بأي صلة لأشكال بيوتهم الواسعة والملونة، والتي تثير البهجة في النفوس. وهي البهجة التي انحسرت من بضع وأربعين قرية نوبية، فلم يتبقَ سوى قرى قليلة جدًا التي لم تتعرض للتهجير مثل قرية غرب سهيل التي تستقبل ببيوتها الملونة على الطراز القديم عشرات آلاف من السائحين المصريين واﻷجانب كل عام.

لو كان التهجير مؤقتًا كما وعدهم عبد الناصر لتحمله النوبيون عن طيب خاطر مقابل عودتهم في أسرع وقت

ولو كان التهجير مؤقتًا كما وعدهم عبد الناصر، لتحمله النوبيون عن طيب خاطر مقابل عودتهم في أسرع وقت، إلا أن ذلك الوعد قد مضى عليه ما يزيد عن الخمسين عامًا ولم يتحقق بعد. بل وتبعته عشرات الوعود من المسؤولين في الدولة المصرية، من وزراء ورؤساء، حتى اعتاد النوبيون محاولة كل رئيس قبل اقتراب تنصيبه من جديد في انتخابات رئاسية معروفة النتيجة مسبقًا، التودد إليهم وكيل الوعود بأن الدولة ستعمل على تحقيق حلمهم في العودة لكن من دون نتيجة ملموسة على اﻷرض.

وانفرط عقد التراث الثقافي النوبي من بعد التهجير، فضعفت اللغة النوبية وانحدر الاهتمام بالفن والتراث، جنبًا إلى جنب مع الانحدار والتدهور في أبسط اﻷوضاع والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اﻷخرى. فاضطر كثير من النوبيين إلى السفر والانتقال إلى القاهرة والإسكندرية في اﻷجيال الكبيرة بعد وأثناء عمليات التهجير إلى كوم أمبو مباشرة، وفي اﻷجيال اﻷصغر توالى السفر إلى الخليج وأمريكا وأوروبا لمحاولة البحث عن فرص عمل تحقق مستوى أفضل للعيش. وهو ما كان التدهور سمته الرئيسية منذ الستينات، وظل اليأس يتراكم على نفوس النوبيين في أن تتحسن اﻷحوال، حتى جاءت نسائم يناير 2011.


نسائم يناير واستعادة الحلم

جيناكم من أسوان، لا مبارك ولا سليمان

هكذا هتفت مسيرة من المواطنين المصريين النوبيين في 1 فبراير 2011 وهي تدخل وتنضم إلى الحشود في ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية. مسيرة استغرقت أيامًا لتصل من أقصى الجنوب، بعد إعلان حظر التجول في يوم الغضب الشعبي جمعة 28 يناير.

مثلت الثورة في يناير انعتاقًا للنوبيين في أن حلمهم الآن بإمكانه التحقق، فحلم النوبيين لا يمكن أن يتحقق على الوجه اﻷمثل من دون ديموقراطية حقيقية تسود كافة ربوع مصر، وتغير جذري في أنماط ممارسة السلطة لتحارب الفساد وتتحلى بالشفافية والمحاسبة ووقف الإفلات الممنهج من العقاب.

ظهرت على السطح العديد من الحركات والمبادرات والائتلافات النوبية الشبابية، وخصوصًا في القاهرة والإسكندرية وأسوان. وعملت على مزيد من دمج النوبيين في الحراك الذي يجري في المجال العام، بأن فتحت مقرات الجمعيات اﻷهلية النوبية، والتي تكاد تزيد عن المئة جمعية في القاهرة والإسكندرية فقط. أمام اﻷنشطة الثقافية والاجتماعية والسياسية لجميع المصريين، وكان هذا تحولًا كبيرًا في نطاق عمل الجمعيات بعد أن كانت تقتصر على بعض المناسبات الاجتماعية مثل تلقي العزاء ﻷبناء قرية أو عائلة نوبية فيها. وحلقات السمر لكبار السن ومشاهدة مباريات كرة القدم.

