«التهور» بنيته اللغوية مشتقة من الفعل «هَار»، فهار البناء أي: تهدم، وتَهَوَّر فلان: أي وقع في الأمر بقلة مبالاته، ورجل هارٍ وهيِّر أي: ضعيف أهوج. ومن هذا الاستهلال، نعرف أن التهور مباينٌ للمغامرة، فالفيصل بينهما هو التخطيط وحسن التدبير.

وينقسم التهور إلى تهورٍ فردي على مستوى الأفراد، وتهورٍ سياسي على مستوى الدول. فأما التهور الفردي، فعواقبه تنصب في المقام الأول على الفرد نفسه، ولا تتعداه إلى غيره إلا قليلًا، وخير مثل على ذلك الشاعر «عَبِيد بن الأبْرَص» الذي قَدِم على «المنذر بن ماء السماء» – ملك الحِيرة بالعراق – في يوم بؤسه، وقد كان للمنذر في السنة يومان يجلس فيهما عند بناءين سمَّاهما الغَرِيَّيْن بالحِيرة، يُسمِّي أحدهما يوم نعيمٍ، والآخر يوم بؤسٍ؛ بسبب قتله لنديميه من بَني أسد: «خالد بن المضلّل»، و«عمرو بن مسعود بن كَلَدة».

كانا قد أغضباه في بعض المنطق، فأمر بأن يُحفر لكلِّ واحدٍ حفيرة بظهر الحِيرة، ثم يُجعلان في تابوتين، ويُدفنان في الحفرتين، ففُعل ذلك بهما، حتى إذا أصبح سأل عنهما، فأُخبر بهلاكهما، فندم على قتلهما وتسرعه في ذلك، ثم ركب حتى نظر إليهما، فأمر ببناء الغَرِيَّيْن عليهما، فبُنيا، وكان أول مَنْ يطلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائةً من الإبل السُّود، وأول مَنْ يطلع عليه يوم بؤسه يعطيه رأس ظَرِبَانٍ أسودَ، وهو المعروف برائحته الكريهة، ثم يأمر به فيُذبح، ويُغرَّى بدمه الغَرِيَّان.

وكان الشاعر عَبِيد قد قصده ليمدحه في يومه المقسوم للبؤس، وظنّ أن مكانته وعلو كعبه في نَظم الشعر، سوف يشفعان له عنده، فما كان من المنذر إلا أن قال له: «ما جاء بك يا عَبِيد؟»، فرد عليه بكلامٍ صار أغلبه أمثلة سائرة، منها قوله: «أتتك بحائنٍ رجلاه»، متهمًا نفسه بالحمق، فقال له المنذر: «هلا كان هذا غيرك؟»، فقال عَبِيد: «البَلايَا على الحَوَايَا»، أي البلايا تُسَاق إلى أصحابها، ولا يقدر أحدٌ أن يفرَّ مما قُدِّر له، فقتله المنذر، وذهبت دماؤه هدرًا. فالمنذر وعَبِيد كلاهما قد تهور، الأول في قتله لنديميه، والآخر في عدم مبالاته بيوم شؤم المنذر، معتقدًا أن إطراءه إياه، سينجيه من شؤمه، ولكن هيهات هيهات، وقد سبق السيف العذل!

مثال آخر للتهور الشخصي هو «محارب بن قيس» المعروف بـ«الكُسَعِيّ»؛ نسبةً إلى كُسَعَة اليمانية، كان يرعَى في وادٍ غني بالعشب، فرأى نَبْعة، وهي شجرة تنبت في قمة الجبال تُصنع منها السهام، فتعهدها حتى استوت على سُوقها، فقطعها، واتخذ منها قوسًا وسهامًا، ثم كمن ليلًا في مكانٍ تتردد عليه الحُمر الوحشية، فإذ به بقطيعٍ، فرمى عَيْرًا (أي حمارًا وحشيًّا)، فاخترقه السهم، وصدم الجبل، فظن أنه قد أخطأ الرمية، ثم رمى ثلاثة سهامٍ أخرى، وسمع صوت اصطدامها بالجبل، فوهم أنه أخطأ طريدته، فتهور وكسر ما تبقى من السهام، فلما أصبح ورأى الحُمَر الوحشية مصرعةً، ندم وأنحى على إبهامه فقطعها، وقال:

ندمتُ ندامةً لو أنَّ نفسي .. تطاوعني إذًا لقتلتُ نفسي تبيَّن لي سفاه الرأي مني .. لعمر أبيك حين كسرتُ قوسي

وأصبح يُضرب به المثل في شدة الندم، فيُقال: «أندمُ من الكُسَعِي»، و«ندم ندامة الكُسَعِيّ».


