استيقظت في السادسة من صباح ذلك اليوم، قمت بترتيب أدواتي وأعدت التحقق من حضور كل القائمة الخاصة بي في السيّارة: أقلام الليزر، التلسكوب، الكاميرا، العدسات بأنواعها، النظارات المعظمة، الأطالس .. الخ. في تلك الأثناء كان عبدالرحمن، ابني ذو السنوات الثمانية، قد انتهى هو الآخر من تجهيز نفسه وأدواته، لم يبق إلا أن نحتسي بعض الشاي الساخن، أو الشيكولاتة الساخنة، مع بعض الثرثرة الصباحية بيننا، ثم ننطلق في رحلتنا الطويلة.

لكي تصل إلى وادي الحيتان، وهو جزء من محمية وادي الريان بمحافظة الفيّوم المصرية، يجب أن تقطع ما يزيد على 350 كيلومترًا من المنصورة، منها 38 كيلومتراً عبارة عن مدق صخري تتمشّى السيارات فيه ببطء شديد، ما يطيل رحلتك فتصل إلى سبع ساعات أو أكثر، لكن الأمر يستحق دائمًا. المحمية هي موقع تاريخ طبيعي استثنائي، يحتوي على عدد كبير من الحفريات عالية الجودة للحيتان التي عاشت في هذا المكان قبل عشرات الملايين من السنين حينما كان قاعًا لمحيط ضخم، لكن هدفنا من الرحلة لم يكن الحفريات.

في القاهرة مثلًا، أو أي مدينة كبيرة، يمكن أن ترى في السماء ليلًا ما يقترب من 20 إلى 50 نجمة لا أكثر، في المناطق الأكثر ابتعادًا عن مركز المدينة قد يرتفع العدد حتّى يصل إلى مائتي نجم، لكن يحتاج الأمر أن تغوص في قلب الصحراء لمسافة طويلة حتّى تتمكن من رفع رأسك للسماء فترى، بعينيك فقط، ما يقترب من 6000 نجم دفعة واحدة، هناك تظهر السماء ليلًا بوضوح شديد وكأنها سجّادة سوداء مطرزة باللآلئ، تكون واضحة لدرجة أنك تشعر أنه يمكن لك أن تمد يديك فتمسك إحدى النجوم وتتأملها عن قرب.

في تقرير سابق تحدثنا بشكل مفصل عن علم الفلك للعينين المجردتين، يفتح لك هذا الدليل فرصة جيدة لتعلم الكثير عن سماء الليل دون الحاجة لتلسكوب، وسوف يفيدك كذلك في أي رحلة صحراوية تخرج فيها، أو حينما تتأمل السماء في أي مكان آخر.

لكننا سنخصص هذا التقرير للحديث عن حصريات الصحراء، وهي الأجرام السماوية، دون النجوم العادية، والتي يمكن أن تراها بعينيك في السماء الحالكة، وتتضمن المجرات والسدم والتجمعات النجمية، لكن بداية عظيمة مع سماء الصحراء سوف تبدأ لا شك بحزام المجرة.

اقرأ أيضا:علم الفلك بدون أدوات: كيف تراقب السماء بعينيك فقط؟


حزام المجرة

على مدار العام يتمكن الراصد على الأرض من متابعة أجزاء مجرتنا «درب التبانة» كأن تقف في معرض لأحد الرسامين، وتتابع اللوحات على الجدار الداخلي. في الصيف – مثلًا – نستطيع رصد مركز المجرة في سماء غير ملوثة بضوء المدن، هو ألمع أجزاء حزام المجرة، وأكثرها كثافة للدرجة التي تجعل منطقة المركز – والتي هي بعرض سنة ضوئية واحدة – تحتوي على ما يقرب من مليون نجم. يقع المركز تحديداً بين كوكبتي العقرب Scorpius والقوس SagittariusS.

بعد ذلك يبدأ وهج الحزام في الخفوت؛ حينما ننطلق من كوكبة الترس Scutum مروراً بالمثلث الصيفي «القيثارة Lyra، العقاب Aquila، الدجاجةCygnus»، فاصلاً بين الأميرة السماوية تاناباتا – النجمة Vega في الميثولوجيا اليابانية- وحبيبها كينجيو – نجم Altair في كوكبة العقاب – عقاباً لها على وقوعها في حب فرد من عامة الشعب.

