المذنبات: آلات الزمن الفضائية

أضاءت المذنبات سماءنا منذ آلاف السنين، ومنذ أوائل المشاهدات المسجّلة لها ونحن نحاول معرفة الإجابة على سؤال مجهول، من أين تأتي هذه المذنبات؟ وإن كانت تفقد مادتها وتتبخر بالقرب من شمسنا، فهذا يعني أنّها تشكلت في مكان بعيدٍ جدًا عنها بشكلها الجليدي الكامل، فأين تقضي المذنبات إذًا حياتها، أين تولد وكيف تصل؟

(سحابة أورط)
(سحابة أورط)

بعد الكثير من الملاحظات والنظريات، وصل العلماء إلى الفرضيّة التي تقول أنّ وراء الشمس والكواكب توجد سحابة كروية الشكل، هائلة الحجم، تتكون من الجليد والحجارة التي تُعطي المذنبات مكوّناتها. لكن لم نستطع ملاحظة أو تأكيد وجود هذه السحابة، سحابة أورط، حتى الآن لكن يُعتقد أنّ كثيرًا من المذنبات قصيرة وطويلة الدورات تأتي من هناك.


ما هي سحابة أورط؟

هي سحابة، نظريّة الوجود، كرويّة الشكل، مكوّنة بشكل كبير من الجليد، ويُعتقد أنّها موجودة على بعد خمسة آلاف وحدةٍ فلكيّة من الشمس، وفي ذلك المكان تقع السحابة في نهاية المجال الشمسي -حيث تنتهي آثار الرياح الشمسيّة- وفي الحدود الكونيّة لسيادة وأثر جاذبيّة شمسنا. (الوحدة الفلكيّة: هي متوسط المسافة بين الأرض والشمس وتساوي 149.597.870,691 كيلومتر (بدقة ± 3 متر).

(الموضع المفترض لسحابة أورط)

تمّ عرض هذه الفكرة، السحابة الحاوية على الأجسام الجليدية، من قبل الفلكيّ إرنست أوبيك Ernst Öpik في عام 1932، والذي افترض أنّ المذنبات طويلة الدورة تنشأ في سحابة توجد على حواف النظام الشمسي. فمنذ بداية نظامنا كانت مدارات المذنبات غير مستقرة ومتغيرة بشكل ديناميكي، فربما تنتهي حياة المذنب بالاصطدام بكوكب أو الاصطدام بالشمس نفسها، أو ربما بسبب تأثير الكواكب على المذنب، يخرج الأخير من النظام الشمسيّ برمّته.

وبسبب تركيبة مواد المذنب، فإنّ أشعة الشمس تقوم بإذابة الجليد والسماح للغازات بالخروج من الكرة الجليديّة المغلقة، لذلك اعتقد يان أورط Jan Oort -عالم الفلك الهولندي- أنّ هذه المذنبات قضت معظم عمرها في مكان بعيد كلّ البعد عن الشمس، مكان يعتبر احتياطيًّا للمذنبات في نظامنا الشمسي.

ورغم أنّ هذه السحابة غير مثبتة الوجود، إلّا أنّ المجتمع العلميّ قبل وجودها ويفسّر الظواهر بناءً على ذلك.


مكونات وتركيب السحابة

(مكونات وتركيب سحابة أورط)

تمتد السحابة لمسافة بعيدة عن الشمس من 2000 وحدة فلكيّة إلى 50,000 وحدة فلكيّة، بل أنّ هناك تقديرات تقول بامتدادها إلى أكثر من 200,000 وحدة فلكيّة. وتُقسم إلى جزئين: كرويّ خارجيّ وآخر داخلي حلقي الشكل، ويسمّى الجزء الداخلي الحلقيّ :Hills Cloud، وذلك نسبةً للعالم جاك ج. هيلز Jack G. Hills، الذي اقترح وجودها في عام 1981.

