إذا نحينا الأموال جانبًا، فيمكننا القول إن وضعية «باريس» و«أرسنال» في البطولة الأوروبية متشابهة إلى حد بعيد، ويمكن تلخيصها بسهولة في معادلة النتائج التي لم ترضِ طموح الجماهير.

التشابه يمتد لسجل المدربين المتطابق في البطولة المحلية بانتصارين وهزيمة وتعادل لكل منهما، بالطبع يُعد ذلك مبررًا إلى حد بعيد للإسباني كونه بصدد بدء مرحلة جديدة بطريقة لعب مختلفة أثارت كمًا لا بأس به من التململ بين صفوف الباريسيين، بينما تعيّن على «فينجر» أن تكون بدايته أكثر ثباتًا كونه يدخل عامه الحادي والعشرين مع النادي بعد صيف لا بأس به مقارنة بالفشل المعتاد في الميركاتو، لكن بطريقة ما انتهت المباراة بتعادل مستحق للفريقين رغم تفوق «إيمري» الواضح على مستوى الأداء.

بطاقة المباراة – نقلًا عن www.Squaqka.com

أضواء العاصمة

لم يعد سرًا أن عددًا من نجوم الفريق لم يقتنع بالتعاقد مع «إيمري»، بل وذهب بعضهم لانتقاد طريقة اللعب علنًا أو إبداء تذمره من قلة المشاركة كـ«مونيير» الظهير البلجيكي، بالإضافة لعدة أزمات إضافية مصطنعة تكفل بها رئيس النادي عندما تخلص من «لويز» دون ضم بديل، وسعى بلا أي سبب مفهوم لبيع «ماتويدي» أحد أهم نجوم الوسط وأكثرهم اخلاصًا، ناهيك عن «تياجو موتّا» الذي شوهد يركض لآخر مرة في 2011، ويظن أنه يجب أن يبدأ أساسيًا فقط لأنه هو، أضف لما سبق غياب «زلاتان» وستدرك أن مهمة «إيمري» صعبة بالفعل.

هذا ما يحدث عادة عندما يتقاضى المدرب أقل راتب بين لاعبيه. ولأن منظومة «باريس» أنشئت على فكرة واحدة هي استبدال المجد والتنافسية وأحيانًا كرة القدم نفسها بالمال، فمن المنطقي أن يسبب ذلك حرجًا لـ«إيمري» ويشعر لاعبيه بأن النادي لم يحترمه بما فيه الكفاية وبالتالي لا سبب لكي لا يفعلوا المثل، «موتّا» نفسه متأكد أنه لم يأتِ لـ«باريس» من أجل الألقاب لذا يبدو «إيمري» غير مفهوم له.


كراسٍ موسيقية

لحسن حظ «إيمري» أن الصورة ليست بهذه القتامة؛ لأن تسوق «باريس» المجنون في الأعوام الماضية أظهر فائدته أخيرًا، والفريق يضم عددًا من اللاعبين الممتازين المتحمسين لإثبات وجودهم بعد سنوات قضوا أغلبها على دكة البدلاء كـ«رابيو» و«مورا» و«ماركينيوس»، أو فترات صعبة مروا بها في الموسم المنصرم كغياب «فيراتي» و«باستوري» للإصابة أو أزمات «أورييه» المتكررة خارج الملعب ووضع «كافاني» البائس على الجناح، كل هؤلاء لا يملكون إلا الانصياع للإسباني والسعي لحجز مكان أساسي في تشكيلته الدائمة لأن أي خيار آخر سيعني ضربة قاصمة لمسيرتهم. تكتمل الصورة بالوافدين الجدد «كريخوفياك» و«بن عرفة» و«أريولا» وعدد من الشباب الواعد أبرزهم «كيمبيمبي» و«أوجستين».

ورغم كل الأزمات والضربتين الموجعتين أمام «موناكو» و«سانت إتيان»، فإن بداية «إيمري» مثيرة فعلًا، ومباراة «أرسنال» حملت مؤشرًا على أن القادم أفضل لـ«باريس» وكل ما ينقص الفريق هو مزيد من الوقت والاستقرار على العاصمة أن تمتلك الصبر اللازم لتوفيره؛ لأن عقلية «إيمري» وإمكانيات «باريس» قد تمنح «ناصر الخليفي» ما يحلم به إن تحلى بالحكمة الكافية؛ «برسا» جديد.