بعد ذلك يخفت الحزام بدرجة أكبر حينما نمر بكاثيوبيا (المرأة المسلسلة) Cassiopeia وبرشاوس حامل رأس الغول Perseus ، ثم أعلى كوكبة الجبّار Orion نزولاً إلى نصف سماء الليل الجنوبي؛ بداية من كوكبة وحيد القرن Monoceros، فالشراع Vela، ثم الصليب الجنوبي Crux، وقنطورس Centaurus، حتى نعاود من جديد النظر إلى مركز المجرة.

سنة 2013 تمكن نيك رايجنزر من استخدام كاميراته الست في التقاط صورة بانورامية كاملة للسماء؛ واضعاً جم تركيزه على حزام المجرة كاملاً، أجبره ذلك على تتبع السماء لسنة كاملة (حيث سوف تتعاقب الكوكبات على مر الفصول الأربعة) ليقطع مسافة قدرها 60,000 ميل، ويلتقط 37,440 صورة، ويجمعها -معاً- في مشهد بانورامي رائع. سوف تكون تلك الصورة السماوية الضخمة لرايجنزر هي دليلنا في رحلتنا لدراسة سماء درب التبانة، يمكنك الاطلاع عليها وتتبع حزام المجرة خلالها، وتوضيح الكوكبات عليه،من هذا الرابط.

هناك مجموعة من العلامات الملفتة في حزام المجرة والتي يمكن أن تراها بعينيك:

1. مركز المجرة: أكثر مناطق حزام المجرة لمعانًا وجمالًا، إنها تلك المنطقة المكدسة بالسحب النجمية والنجوم والتي تظهر في الصور الصحراوية الفلكية، في الواقع ستراها كما تراها بالصور لكن دون ألوان، فقط أبيض وأسود.

2. الصدع العظيم Great Rift، ويسمى أيضاً النهر المظلم، وهو تراص لمجموعة من سحب الغبار الجزيئية المظلمة تمتد من مركز المجرة حتّى كوكبة الدجاجة، سوف يبدو كأن هناك شريطي دخان متوازيين يفصل بينهما منطقة مظلمة، ليست تلك فجوة في سماء الليل لكنها سدم مظلمة لا تشع ضوء أو حرارة، هذا هو النهر المظلم.

3. سحابة الترس النجمية: بجوار نجم النسر الطائر Altair من المثلث الصيفي، تظهر كنتوء بارز في الصدع العظيم

4. سحابة الدجاجة النجمية Cygnus star cloud: تمتد بامتداد خط كوكبة الدجاجة المتوجه من الجناح الأعلى حتى الرأس عند نجم منقار الدجاجة Alberio أعلى الجزء المظلم من الصدع العظيم في تلك المنطقة.

5. كيس الفحم الشمالي coal sack Northen: ويسمى أيضًا «صدع الدجاجة»، المنطقة الواقعة أسفل نجم الذنب Deneb من كوكبة الدجاجة، أشهر تجمعات تلك المنطقة النجمية هو التجمع Cygnus OB2 والتجمع Cygnus OB7 الذي يبتعد عنا حوالي 2000 سنة ضوئية، ويشمل الأخير بداخله نجم الذنب من كوكبة الدجاجة.

6. يمر الحزام بعد ذلك بكوكبة ذات الكرسي بعد أن يصبح أكثر خفوتًا، في تلك المنطقة نلتقي بمجرة (أندروميدا) وعدة تجمعات مفتوحة سنتحدث عنها بتفصيل أكبر في تقرير قادم، نتحدث هنا عن الثلايا والقلائص في كوكبة الثور، والتجمع المزدوج والتجمع ألفا برشاوس في المنطقة بين ذات الكرسي وممسك الأعنّة، والتجمعات المفتوحة داخل ممسك الأعنة.

رصد فلكي، السماء، سماء الليلة، أجرام، مجرات

لتحقيق فهم أفضل لمنطقة حزام المجرة من سماء الليل فإن الكاتب ينصح، وبشدة، بالجزءين الرائعين، لمايك انجليس، من سلسلة باتريك مور: Astronomy of the milky Way، يقدم صورة غاية في التفصيل والدسامة لعلم الفلك الخاص بمنطقة حزام المجرة من سماء الليل، يبدأ بخرائط مفصّلة، ثم يحدد سير الكوكبات في تلك المنطقة، ثم يقسّم الأجزاء الخاصة بحزام المجرة إلى قطع صغيرة ويشرح كل منها، وبجانب ذلك فهو يقدم دليل رائع ومهم لكل أجرام السماء العميقة DSO’s الخاصة بحزام المجرة، مع عدد من الجداول والقوائم الهامة.