وتتنبأ النماذج أنّ السحابة الداخلية تحوي عشرات أو مئات الأضعاف من نوى المذنبات مقارنة بالسحابة الخارجيّة، وتُعتبر سحابة Hills مصدر المذنبات الجديدة التي تغادرها متجهةً نحو السحابة الخارجية، حيث أنّ عدد المذنبات المتشكّل في السحابة الخارجيّة يتناقص بشكّل مضطرد.

تتكون الأجسام الموجودة في سحابة أورط من المواد المتطايرة والجليد، مثل الماء، والميثان، والإيثان، وأحادي أوكسيد الكربون، وسيانيد الهيدروجين والأمونيا. ويُعتقد أنّ الجزء الخارجي من سحابة أورط يحوي ترليونات الأجسام بقطر أكبر من كيلومتر واحد، ومليارات من تلك التي أقطارها تجاوز العشرين كيلومترًا. ولا تُعرف الكتلة الكليّة للسحابة بعد، لكن بناءً على مذنّب هالي، والذي يُعتبر من مكونات السحابة الخارجية، فإنّ الكتلة الكليّة تكون حوالي 1025*3 كيلوغرامًا، أي خمس أضعاف كتلة كوكبنا.

نظريًا، يمكننا حساب عدد الأجسام الموجودة في سحابة أورط، لأنّها بقايا عملية تشكل نظامنا الشمسيّ، وبذلك نصل لرقم قريب من 6 مليار جسم جليديّ، لكن بحسب الملاحظات والمذنبات طويلة المدى، يتضاعف الرقم إلى المليارات بل والترليونات! فكيف يمكننا تفسير ذلك؟ ربما تكون الشمس قد «سرقت» هذه المذنبات من نجوم أخرى، فالمذنبات تنشأ حيث توجد النجوم، لكن هل هذا يعنيّ أنّ بعض المذنبات التي نراها في السماء هي من أنظمة شمسيّة أخرى غريبة عننا؟ ربما.

التفسير الآخر -رغم أنّه بعيد الاحتمال- هو وجود كوكبٍ آخر في مجموعتنا الشمسية، وراء نبتون -آسفون يا بلوتو، أنت لست كوكبًا- فقد أظهرت الدراسات أن هذه المذنبات لا تأتي بشكل عشوائي، بل تبدو مدراتها محيّدةً بهذا الشكل بسبب كوكبٍ بعيد. والجدير بالذكر أنّ العديد من مدارات أجسام حزام كايبر تتصرف بالطريقة نفسها.

ما زال هذا الجزء من نظامنا الشمسي غامضًا بالنسبة لنا، بعيدًا وصعب المنال، وما زلنا أطفالًا بالنسبة للفضاء المظلم الواسع فعلًا، وربما تساعد رحلة New Horizons خارج نطاق بلوتو في مساعدنا في اكتشاف هذا المجهول.


كيف ولدت السحابة؟

يُعتقد أنّ سحابة أورط تُشكّل جزءًا من القرص الذي تشكّل حول الشمس منذ 4.6 مليار سنة مضت، حيث اندمجت المكونات الأساسية للسحابة بشكل قريب من الشمس، بنفس الآلية التي تشكّلت فيها الكواكب والكواكب القزمة، لكن التفاعل مع جاذبية الكواكب الغازية العملاقة حينها، مثل المشتري، دفعت بهذه المكونات بعيدًا لتدور في مدار إهليلجيّ طويلة المدى.

(منظر تخيّلي للقرص الأب لنظامنا الشمسي)

عند تشكّل مجموعتنا الشمسيّة، التحمت المواد خارجةً من قرصٍ مسطّحٍ Protoplanetary Disc حول شمسنا، الكواكب الداخليّة كانت أكثر دفئًا، أصغر وحجريّة الطابع، بينما كانت الكواكب الخارجيّة أكبر حجمًا وأكثر برودةً، في ذلك المكان تجمّع الماء بشكل جليد مع الغبار ومواد أخرى.