تقييم اللاعبين طبقًا لموقع www.whoscored.com

فمن ضمن عدد من أبرز المدربين الذين أفرزتهم السنوات الخمس الماضية على الساحة، يظل «إيمري» مع «كونتي» و«بوكيتينو» هم الأقدر على الاستمرار وتطوير مسيرتهم؛ لأنهم لم يكتفوا بالتركيز على تكتيك رد الفعل في بداياتهم رغم كونه مبررًا في أغلب الحالات، وسعوا لابتكار طرق لعب متزنة مستقرة تصلح لمواجهة الصغار والكبار على حد السواء؛ الأمر الذي يفتقده «بيليتش» و«سيميوني» بشدة، وحتى «كلوب» – أكثرهم خبرة – فشل في تطويره في إنجلترا بالشكل الكافي، والتذبذب المتطرف الذي يعاني منه الثنائي على مدار الموسم خير دليل على ذلك. اسخر من الاستحواذ كما شئت ولكن سيظل هو ما يمنحك الفوز في أغلب مباريات الموسم، وإن لم تدرك التحول التكتيكي الذي يفرضه الانتقال من الـ«أندردوجز» للكبار ستنتهي مسيرتك سريعًا قبل أن تبدأ ولن يتبقى لك من موسم طويل سوى عدة صور مضيئة على الحائط بلا كأس يتوّجها؛ لأن عجزك عن استغلال الاستحواذ لمصلحتك أمام خصوم أضعف سيجعلك أكبر من الكبار كلما منحتهم الكرة، وأصغر من الصغار كلما ألقوها في ملعبك.

لذا ليس من المرجح أن تستمر معاناة «إيمري» مع فريقه الجديد، الإسباني تخلى بالفعل عن 4-2-3-1 التي بدأ بها الموسم لمصلحة 4-3-3 التي يجيد لاعبوه تنفيذها، وبالطبع لم تبدُ أجواء الكبار غريبة عليه لأنه اعتاد مواجهتهم وكأنه واحد منهم؛ خط دفاع متقدم، ضغط عالٍ طيلة المباراة تقريبًا وتنويع في اللعب، لذا ظهر تمركز «باريس» مكافئًا لـ«أرسنال» بل وأكثر تنظيمًا وأفضل انتشارًا.

متوسط التمركز للاعبي الفريقين: أرسنال يمينًا وباريس يسارًا، انتشار شبه مثالي لإيمري مقابل خلل واضح في وسط أرسنال وعمق هجومه – المصدر: www.whoscored.com

مزيد من السيولة لا يضر

أمر آخر يميز الباسكي هو السيولة التامة بين الخطوط والخطط أثناء المباراة، ففي «إشبيلية» اعتمد «إيمري» على ثنائي محوري من «نزونزي» و«بانيجا» يبدو متجاورًا على الورق ولكن دوره الرئيسي هو منح الأندلسيين مزيدًا من المحطات العمودية بتأرجح الأول بين خطي الدفاع والوسط والثاني بين الوسط والهجوم ليقود الثنائي تغييرات الرسم التكتيكي في كل مرة يبدلون فيها مواقعهم. المثير في «باريس» أن «إيمري» صار يمتلك عددًا كبيرًا من الـ«بانيجا» والـ«نزونزي» بوجود ثلاثي أكفأ وأشمل كـ«ماتويدي»، «فيراتي» و«رابيو» يمكنه أداء كل أدوار الوسط من تغطية دفاعية وصناعة للعب ودعم للخط الأمامي وحتى اللعب على الخط، يقودهم من الخلف «كريخوفياك» الذي يبدو وكأنه خرج لتوه من أحد أفلام سوبرمان، ورغم أنه لم يكن في أفضل حالاته بالأمس إلا أن عروضه السابقة منحته لقب «الحطّاب» كما اختار الفرنسيون أن يسموه.

4-3-3 أم 4-4-2 أم 4-1-4-1؟، «إيمري» اعتمد في الوسط على تكنيك أشبه بلعبة الكرات الحديدية المتصادمة التي كثيرًا ما تراها على مكاتب المديرين؛ ثلاث كرات ثابتة بعرض المنتصف ينطلق منها «ماتويدي» للجناح ثم يعود ليدفعها في عملية ترحيل تسمح بصعود «أورييه» بدوره؛ لينطلق «دي ماريا» في القلب كصانع لعب وهمي أو جناح عكسي خلف «كافاني» الذي يندفع للأمام؛ تكتيك بسيط لكنه كان مرهقًا لدفاعات الـ«جانرز» خاصة في وجود عنصر دفاعي وحيد هو «كوكلين» تشتت بين مواجهة تحركات الأرجنتيني القطرية للعمق أو انتشال «مونريال» من طوفان «أورييه» على الطرف.

الخرائط الحرارية لثلاثي وسط باريس مقابل نظيره من أرسنال – المصدر: www.whoscored.com

بهذا حسم «إيمري» معركة الوسط قبل أن تبدأ بلاعب إضافي شبه دائم وبانتشار مثالي بعرض المنتصف من الثلاثي الرهيب، ينضم لهم جهد «ماتويدي» الوفير لحظة فقد الكرة سامحًا لـ«كريخوفياك» بالهبوط بين قلبي الدفاع لمزيد من التأمين أمام فريق بلا مهاجم صريح من الأصل، لذا لم يكن غريبًا أن تمر الـ 45 دقيقة الأولى على «فينجر» بلا تسديدة واحدة على المرمى.

