إذا كان اكتشاف الشر في النفس البشرية قد قادني بعيدًا عن الإيمان، فإن اكتشاف الخير فيها قد عاد بي إلى عالم الإنسانية والإيمان. هكذا، فبدلًا من الوصول إلى الإنسان من خلال الله، وصلتُ إلى الله من خلال الإنسان.
عبد الوهاب المسيري

الإنسان هو النقطة التي ينطلق منها المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري دائمًا، وهو النقطة التي يعود إليها. وفي هذا الكتاب دراسة شاملة ووافية لفلسفة تفكيك الإنسان عبر الحضارة المادية التي سيطرت على العالم، ولم تستثنِي أحدًا حتى الغربي الذي من المنطقي أن تخدمه، ويرجع ذلك، حسب مفكرنا الراحل، إلى أنها حضارة عدمية لم تتبنّى يومًا إلا آلية السوق والمصنع، ولم يكن في وسعها إلا تجاوزه كي تحقق مصالحها.

يمكننا تصنيف كتاب المسيري بأنه محاولة في تعريف الفلسفة المادية وسر جاذبيتها وكشف مواطن قصورها، وتحليل النماذج الكامنة في هذا النموذج المادي من خلال دراسة أهم القضايا المنهجية والطروحات المعرفية النقدية.

ورغم أن الفلسفة المادية تشكل البنية الفكرية التحتية أو النموذج المعرفي الكامن للعديد من الفلسفات الحديثة: الماركسية والبرجماتية والداروينية، كما أنها تشكل الإطار المرجعي الكامن لرؤيتنا للتاريخ والتقدم وللعلاقات الدولية. وقد ارتبطت الفلسفة المادية في عقول الكثيرين بالعقلانية والتقدم والتسامح، وقد هيمنت هذه الفلسفة على النخب الثقافية والفكرية لزمن ليس بقصير، إلا أن المسيري يكشف لنا في النهاية إخفاق النموذج المعرفي المادي في تفسير ظاهرة الإنسان، وعجزه عن إدراك الواقع في أبعاده المتعددة والمركبة والمعقدة.

وهو بذلك يوضح أن الإنسان الذي يتكون من ثنائية المادة والروح، ويتنازع بداخله الخير مع الشر، لا يمكن أن تفسره قوانين العلم المادي التي تفسر الظاهرة الطبيعية، بل لابد له من مصدر إلهي يستقي منه المعتقدات والأخلاق والتفسيرات المعنوية لكل ما يعجز عنه العلم، كالغاية من الوجود ومصير العباد بعد الموت، وإلا فإنه سينكر حقيقته الإنسانية ويختزل نفسه في شكل معادلة فيزيائية خالية من الروح.


الفلسفة المادية في مفهوم المسيري

يُعرف المسيري الفلسفة المادية على أنها المذهب الفلسفي الذي يقبل المادة فقط باعتبارها الشرط الوحيد لحياة الإنسان، ومن ثم فهي ترفض الإله بوصفه شرطًا من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان نفسه إن كان متجاوزًا للنظام الطبيعي/ المادي، والإنسان جزء من هذه المنظومة، يسير طبقًا لقوانين الطبيعة.

ولذا فالفلسفة المادية ترد كل شيء في العالم «الإنسان والطبيعة» إلى مبدأ مادي واحد؛ هو القوة التي لا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب، ولكنه فوق الإنسان أيضًا، وإن دخل عنصر آخر مادي على هذا المبدأ الواحد، فإن الفلسفة تصبح غير مادية.

يفتح المسيري باب الاجتهاد بخصوص «الفلسفة المادية»، مؤكدًا في دراساته على أن أي نموذج فكري، مهما بلغ من مثالية أو غيبية، لابد أن يتبنى نموذجًا تفسيرًا ماديًا حين يتعامل مع بعض الظواهر، فالواقع مركب والعناصر المادية مكون أساسي فيه.

وقد حققت المادية نجاحاتها في العصر الحديث لأن النموذج المادي لديه مقدرة تفسيرية هائلة إن نظرنا إلى الجانب المادي في حياة الإنسان، ولكننا لو وضعناه في مقارنة مع الجوانب غير المادية الأخلاقية والجمالية والروحية، فإن مقدرته التفسيرية تضعف وتكاد تنعدم.

إذن فمشكلة «الفلسفة المادية» في نظر المسيري، هي أنها لا تكتفي بتفسير بعض جوانب الواقع وإنما تصر على تفسير كل الواقع، بما في ذلك الإنسان في كل جوانب وجوده، من خلال مجموعة موحدة من المقولات التفسيرية مستمدة من وجودنا المادي اليومي، ثم ترد الواقع الطبيعي والإنساني إلى مبدأ نهائي واحد دون حاجة إلى إدخال مجموعة أخرى من المقولات غير المادية المختلفة عن الأولى، وهو ما يبسط الواقع ويختزله.


كيف فشلت الفلسفة المادية في قراءة الإنسان؟

تحاول الفلسفة المادية تعميم نموذجها المعرفي؛ ليكون إطارًا مرجعيًا معرفيًا لكل العلوم. وتندرج العلوم تحت إطارين، حسب تفسير المسيري: الأول، ما يسمى بالعلوم التجريبية أو الطبيعية؛ والثاني، العلوم الإنسانية، وبناءً على مرجعيتها المادية الكامنة، دعت الفلسفة المادية إلى تعميم قوانين العلوم الطبيعية؛ لتكون سارية على العلوم الإنسانية، منطلقة من فرضية أن قوانين التاريخ والمجتمع الإنسانيين تشبه قوانين الطبيعة؛ ولذلك حاولوا إثبات صحة هذه الفرضية، واكتشاف القوانين، وصياغتها بطريقة علمية دقيقة كمية.

