ينتمي مسلسل «Penny Dreadful» -الذي أنتجته شبكة «Showtime» وعرض الموسم الأول منه للمرة الأولى عام 2014- إلى دراما الرعب والإثارة. جرائم اختفاء وقتل موسومة بالغرابة والغموض تقع في فضاء مدينة الضباب الأزلي، لندن مطلع القرن التاسع عشر. على خلفية هذه الأحداث المرعبة يحاول السير «مالكولم/تيموثي دالتون» استعادة ابنته المخطوفة بواسطة كائنات غريبة بمساعدة شخصيات أخرى مثل «فانيسا آيفز/ايفا جرين» بطلة العرض الرئيسية والتي تبدو هي الأخرى تحت رحمة قوى شيطانية تسعى في أثر جسدها المغوي.

في فريق البحث أيضًا يوجد فتى أمريكي «ايثان/جوش هارتنت» جاء إلى لندن من الغرب الأمريكي تحمل روحة عذابات تاريخ مظلم يتكشف لنا شيئًا فشيئًا مع سير الأحداث، وطبيب كرس حياته لاكتشاف سر الموت محاولًا أن ينفخ الحياة في جثث الموتى. كل شخصية تحمل لعنتها وتبحث عن خلاصها.

عنوان العمل يشير كما يخبرنا كاتب النص «جون لوجان» إلى منشورات دورية كانت تصدر أسبوعيًا في لندن إبان الحقبة الفيكتورية (تمامًا مثلما تصدر حلقة من المسلسل كل أسبوع) حيث كانت هذه المنشورات تعنى بحكايات الرعب والأشباح التي سادت هذه الفترة، والتي كان سكان لندن يهرعون إلى محلات بيع الجرائد لشرائها فور صدورها. ربما يشير هذا التعلق الجماهيري بحكايات الرعب – والمستمر حتى الآن – إلى أن هذه الحكايات تخاطب شيئًا ما عميقًا داخل ذواتنا، توقظ مخاوفنا النائمة وتمنحنا مزيجًا من المتعة والتطهر.


قراءة نفسية لدراما الرعب

في الفيلم الوثائقي «دليل المنحرف إلى السينما The Pervert’s Guide To Cinema» والذي يقدم خلاله الفيلسوف «سلافوي جيجيك» تفكيكًا ذكيًا وبارعًا لفن السينما. يرى «جيجيك» أنه من أجل قراءة دراما الرعب ينبغي علينا أولًا أن نجردها من كل عناصر الرعب. فجميع المسوخ وكائنات الرعب هي إسقاط لمخاوفنا الداخلية. وأن المعنى الكامن خلف الكابوس يسكن في أغوار الشخصيات وليس في تجسيد الحدث المرعب.

في «Penny Dreadful» يحول جون لوغان لندن إلى مسرح للرعب خالقًا كولاجا من شخصيات رعب أيقونية بلمسات خاصة مثل دراكيولا، دوريان جراي، ووحوش فرانكشتاين وشخصيات أخرى من خياله الخاص مثل «فانيسا آيفز» والتي تمثل دليلنا في هذه الرحلة إلى أعماق الجحيم. بالسير على خطى «جيجيك»، هذا العالم الكابوسي هو تجسيد لمخاوفنا المجردة، فالزيارات الليلية لمصاصي الدماء، والتناسخات المستحثة علميًا، وتشوهات الأجساد، وجرائم القتل في الضباب هي الصور البصرية لفزعنا.

سنحاول خلال ما تبقى من مساحة المقال تنحية عناصر الرعب جانبًا وسبر أغوار الشخصيات من أجل الوصول لمنطق ما خلف هذا الكابوس.


«فانيسا آيفز»: شياطين الرغبة

ليست مشكلتنا إن كانت رغباتنا مشبعة أم لا. المشكلة هي أن نعرف ما هي رغباتنا بالضبط.

هكذا يفتتح جيجيك فيلمه المشار له سابقًا. إذا تمكنا من تحديد ماهية رغبة فانسيا بإمكاننا إذن أن نعرف مكمن الداء. بداية التحول في شخصية فانسيا مرتبط باكتشافها لعالم الرغبة الجنسية فهي مصادفة تتلصص على لقاء جنسي بين أمها والسير «مالكولم»، ونراها تستمتع بما شاهدته، وباكتشافها لذة هذا التلصص رغم تربيتها الطهرانية ورغم مشاعر الذنب تجاه خيانة الأم.

