أنت لا تستطيع أن تأخذ من الأرض أبعد مما تصل إليه دانة مدفعك.
مترنيخ، المفاوض النمساوي مع فرنسا عقب هزيمة نابليون بونابرت

في العام 1982، كان الهجوم الإسرائيلي على لبنان متوقعًا، بل وربما منتظرًا، لكن القيادة الفلسطينية واللبنانية كان يغلب على حساباتها أن إسرائيل لن تتقدم أكثر من 40 كم إلى نهر الليطاني، وهي المسافة التي تضمن تعطيل إمكانات راجمات صواريخ منظمة التحرير الفلسطينية عن أن تطال شمال فلسطين المحتلة؛ أي أن الأمر لم يكن يعدو في نظر قطاع عريض من القيادة الفلسطينية واللبنانية الوطنية ما حدث في حرب 1978، رغم تحذيرات قوية كانت قد وصلت حتى من بيروت الشرقية معقل اليمين المسيحي المتحالف مع إسرائيل بأن الأهداف الإسرائيلية هذه المرة ستبلغ حدًا غير متوقع. بل إن بعض القوات الفلسطينية اتخذت قرارًا ارتجاليًا، أثار حنقًا شديدًا لدى عرفات في بيروت، بالانسحاب من الجنوب تجنبًا لمعركة لا طائل من ورائها.

أطلق شارون على اجتياحه للبنان عملية «سلام الجليل»، وكأنه أراد أن يوضح للقيادات العربية أن السلام لا تحققه المبادرات وإنما الحسم العسكري.

لكن أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، أخلف التوقعات عندما قرر ألا يتوقف الاجتياح الإسرائيلي إلا في بيروت فوق جثث قيادات منظمة التحرير. توغلت حوالي ألف دبابة إسرائيلية في لبنان، وما يقارب مائة ألف جندي إسرائيلي جرى تعبئتهم، في لبنان، وبدا الأمر وكأن شارون قد أعد لغزو العالم. لقد أرادت القيادة الإسرائلية أن تحقق من وراء هذه العملية «السلام للجليل»، المنطقة الشمالية من فلسطين المحتلة، والتي كانت مرمًى للصواريخ الفلسطينية وميدانًا للعمليات الفدائية. أطلق شارون بالفعل على اجتياحه للبنان عملية «سلام الجليل»، وكأنه أراد أن يوضح للقيادات العربية وقتها أن السلام لا تحققه المبادرات وإنما الحسم العسكري الذي لا يتوقف قبل تصفية قوة العدو.

قبل ذلك بعام واحد، كانت السعودية قد قدمت ما أسمته «مبادرة السلام العربية» في نيسان/أبريل 1981، والتي تضمنت دعوة لقيام دولة فلسطينية على حدود 67 مقابل تأكيد حق دول المنطقة في العيش بسلام. كانت السعودية قد أرادت أن تضطلع بدرو الذيل الأمريكي في المنطقة، أو بلغة مهذبة: عرّاب مشروع «الشرق الأوسط الجديد»؛ ذلك التعبير الذي كان قد ظهر وقتها في تصريحات ألكسندر هيج، وزير الخارجية الأمريكية آنذاك. لكن رفض بعض الدول في ذلك الوقت، وعلى رأسها سوريا والعراق، إضافة إلى منظمة التحرير والقوى اللبنانية الوطنية الموالية لها، أجبر السعودية على سحب مشروعها بعد أشهر في قمة فاس الأولى تشرين الثاني/نوفمبر 1981.

كان مشهد قمة فاس 1982 كفيلًا بالإفصاح عن معنى «مبادرة سلام عربية»؛ إنها إعلان استسلام يقوم الذيل الأمريكي بجمع التوقيعات عليه بعد إذلال القوى المناوئة.