تسديدات أرسنال (يمين) مقابل تسديدات باريس (يسار) – المصدر www.squawka.com

خطايا فينجر

لأن دوري الأبطال هو لعبة «فينجر» المفضلة، قرر الفرنسي تسهيل المهمة على خصمه بإشراك «كاثورلا» بدلًا من «جاكا»، ثم قرر أن المباراة ما زالت أسهل مما يجب فوضع الإسباني جهة «دي ماريا» أخطر لاعبي خصمه وقرر الاحتفاظ بـ«كوكلين» على الجهة المقابلة التي لم تشكل خطورة كبيرة طيلة اللقاء، ثم أدرك لاحقًا أن «كاثورلا» لن ينجح في إيقاف «دي ماريا» وحده فطلب من «كوسيلني» التحرك معه كظله صعودًا وهبوطًا تاركًا «موستافي» وحيدًا في مواجهة «كافاني».

تقريبًا هذا هو ما حدث في جملة الهدف الأول.
اللقطة الثانية بعد صناعة الثغرة.
الأفضلية العددية بدأت في التشكل.
أسرع هدف تلقاه أرسنال في تاريخه في البطولة.

لماذا لم يلعب «جاكا» رغم أنه أكثر خبرة من «كوكلين» نفسه وأنسب من «كاثورلا» لمركزه؟، بل لماذا لم يشترك «فينجر» بثلاثي قوي كـ«جاكا» و«كوكلين» و«النني»/«كاثورلا» لمواجهة نظيره في «باريس»؟، ألم يكن من الأفضل منح رقابة «دي ماريا» لأحد لاعبي الوسط بدلًا من تفريغ منطقة الجزاء من أهم مدافعيها؟؛ أسئلة لا يعلم أحد إجابتها وغالبًا ولا «فينجر» نفسه.

فلسفة «إيمري» لعبت لصالحه بينما هدم «فينجر» قضيته في بداية المباراة؛ لأن الخلل الواضح في التغطية بين نصف ملعبه ودفاعه كلفه أسرع هدف في تاريخه في البطولة، من ثم ذهبت مقامرة «سانشيز» في الهجوم أدراج الرياح لأنها اعتمدت بالأساس على الاحتفاظ بنظافة الشباك أملًا في استغلال سرعته في المرتدات، بالطبع فينجر لم يقرر معالجة ذلك إلا بعد مرور أكثر من ساعة.

هنا سيكون الكليشيه المعتاد عن تغييرات «فينجر» التي قلبت المباراة في شوطها الثاني منطقيًا، ولكن الواقع أن فرصة الهدف أتت من لقطة عبقرية معتادة من «أوزيل» الذي تحرر قليلًا بخروج «رابيو» وفقدان وسط «باريس» لقسط كبير من جهده الدفاعي بحلول الإيطالي الكسول مكانه، ولن تكون مبالغة إذا قلنا أن 99% ممن شاهدوا اللعبة لم يلاحظوا وجود «أيوبي» للوهلة الأولى بما فيهم ثنائي دفاع «باريس»، لذا من المنطقي أن يعود له فضل الهدف كاملًا.

كم لاعب في العالم يمكنه رؤية أيوبي في وضعية كتلك، ناهيك عن النجاح في التمرير له؟


إيمري x فينجر

كم لاعب في العالم يمكنه رؤية أيوبي في وضعية كتلك، ناهيك عن النجاح في التمرير له

الفرنسي ما زال حبيس دائرته المفرغة، التدعيم لم يكن على أكمل وجه بالطبع ولكنه كافٍ لحصر الانتقادات القادمة في جهة واحدة هي «أرسين فينجر» نفسه؛ لأن الحقيقة الوحيدة الواضحة هي أن «أرسنال» يزداد سوءًا عامًا تلو الآخر تحت قيادته، ورغم أن الكثيرين سيقولون نفس الشيء عن «باريس إيمري» لتدهور النتائج في الموسم الحالي إلا أن صحوة فريق العاصمة أمام الـ«جانرز» تعد بمستقبل مبهر مع نجم الأندلس، حتى وإن لم تكللها النتيجة تلك المرة، ولعل هذا هو السبب الرئيسي في نهاية المباراة بالتعادل؛ لأن الحالة الوحيدة التي يمكن أن يلتقي فيها متوازيان عند مستوى عرضي واحد هي أن يكون أحدهما خط «باريس» الصاعد مع «إيمري»، والآخر لـ«أرسنال» المنحدر مع «فينجر»، وفقط مباراة العودة قادرة على تأكيد ذلك أو نفيه.

المراجع
  1. موقع احصائي
  2. موقع احصائي