في كتابه «الشعرية العربية» يخصص الشاعر السوري «علي أحمد سعيد إسبر» الشهير باسم «أدونيس» فصلًا عن العلاقة بين الشعر والشفوية عند العرب في الجاهلية، ويشير إلى أن الشفوية هي الأصل الشعري العربي في الجاهلية، فقد نشأ الشعر ضمن ثقافة صوتية سماعية، فلم يصل إلينا محفوظًا في نصوص أو كتاب جاهلي؛ بل مدونًا في الذاكرة عبر الرواية الشفوية.


الشعر ينقُل الكلام .. وأشياءً أخرى

عبر تلك الملاحظة، يمكننا أن ندلل على مركزية الصوت في الحضارة العربية. كما أن تعقد العلاقة بين الصوت والكلام يبرز في الشعر، فهو ينقل الكلام جنبًا إلى جنب مع الأشياء الأخرى التي قد يعجز الكلام عن نقلها، فثمة عُمق في العلاقة بين الشاعر وصوته، فيتجاوز بالسمع حدود الجسد إلى فضاء الروح، ليعكس عمق العلاقة بين فردية الذات التي يتعذر الكشف عن أعماقها، وحضور الصوت الذي يتعذر تحديده. وقد صف أدونيس هذه الحالة بأنها «الحياة في شكل لغوي».مَيز «أدونيس» الشعر الجاهلي بعدة خصائص، منها أنه يُنشد وميزانه الغناء، حتى من أهم كتب الأدب العربي كتاب الأغاني للأصفهاني، واستشهد أدونيس في هذه النقطة ببيت شعري لحسان بن ثابت:ولأن الشعر العربي قائم على الشفاهة ومركزية السمع، كان عليه أن يحمل موسيقى مولدة من الكلمات، وهي الأوزان والقوافي. ويؤكد الجاحظ على أهمية سلاسة التعبير واختيار الألفاظ الموزونة بقوله:

وكذلك حروف الكلام وأجزاء الشعر من البيت تراها متفقة ملساء، ولينة المعاطف سهلة، ورطبة ومواتية سلسة النظام خفيفة على اللسان، حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد

ومع اختلاط العرب مع غيرهم من المولدين من الفرس والروم وغيرهما، وظهور اللحن، بدأ التخوف من ذهاب قواعد اللغة، فظهرت أعمال تدوين قواعد اللغة مع الخليل بن أحمد وأبي الأسود الدؤلي، فتحولت اللغة وقواعدها والشعر ومنظومته تدريجيًا من مرحلة مركزية الشفاهة إلى التدوين ومركزية النص المكتوب.وأكد أدونيس أن التعامل مع الشعر الجاهلي دون افتراض أنه شفوي بالأساس ولد أزمة النقد الحالي للشعر الجاهلي. فالأزمة تكمن في الخطاب النقدي الذي أوّل الشعر، ونظر إليه وفق خصائص محددة، ليفصل بين ما هو شعر وما هو لا شعر. فالشفوية نطق والكتابة رسم، ومع ذلك نُظر إلى الكتابة بالمعيار نفسه الذي نُظر به إلى الشفوية، فالخطاب النقدي الذي قدم الشعر الجاهلي هو نفسه الذي يحجبه عنا. فمثلا أعمال «الخليل بن أحمد» تمت قراتها قراءة قومية مؤدلجة، وحُصر القول الشعري في قواعد نظمية معينة بدلاً من أن يظل حرًا يتحرك بالفعالية الإبداعية.


«أنا الشاعر»، و«نحن الجماعة»

تغن في كل شعر أنت قائله ** إن الغناء لهذا الشعر مضمار

بعيدًا عن مناقشة كل أفكار فصول الكتاب، وطرح قضايا مثل لماذا كانت الشفوية التي يرى أدونيس أنها أساس الشعر الجاهلي، هي ذاتها التي دفعت البعض – كطه حسين – للتشكيك في صحة الشعر الجاهلي، وجعلها دليل على انتحاله؟ وانبرى كثيرون للرد على طه حسين مثل محمود شاكر في قضية الشعر الجاهلي للرد عليه وعلى ابن سلام.ولن نخوض في مناقشة رحلة انتقال الشعر الجاهلي من الشفاهية للتدوين وتأثيره على جماليته. ولكن ثمة نقطة رئيسية يؤكدها أدونيس في هذا الفصل هي؛ أن الشعر الجاهلي قائم على «جماعية التعبير»، ففرادة الشاعر ليس فيما يعبر عنه، ولكن في طريقة تعبيره، فأساس الشعر الجاهلي وحدة المقول وتعدد القول. فالشاعر لا ينفك عن الجماعة، أي أن الشاعر لا يقول نفسه إلا عبر قولة الجماعة. والنظرة إلى الصناعة الشعرية منذ نشأته هي نظرة ترى القصيدة بوصفها نداء واستجابة، أو جدل دعوة متبادلة بين «أنا الشاعر» و«نحن الجماعة». والشاعر كالمستمع للقصيدة لا ينفك عن الحياة، بل يأخذ من وعاء اللغة ليعبر عن المعنى الذي يغلف حياته مع الجماعة، وعبقريته في كيفية التعبير.افتراض أدونيس أن جمالية الشعر الجاهلي لا ترتكز على فردية الشاعر بل بقدرة الشعر على التماهي مع الجماعة، والتعبير عن معانيهم بصور جديدة، يجعله يختلف في نظرته للشعر خاصة والأدب عامة عن غيره. وهذا ربما لأن الشعر وجماليته تختلف عن أي نوع آخر من الفنون، فهو الأكثر التصاقًا باللغة، واللغة هي الرابط بين الجماعات، فلا جماعة دون لغة. ولذا من خصوصية مادة الشعر وهي اللغة، جاء الشعر ليعبر عن جمالية الجماعة لا فرادة الشاعر. ولكن هذا عكس ما افترضه «هايدجر» مثلا في دراسته لشعر «هولدرين»، الذي يراه هايدجر مبدع الكلام الشعري، ويمتلك القدرة والسلطة على تسمية الآلهة وماهية جميع الأشياء. فيكون الشعر – وفقًا لهايدجر – تأسيسًا للكائن بالكلام. وهذا عكس ما نفهم من أدونيس؛ فالكائن موجود بالفعل، والشعر هو استخراج لصوته المنطوق وغير المنطوق وليس تأسيسًا لكينونته. وهذا يجعلنا نفترض متسائلين، فلعل هذا الاختلاف بين مقولة هايدجر وافتراض أدونيس هو خصوصية اللغة العربية وتمايزها واختلافها عن اللغة الألمانية، فخلقت اللغة ذاتها هذا الفارق في الرؤية بينهما،ولعله أيضاً هذا الاختلاف مجرد اختلاف في التصورات الفكرية والرؤى الفلسفية لكل من «أدونيس»، و«هايدجر» فقط.