لم يمضِ سوى عام واحد، قبل أن تعيد السعودية طرح مشروعها في قمة فاس أيلول/سبتمبر 1982، بعد أن تم تصفية الوجود الفلسطيني في لبنان بشهر واحد، ليحظى بموافقة إجماعية من الدول العربية آنذاك، في غياب ليبيا ومصر. كان مشهد تلك القمة كفيلًا بالإفصاح عن معنى «مبادرة سلام عربية»؛ إنها إعلان استسلام يقوم الذيل الأمريكي بجمع التوقيعات عليه بعد إذلال القوى المناوئة وتأديبها وسلب إرادة الآخرين عبر أموال النفط. ظلت السعودية بعد ذلك تعيد طرح مشروعها مع كل انتفاضة فلسطينية، كما حدث عام 2002 في قمة بيروت، على خلفية اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

لم يكن عرفات في الحقيقة رافضًا للتسوية السلمية. بل إن منظمة التحرير كانت قد ألمحت إلى ذلك في برنامجها المرحلي الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة، عام 1974، وعرف بـ «برنامج النقاط العشر»، حين أعلنت نضالها في سبيل إقامة سلطة وطنية على أي جزء يتحرر من أرض فلسطين؛ الأمر الذي رفضه اليسار الفلسطيني (باستثناء الجبهة الديمقراطية) مشكّلا ما تمت تسميته «جبهة الرفض». إلا أن عرفات كان يمتلك شيئًا من الوعي بأن التسوية السلمية غير ممكنة إلا بعد أن تسبب المنظمة الإزعاج اللازم لإسرائيل، والذي يجبرها على القبول بسلطة فلسطينية مستقلة. ولعل ذلك هو ما دفع عرفات للصمود التاريخي في بيروت، تحت حصار وقصف وحشي قل نظيره في التاريخ، سوى في حصار غزة.

لقد كان العرب يؤمِّلون بأن تصفية القضية الفلسطينية وفك الارتباط بين أقطارهم وبينها، سوف يخلِّص دولهم من أعباء حرب يظنون ألا ناقة لهم فيها ولا جمل، فالسلام هو أول طريق التنمية كما وعدهم قادتهم. واندفع مثقفو الليبرالية الجديدة ليؤكدوا فشل الكفاح المسلح، وحتمية الحل السلمي، وتساءل أحدهم أثناء معركة غزة الأخيرة 2014، مصطنعًا الاندهاش: هل سنظل «نفقأ أعين» بعضنا البعض طول العمر؟ مستنكرًا استدعاء قصيدة الراحل أمل دنقل «لا تصالح».

السلام الذي أدرك شارون أنه لا يمكن أن تدفئه سوى نار الحرب، يظن الرئيس المصري أن ستدفئه إذاعة الخطابات في التلفزيون الإسرائيلي.

تأتي اليوم زيارة سامح شكري، وزير الخارجية المصري، لإسرائيل، بحثًا عما أسماه الرئيس المصري «سلامًا دافئًا»، لتؤكد أن العرب لم يتعلَّموا الدرس. فالأنظمة المستبدة لم تزد بعد التطبيع إلا استبدادًا، ولم تعد تفقأ سوى أعيننا نحن، والاقتصاد الذي كانت تأكله الحرب، صار يأكله الفساد والخيانة. والسلام الذي أدرك شارون أنه لا يمكن أن تدفئه سوى نار الحرب، يظن الرئيس المصري أن ستدفئه إذاعة الخطابات في التلفزيون الإسرائيلي؛ الأخطر أن هذا «هو ما تعلّمه» في عمره بحسب خطابه الأخير، وهو الذي كان قائدًا في الجيش المصري!

أربعون عامًا مرت ولم يزل دعاة السلام العرب لم يعوا درس أن كل سلام لا يحميه المدفع هو خطاب استسلام؛ بل وخطاب استسلام غير مقبول. ربما هو سلام فعلا، لكنه سلام لتل أبيب فحسب. أما من يتعمد ألا يعي الدرس، فلم يدع لحسن الظن مجالًا. وها هي الأعوام تمر ولا تزيدنا إلا يقينًا بأن الديمقراطية وتحمل المسئولية الوطنية ضد العدو صنوان لا يفترقان، وأن العرب لم يجدوا من وراء أنظمة الاستسلام سوى ما وجدوه من الأنظمة التي جعلت من الممانعة سبيلا لقمع شعوبها. ولم يزل صوت أمل دنقل حيًّا: «لا تصالح».