التحول الثاني، والأكبر أثرًا هو خطبة «مينا» ابنة السير «مالكولم» وصديقة طفولتها واقتراب زفافها والذي على إثره ينتباب فاينسا غضب عارم تجاه مينا. تحسدها لأنها صارت أقرب منها إلى اكتشاف عالم الرغبة الجنسية وملذاته الموعودة، وفشلها هي الأكثر فتنة وغواية في اكتشاف هذه اللذات مع «بيتر» الاخ الأكبر لمينا، والمهووس بوالده ومغامراته في قارة أفريقيا. في الليلة التي تسبق زفاف مينا تواقع «فانيسا» الزوج المنتظر، ومع اكتشاف «مينا» لذلك والدمار الذي صاحب تعبيرها الكامل عن رغبتها الجنسية، تبدأ الشياطين في مهاجمة «فانيسا».

هذه الشياطين ليست إﻻ شياطين رغبتها الجنسية المرتبطة أوﻻً بالشر وفقًا لإيمانها الديني، وثانيًا، بمشاعر الذنب وفقًا لتاريخها الجنسي. فاكتشافها للرغبة كان مقترنًا بخيانة الأم، وتعبيرها عن هذه الرغبة كان مقترنًا أيضًا بخيانتها لصديقتها الأقرب. يمكن أن نكتب ذلك بمصطلحات «فرويدية» فنوبات الهستيريا التي تصيبها هي تجسيد للصراع داخلها بين «الهو/عالم الرغبات المكبوتة وما هو مظلم داخل النفس»، وبين «الأنا الأعلى/الذي يمثل الإيمان، أو الضمير، أو قانون الأب»


مسخ «فرانكنستاين» وعالم العزلة الرومانسية

أنا ولكن من أنا؟ أنا موجود لكن لا أحد يهتم لأمري.
يهجرني أصدقائي مثل ذكرى منسية.
أنا وحدي أحتوي كل ويلاتي، وهي تلمع وتختفي في ضيافة النسيان،
مثل الظلال في سكرات الحب المكتومة.
أحيا مثل أبخرة تقذف في خواء الازدراء والضجيج.
في البحر الحي لأحلام يقظتي
حيث لا معنى ولا حياة ولا فرح،
لا شيء إلا الحطام الفخم لسفينة حياتي.
إني أتوق إلى أمكنة لم يسلك طريقها أحد
حيث لم تبتسم امرأة من قبل أو تنتحب
هناك أمكث مع خالقي وأنام مثل طفل لا أحد يزعجني،
تحتي العشب وفوقي السماء المحدبة.
الشاعر الإنجليزي «جون كلير»

نص «جون لوغان» مكتوب بنفس شعري مرصع باقتباسات لشعراء رومانسيين. يمكننا اعتبار «Penny Dreadful» قصيدة عن المنبوذين والوحيدين. كل شخصية من شخصيات العمل ترزح تحت وطأة لعنة ما. كان البطل في الأزمنة القديمة يرزح تحت وطأة القدر، أما البطل الحديث يستبدل القدر بالسيكولوجي، فلعنة البطل الحديث متجذرة في شخصيته المفردة والتي تجعله يعيش في عزلة ووحدة مريرتين.

التجلي الأكبر لهذا النبذ والوحدة متجسد في شخصية المسخ الفرانكنشتيني الذي يمنحه النص اسم الشاعر الإنجليزي الرومانتيكي «جون كلير» الذي افتتحنا بإحدى قصائدة هذه الفقرة، والتي تعكس معاناته الدائمة من الوحدة وفقدان الحب وحنينه إلى عالم مثالي ضائع. ربما تكشف هذه الإشارة الذكية من لوغان إلى أن أدب الرعب والفنون المعتمدة عليه كانت امتدادًا طبيعيًا للأدب الرومانتيكي للقرن التاسع عشر.

أين يكمن جرحه إذن؟ جون كلير بملامحه المشوهة يعجز في التواصل مع الآخرين رغم ثقل الوحدة ورغبته العميقة في الحب. جسد مشوه تتلبسه روح شاعر نبيل مفتون بالطبيعة والحب. ألسنا جميعًا نسعى لما يسعى هو إليه؟ شخص ما يتقبلنا ويمنحنا محبته برغم ما نحن عليه من تشوه، أو ما يعترينا من ظلام. هذا المسخ هو أكثر الكائنات فزعًا وليس أكثرها إفزاعًا.

ما يمنح عمل «لوجان» قيمته هو المقاربة الواقعية لعناصر الرعب ومحاولته استحضار روح المكان والزمن – لندن مطلع القرن التاسع عشر – وكذلك تركيزه على دواخل الشخصيات دون اللهاث وراء الرعب المجاني وهو ما منح هذا العمل العمل عمقه وجماله الخاص.