بسبب جاذبيّة الكواكب الخارجيّة الكبيرة، كان لهذه الكرات الجليديّة مصيران، إمّا الدخول والالتحام فيها أو الخروج إلى مدارٍ آخر وتتجه نحو الشمس، أو بعيدًا في أعماق الفضاء. ورغم صغر أحجام هذه القطع الجليديّة المُبعدة بسبب الكواكب، فإنّ العدد الكبير منها -ترليونات القطع الصغيرة- يؤثر أيضًا على الكواكب. بسبب هذا التأثير المتبادل، تراجع كلّ من زحل، أورانوس ونبتون بعيدًا عن الشمس، بينما اقترب المشتري منها أكثر.

بابتعاد نبتون عن الشمس، زاد تأثيره على قطع الجليد المتناثرة، وأدى لخروجها إلى مدارات جديدة غريبة، فظهرت مدارتها المختلفة عن مستوى مدارات الكواكب، والتي -مدارات الأجسام الجليدية- تنحني عند مرورها بجنب الكواكب. ونتيجة تلك التجاذبات والتنافرات التي حصلت، قامت ثلاثة أماكن باحتضان تلك الأجسام الجليديّة، أولها قرصّي الشكل- أو كالدونات doughnut- ويقع في مستوى مماثل لمستوى مدارات الكواكب. في تلك الحاضنة تواجدت الأجسام الجليديّة بمدارات مستقرة، غير مـتأثرةٍ بنبتون، هذا القرص هو ما سميّناه حزام كايبر Kuiper Belt ، وذلك نسبةً لـجيرارد كايبر Gerard Kuiper، العالم الهولنديّ الذي كان أول من اقترح وجود هذه المناطق في نظامنا الشمسي. يقع الحزام خارج مدار نبتون، على بعد 4.5 إلى 7.5 مليار كيلومتر عن الشمس.

الملجأ الثاني لهذه الأجسام كان القرص المبعثر Scattered Disk والذي احتوى الكرات الجليديّة التي أبعدها نبتون إلى مدارات منحنية وغريبة. يشترك القرص مع حزام كايبر في حافته الداخليّة، لكنّه يمتد بعيدًا لمسافة 150 مليار كيلومترٍ بعيدًا عن الشمس، أي ما يقارب 25 ضعف المسافة بين نبتون والشمس.

سحابة أورط وحزام كايبر

وأخيرًا، الملجأ الثالث هو السحابة الكرويّة التي تبعد 300 مليار كيلومترٍ عن الشمس، سحابة أورط Oort Cloud. هناك تقطن المذنبات طويلة الدورة، حيث تسافر تلك المسافة البعيدة كلها، ثم تدور حول الشمس لتدخل في مدارها مرةً أخرى، وغالبًا ما يكون هذا المدار بشكل قطع مكافئ.


المذنبات

تنشأ المذنبات من نقطتين في نظامنا الشمسي، حيث تبدأ في سحابة أورط ثم تصبح مذنبات عندما تدفع النجوم المارة بقربها أو قوى الجاذبية لدرب التبانة بعض هذه المذنبات خارج مداراتها، محولةً إيّاها إلى المدار الطويل الذي يأخذها إلى داخل النظام الشمسي ثم إلى خارجه مرةً أخرى.

تتم المذنبات قصيرة الدورة الرحلة في مدارها خلال مئتي عام، لكن أختها طويلة الدورة تستغرق آلاف السنوات، وبينما يُعتقد أن المذنبات قصيرة المدى ظهرت من حزام كايبر أو القرص المبعثر، فإن الطويلة الدورة تنشأ في سحابة أورط، لكن لا بدّ من بعض الاستثناءات.