ومع تغير المشهد مرة أخرى وعودة النظام إلى القمع بعد يوليو 2013 بشكل ممنهج وأكثر تكثيفًا، لم يتوقف الحراك النوبي عن المطالبة بحقوقه والتشبيك مع فئات وحركات مطلبية أخرى. ونجح النوبيون في أن ينتزعوا مادة من الدستور الذي تم إقراره بعد الاستفتاء عليه في يناير 2014 تنص صراحة على أن تقوم الدولة بإعادتهم إلى أراضيهم اﻷصلية خلال 10 سنوات من تاريخ العمل بالدستور. وهي المادة 236، التي دفع بها اﻷديب النوبي حجاج أدول عضو لجنة الخمسين لتعديل الدستور وصمم عليها ومن حوله وورائه الكثير من النوبيين وخصوصًا الشباب الذين شكّلوا اﻷغلبية الكاسحة كأعضاء في مكتبه الاستشاري كممثل للنوبة في اللجنة.


قرار 444 والعودة إلى المربع صفر

خريطة توضيحية

لكن المكسب الدستوري الكبير الذي حققه النوبيون يبدو أنه لم يكن كافيًا، فقد أصدر عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية قرارًا يتعارض مضمونه مع ما نصت به المادة 236 من الدستور، وهو القرار الجمهوري رقم 444 لعام 2014 والذي يقضي فيه باعتبار المساحة الواقعة من خط حدود مصر الجنوبي مع السودان وحتى 25 كم كاملة غرب النيل، و120 كم شرقه (كما توضحها الخريطة التوضيحية من إحدى صفحات الحركات النوبية) منطقة عسكرية لا يجوز التواجد ولا الحياة فيها! في الوقت الذي أعلن في نفس القرار أن الحدود الشرقية مع قطاع غزة الفلسطيني المحاصر، واﻷراضي المحتلة من الكيان الصهيوني بواقع عمق 5 كم داخل الأراضي المصرية وعلى طول الشريط هي مناطق عسكرية أيضًا.

وبذلك يقضي القرار باعتبار قرابة نصف المناطق اﻷصلية للقرى النوبية التي ألزم الدستور الدولة بإعادة النوبيين إليها مناطق عسكرية في مخالفة واضحة وصريحة للدستور الذي قام نفس النظام الحالي بإقراره.

يقضي القرار باعتبار قرابة نصف المناطق اﻷصلية للقرى النوبية التي ألزم الدستور الدولة بإعادة النوبيين إليها مناطق عسكرية

من المدهش أن يتغير شكل الحراك النوبي الآن بعد هذا القرار الجمهوري غير المنطقي فبعد سنوات من محاولة نيل النوبيين الاعتراف من الدولة بالمشاكل الحقيقية، ودحض ما كان يروجه إعلام النظام من أوهام الانفصال، يتحول الحراك النوبي إلى مستوى آخر وهو محاولة إقناع الدولة ممثلة في رأس سلطتها التنفيذية رئيس الجمهورية، وسلطتها التشريعية البرلمان الجديد في أن موافقته اﻷخيرة على قرار 444 هي موافقة مخالفة للدستور.

ويبدو أنه من غير المجدي للنوبيين أن ينتظروا 10 سنوات أيضًا حتى تقوم المحكمة الدستورية العليا بالتعليق على هذا القرار. نظرًا لبطء درجات التقاضي في مصر. كان ذلك ممكنًا قبل يناير 2011، أما الآن فخبرة الخمس سنوات اﻷخيرة كافية ليترسخ في وعي الكثيرين أنها منظومة واحدة تتقاسم اﻷدوار، فالرئيس المؤقت عدلي منصور، والذي أعلن السيسي في بيانه عزل مرسي أنه من سيتولى السلطة، عاد بعد انتهاء فترته المؤقتة إلى منصبه القديم رئيسًا للمحكمة الدستورية العليا. وهو الآن من يرأس عملية مراجعة قوانين وقرارات كثير منها أصدرها بنفسه!

هذا التغير في الوعي هو ما يمكننا من تفسير لجوء النوبيين إلى أدوات جمع التوقيعات مثل الحملة التي تحاول جمع 100 ألف توقيع الآن ضد قرار 444، وكذلك اللجوء للتظاهر والوقفات السلمية، كما أبدعوا الوقفة الاحتجاجية في أبو سمبل في يوم تعامد الشمس على وجه تمثال رمسيس الثاني 21 فبراير الماضي. فهل تستمع الدولة أو تستجيب أم يستمر الموت البطيء للنوبة؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.