في الصحراء، لا يوجد ما هو أهم ولا ألمع من حزام المجرة، لا يمكن في الحقيقة أن تصف جمال هذا المشهد لشخص لم يره من قبل، في الحقيقة فإنه مع اللحظة الأولى التي ترى فيها سماء الصحراء سوف تتذكر أولئك الذين عاشوا على الأرض قبيل ظهور الكهرباء، وكيف أنه كان من المتوقع طبعًا أن يقوم البشر بربط الميثولوجيا الخاصة بهم بسماء الليل، فهذه اللوحة البديعة هي لا شك شيء يلفت النظر.


نجوم مزدوجة

رصد فلكي، السماء، سماء الليلة، أجرام، مجرات

ربما لا يدرك الكثيرون أن حوالي 40-50% من نجوم السماء ليست كالشمس، أي أنها لا تقف مفردة، بل تتواجد مع رفيق يدوران حول بعضهما البعض، تتراوح تلك المدة التي يدور خلالها نجمان حول بعضهما البعض من عدة أيام إلى عشرات الآلاف من السنين، وهناك دائمًا فرصة هامة وممتعة لالتقاط بعض تلك النجوم المزدوجة بالعينين المجردتين، خاصة في الأجواء الصحراوية، في الجزء القادم من هذا الدليل سأقدم لك مجموعة من أهم تلك النجوم المزدوجة التي يمكن أن تراها بعينين مجردتين

هنا يمكن أن نبدأ بأهم وأروع ثنائيي سماء الليل، ميزار Mizar وألكور Alcor في كوكبة الدب الأكبر، يمكن لك أن تبدأ به، حيث سوف تنبهر من مدى سهولة فصل النجمين عن بعضهما البعض، كذلك فإن الدب الأكبر Ursa Major هي واحدة من الكوكبات التي يسهل تحديدها في سماء الليل، ربما قد يزيد من شعورك بالسحر أن ما تنظر إليه ليس فقط نجمتان تدوران حول بعضهما البعض، بل هما ست نجوم، فميزار يتكون من نجمتين يدوران حول بعضهما البعض، أما ألكور فيتكون من نجمتين تدوران حول بعضهما البعض وكل منهما نجم مزدوج هو الآخر.

الثنائي ميزار وألكور

إحدى النجوم المزدوجة الممتعة الأخرى، وهو ربما السبب في وقوع مئات الآلاف من هواة الفلك في حب كوكبة القيثارة Lyra، إنه ما نسمّيه ثنائي الثنائي (Double Double) وهو النجم أبسيلون من الكوكبة، الجار القريب الذي يقع شمال النسر الواقع، وإبسيلون هو ترتيب النجم في الكوكبة من حيث اللمعان حسب الحروف اليونانية، فالنجم ألفا α هو ألمع نجوم الكوكبة، ثم بيتا β هو ثاني ألمع نجوم الكوكبة، أي كوكبة، ثم بعد ذلك جاما γ ، دلتا δ ، إيبسيلونε ، ثم زيتا ζ، وهكذا .. رتّب الفلكيون الأوائل النجوم في الكوكبة حسب لمعانها.

بالعين المجردة، يمكن أن تفصل النجم أبسيلون من الكوكبة إلى نجمين، نسميهما أبسيلون-1 وأبسيلون-2، حيث يبتعدان عن بعضهما البعض حوالي ثلاث دقائق قوسية، ويعد ذلك اختبارًا جيدًا لحدة البصر، لكن عبر تلسكوب متوسط – ثمانية إنشات مثلًا- سوف تتمكن بسهولة من فصل كل منهما إلى نجمين، يبتعدان عن بعضهما بمقدار ثانيتين قوسيتين ونصف فقط، يعني ذلك أن النجم أبسيلون القيثارة هو أربع نجوم كاملة كالشمس!

رصد فلكي، السماء، سماء الليلة، أجرام، مجرات

تقع تلك المجموعة بالكامل على بعد حوالي 160 سنة ضوئية، وجميعها نجوم بيضاء ما زالت تحرق وقودها من الهيدروجين، لكن الآن دعنا نتأمل كيفية دوران تلك المجموعة النجوم أبسيلون القيثارة حول بعضها البعض، الأمر كالتالي: الثنائي أبسيلون-1 يدور نجماه حول بعضهما البعض، ثم الثنائي أبسيلون-2 يدور نجماه حول بعضهما البعض، بينما تدور المجموعة أبسيلون-1 والمجموعة أبسيلون-2 حول بعضهما البعض بدورهما، لهذا السبب نُسمي هذا النظام النجمي الرباعي بـ«ثنائي الثنائي».