على سبيل المثال، هناك مجموعتان رئيسيتان تمثلان المذنبات قصيرة الدورة، مذنبات عائلة المشتري ومذنبات عائلة هالي، ويمثلها مذنب هالي نفسه. ورغم أنّ الأخيرة قصيرة الدورة، إلا أنّ منشأها هو سحابة أورط أيضًا، حيث يُقترح أن شكل مدارها الحالي يوحي بأنّها كانت مذنبات طويلة المدى من قبل، لكن مسارها تغيّر بفعل الجاذبيّة واندفعت إلى النظام الشمسي الداخليّ.

(مذنب هال-بوب)

عندما مرّ المذنب هايكوتاكي Hyakutake Comet على بعد 15 مليون كيلومترًا من الأرض في عام 1996، كان في الحقيقة يكمل رحلةً استمرت سبع عشرة آلاف سنة من أقاصي سحابة أورط. كذلك المذنب هال-بوب Hale-Bopp الذي يعتبر مذنبًا طويل المدى أيضًا، حيث كان مرئيًا من الأرض لمدة عام ونصف، وكان على بعد 197 مليون كيلومتر من الأرض. فكلا الجسمين القادمين من سحابة أورط تعرّض لتغيّر في مداره بسبب العبور خلال مجموعتنا الشمسيّة.

نحن لا نعرف فعلًا الكثير من المعلومات حول أجسام السحابة، لكن هناك جسمان مثيران للاهتمام، أولهما سدنا Sedna -الكوكب الصغير minor planet- الذي يبلغ ثلاثة أرباع حجم بلوتو ويبعد عن الشمس 140 مليار كيلومتر، ويحتاج 11,400 سنة ليتم دورته حول الشمس.

(مدار سدنا مقارنة بمدارات كواكب مجموعتنا الشمسية)

الثاني هو VP113 والذي يبعد حوالي نصف مسافة سدنا. ولكلا الجسمين مدار إهليلجي، ولكن لا أحد منهما يقترب من نبتون. فقد يكونان فعلًا جزءًا من سحابة أورط وتمّ التأثير عليهما بنجم مارٍ قرب السحابة، ثم بدأ سقوطهما الطويل نحو الشمس، لا أحد يعرف الحقيقة حتى الآن.


استكشاف السحابة

(مدار سدنا مقارنة بمدارات كواكب مجموعتنا الشمسية)

بقيت السحابة منطقةً مجهولةً بالنسبة لنا، ذلك بسبب المسافة البعيدة التي تفصلنا عنها، فحتى مسبار Voyager1 -أسرع وأبعد مسبار فضائيّ حتى الآن في النظام الشمسي- لم يصل إليها حتى الآن، وربما -إذا استمر بنفس السرعة الحاليّة- سيصل إليها خلال 300 سنة وسيحتاج لحوالي ثلاثين ألف سنة للعبور منها. لكن وللأسف، فبحلول 2025، ستكون المولدات الحراريّة للمسبار قد ماتت، ولا تستطيع توفير الطاقة لأدوات التجارب العلميّة.

وحتى المسبارات الأربعة الأخرى: Voyager 2 – Pioneer 10,11 – New Horizons ستكون غير فعالة عند وصولها مدار السحابة.

(فوياجر 1)

بسبب المسافة البعيدة، فإنّ استكشاف سحابة أورط صعب جدًا، فعند الوصول إليها، والذي يستغرق قرونًا، سيكون الفريق الذي عمل على إرسالها قد فارق الحياة أصلًا، وربما في ذلك الوقت تكون البشرية قد استطاعت أن ترسل مركبّة مأهولة برواد الفضاء ليقطعوا تلك الرحلة بأدواتهم وتقنياتهم الجديدة. ومع ذلك، ما زلنا نأمل بمعرفة الكثير وإجراء الدراسات عن طريق دراسة المذنبات التي تخرج من تلك المنطقة البعيدة، المجهولة المظلمة كليًّا بالنسبة لنا!

المراجع
  1. Oort cloud
  2. WHAT IS THE OORT CLOUD?
  3. Oort Cloud: The Outer Solar System's Icy Shell