وتنادي «الفلسفة المادية» برفع شعار وحدة العلوم؛ بحيث يمكن إدخال كل شيء في شبكة السببية المطلقة، فلابد من إخضاع كل شيء للتجريب، وعلى هذا الأساس؛ يبدأ تأسيس علوم مجتمعة طبيعية أو إنسانية، تختزل الجوهر الإنساني، ومفهوم الطبيعة البشرية ذات الثنائية المتلازمة، وعند ذلك يمكن توصيف ذلك الإنسان الذي تريد الفلسفة الماديّة صياغته وتنشئته، بأنه إنسان طبيعي وظيفي آلي ذو بعد واحد، يدور مع المادة حيث دارت. وعند ذلك يقول المسيري:

ليس من الصدفة أن نرى الفلسفة الغربية بشتى مدارسها، العلمانية والإلحادية والاشتراكية والليبرالية، تدعو إلى هذه الرؤية التفكيكية التي تهدف إلى تصفية كل الثنائيات التي تجعل الإنسان يتجاوز إطاره المادي.

وتبنّت الفلسفة المادية هذه الرؤية، لأن يسهل بها تفسير الظواهر؛ إذ يمكن الحصول على المعلومات عن العالم المادي وقياسها، والترابط المادي بين الظواهر أمر يمكن رصده بشكلٍ موضوعي محسوس، وحركة المادة نتيجتها مباشرة؛ ولذلك نشرت الفلسفة المادية تعميمها على الظاهرة الإنسانية ومعارفها وعلومها؛ حتى لا تُثقل مداخل الكيان الإنساني ذي البعد غير المادي، فتأتي على منطلقاتها وأسسها المادية بالإبطال.

ولكن باءت كل محاولات تعميم قوانين العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية بالفشل، ويرجع المسيري ذلك لأسباب رئيسية، بسبب الاختلافات الجذرية بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية، وقد أثبت صحة رؤيته في الكتاب، قائلًا:

كما أرجع المسيري أن سببًا آخر لفشل الفلسفة المادية في تفسير الظاهرة الإنسانية، أن القوانين التي استندت عليها العلوم الطبيعية لم تعد ذات قيمة مطلقة، فبعد أن كان المادي والطبيعي هو الذي يدرك بالحواس، وأن ما لا يدرك بالحواس ليس بمادي وليس بموجود أصلًا، أضحى بعض ما في الطبيعة لا يمكن إدراكه بالحواس كما أثبتته الاكتشافات العلمية الجديدة، الأمر الذي أفضى إلى اضطراب الإطار المفاهيمي الذي تستند عليه الفلسفة المادية.


نقد الفلسفة المادية

إن الظاهرة الطبيعية عرية عن الإرادة الحرة، والوعي والذاكرة، في الظاهر، لا ضمير لهما، ولا شعور، بخلاف الظاهرة الإنسانية، الإنسان يتسم فيها بحرية الإرادة التي تتدخل في سير الظواهر الإنسانية، كما أن الإنسان له وعي يسقطه على ما حوله وعلى ذاته، فيتأثر سلوكه، كما أن له ذاكرة تجعله يُسقط تجارب الماضي على الحاضر والمستقبل، كما أن نمو هذه الذاكرة يغير من وعيه بواقعه، وهو بهذا يثبت عجز الفلسفة المادية في قياس الظاهرة الإنسانية على الظاهرة الطبيعية.

لا يبدي المسيري انبهارًا بالحضارة الغربية الحديثة ذات النموذج العقلاني المادي، ويعتبر أن إنجازاتها الضخمة، التكنولوجيا، العلم، السيطرة على العالم، هي نتاج رؤيتها المادية التي مكّنتها من استبعاد كثير من العناصر الأخلاقية الإنسانية، وذلك لتبسيط الواقع بهدف التحكم فيه.

ومن هنا أدرك المسيري خطورة النموذج المادي على الكون وعلى الإنسان، وأدرك أن الظاهرة البشرية بكل خصائصها وفرادتها وتركيبتها آيلة إلى العدم، وأن الحضارة الغربية بتبنيها للنموذج المادي لن تكون معادية للشرق فحسب، بل للجنس البشري والمعمورة جميعًا، وهو ما أكده بقوله «الحضارة المادية هي ظاهرة ورؤية أمسكت بتلابيب العالم شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، ولا يظن أحد أننا بمأمن منها ومن عدميتها وعدائها للإنسان».

ويسجل المسيري عدة مآخذ على الفلسفة المادية؛ منها أنها علم تجريبي محدود لا يستطيع التعاطي مع كل أنواع الخبرات وجوانبها، واعتبر الافتراض الخاص بأن الفلسفة المادية علم طبيعي ليس صحيحًا، لأن الواجب العلمي يجب أن يحصر كل التغيرات المادية والموضوعية، والعناصر والأسباب وعلاقتها بعضها ببعض. وعلى ضوء ذلك، يستنتج المسيري أن الفلسفة المادية تواجه الواقع مسلحة بميتافيريقا مادية غير واعية، فهي واعية أو تؤمن بوجود كليات وتعميمات تستند إلى الإيمان بوجود كل مادي ثابت متجاوز للأجزاء، له هدف وغاية وبوجود عقل إنساني قادر على رصد كل هذا.

في هذا المقام يؤكد المسيري أنها أطروحات نبيلة لكنها ميتافيزيقية، مشيرًا إلى أن الثبات والتجاوز والهدف ليس من صفات المادة، ومقدرات العقل على التعميم والتجاوز من الصعب تفسيرها ماديًا.