ثنائي آخر مهم في كوكبة القيثارة هو النجم دلتا من الكوكبة، ويمكن بسهولة ملاحظته بالعينين المجردتين، لكنه هذه المرة ليس ثنائيًا جذبويًا، أي أنه لا يتكون من نجمين يدوران حول بعضهما البعض، بل فقط يظهر لنا كثنائي من وجهة نظرنا على الأرض، في تلك النقطة ربما يمكن أن نسأل: ما الفارق بين نجم مزدوج ونجم ثنائي؟!!

يحدث هذا الخلط كثيرًا عند المبتدئين مع سماء الليل، يستخدم اصطلاح نجم مزدوج (Double Star) للإشارة إلى أي نجمين يقفان جنبًا إلى جنب في السماء، سواء كانا مرتبطين جذبويا أم لا. لكننا نطلق لقب نجم ثنائي (Binary Star) على تلك النجوم التي ترتبط ببعضها البعض جذبويا بالفعل، أي تدور حول بعضها. أما اصطلاح ثنائي بصري (Visual Binary) فنطلقه على تلك المجموعة من النجوم الثنائية التي يمكن للعين المجردة، النظارة المعظمة، أو التلسكوب بأي قدرة الفصل بين فرديها، في حين أن هناك مجموعات من الثنائيات لا يمكن لنا رصدها بالتلسكوبات، في حالة استخدامنا للمقاييس الطيفية مثلًا، وهنا تسمى ثنائيًا طيفيًا (Spectroscopic Binary).

رصد فلكي، السماء، سماء الليلة، أجرام، مجرات

في تلك النقطة يمكن أن ننطلق لمجموعة أخرى من النجوم المزدوجة في سماء الليل، لكنها ثنائيات بصرية وليست حقيقية، رغم ذلك فهي تلفت انتباه كل محبي سماء الليل، لكن للوصول إليها نحن في حاجة إلى السفر بعيدًا قليلًا إلى السماء الجنوبية، تحديدًا عند كوكبة العقرب Scorpius، حيث يمكن أن نقتنص أربعة مزدوجات، أكثرهم روعة (المزدوج أوميجا)، ثم يليه ثنائي لسعة العقرب (لامدا وأوبسيلون) ويليهما (زيتا) و(ميو) وكلاهما يمثل صعوبة مع العينين المجردتين، لكنهما في النهاية هدف رائع.

كان ما سبق هو فقط عيّنة ممتعة من مجموعة أكبر من النجوم المزدوجة والتي يمكن لك، في أثناء رحلة صحراوية ممتعة أن تراها، في تلك النقطة ينصح الكاتب بأن تتأمل الكتاب الرائع Double and Multiple Stars and How to Observe Them لجيمس مولاني من سلسلة Astronomers’ Observing Guides التابعة لدار نشر سبرينجر والمفتوحة مجانًا في مصر، الكتاب يقدم كل شيء متعلق بالنجوم المزدوجة، سواء بالعينين المجردتين أو النظارات المعظمة أو التلسكوبات، يمكن كذلك أن تتأمل قائمة ممتعة من 20 نجمًا مزدوجًا تجدها في الرابط المرفق.

النجوم المزدوجة هي واحدة من عجائب سماء الليل التي تستدعي التأمل دائماً، بل يمكن لك التعمق فيما بعد لدراسة حركة نجوم مزدوجة بعينها على مدى زمني واسع، يحتاج الأمر فقط لبعض القراءة قبل الصعود للرصد، عن مكونات ما تريد أن ترصده وبعض فيزيائه، سوف يعطي ذلك لرصدك زخماً ومتعة لن تنساها. إن ما تستشعره حينما تعلم أن هذا المزدوج الذي تراه – مثلاً – هو أربعة نجوم تدور حول بعضها البعض هناك على بعد تريليونات الأميال، أربع شموسٍ كشمسنا الدافئة، يدفعك لشواطئ التأمل حتماً، والتراقص بين أجمل الأفكار.

ما زالت رحلتنا الصحراوية مستمرة، في الحقيقة لا يكفي تقرير واحد للحديث عن روائع العينين المجردتين في سماء الليل، خاصة مع رحلة صحراوية ممتعة، لهذا السبب سأفرد تقريرًا أكثر تفصيلًا لأجرام السماء العميقة الممكنة بالعين المجردة، وهنا نحن أقصد التجمعات النجمية بنوعيها، وكذلك المجرات والسدم، لكن ربما تكون الآن قد عرفت لم يود كاتب المقال أن يبذل كل هذا الجهد ويقطع كل تلك المسافة لأجل أن يقضي ليلة في الصحراء مع النجوم، ذلك لأن المشهد هناك لا يمكن تعويضه بأي شيء آخر !