تهور أضاع بيت المقدس وأحرق عظام الملوك وأنهى دولة الإسلام بالأندلس

وأما على المستوى الدولي، فهناك ثلاثة تهورات شكَّلت نقطًا تحولية مصيرية في سياسة العالم الإسلامي قاطبةً، فالخليفة «الحاكم بأمر الله الفاطمي» (386- 411 هـ = 996- 1021م) صاحب المزاج السياسي المتقلب والمتناقض، والملقب بسحلية تارَةً، وبتنين تارة أخرى؛ لطريقته المروعة في التسلل بين رعاياه، تهوَّر عندما تعنت مع النصارى، وهدم كنيستهم القيامة ببيت المقدس سنة 398 هـ = 1007 م، وتولَّى «ياروخ العضدي» – والي الرملة – تنفيذ ذلك، فاضطر عددٌ من النصارى إلى الهجرة إلى أقاليم الإمبراطورية البيزنطية.

فقطع الإمبراطور «باسيل الثاني» (976-1025م) جميع العلاقات مع الدولة الفاطمية، وقامت قيامة الغرب، حتى إنه هدد بشنّ حرب مقدسة، فقد كانت من آثار هذا التهور غير المباشرة قدوم جحافل الصليبيين، واحتلالهم بيت المقدس سنة 492 هـ = 1099 م، وجعل المسجد الأقصى بركةً من دماء المسلمين.

المثل الثاني هو السلطان «علاء الدين محمد بن تُكُش الخُوَارَزْمِيّ» (596- 617 هـ = 1200- 1220 م)، كان «جنكيزخان» قد عقد معه هدنة، بموجبها يحق للتجار التنقل بين المملكتين بحريةٍ، فاستمر الحال على وتيرة السلام إلى أن وصل من بلاد جنكيزخان تجارٌ إلى مدينة أترار على نهر سيحون (الواقعة بجمهورية كازاخستان الآن)، وكان بها حامية من عشرين ألف فارس بقيادة «ينال خان» – نائب ابن خاله السلطان علاء الدين – فطوَّعت له نفسُه أخذ أموال هذه القافلة، فكتب إلى السلطان قائلًا:

إنّ هؤلاء القوم قد جاؤوا إلى أترار في زِيِّ التجار، وليسوا بتجار، بل أصحاب أخبار، يكشفون منها ما ليس من وظائفهم، وإذا خلوا بواحدٍ من العوام يهددونه، ويقولون: إنكم لفي غفلةٍ عما وراءكم، وسيأتيكم ما لا قِبَل لأحدٍ به.

فأذن له السلطان، فقبض عليهم، ونهب أموالهم، فوردت رُسل جنكيزخان إلى السلطان، يحتجّون بأنه قد أعطى خطّه ويده بالأمان للتجار، وأن لا يتعرض لأحدٍ منهم بسوءٍ، وطلبوا منه أن يسلِّم ينال خان ليجازيه جنكيزخان على فعلته؛ حقنًا للدماء، وإلا تُدَّق طبول الحرب.

وبدلًا من أن يُسيير علاء الدين إلى جنكيزخان نائبَه ينال خان، أقدم على ما هو أَدْهَى وأَمَرّ؛ إذ قتل أولئك الرسل، بلا أدنى جريرةٍ، وبقتلهم جرت دماء المسلمين – الذين لا ناقة لهم ولا جمل، بل كان قصارى جهدهم أن أطلقوا على تلك السنة (سنة 616 هـ = 1219 م) التي خرج فيها المغول كأنهم جرادٌ منتشِر «السنة المشئومة» – في بلاد ما وراء النهر أنهارًا، وشُوهد من اللَّأوَاء ما لم يُسمعْ بمثله في الأعصُر الأُوَل، ولا فيما مضى من الدُّوَل.

فكان من نتائج هذا التهور السياسي الأهوج أنه عندما استولى جنكيزخان على مدينة أترار سنة 616 هـ = 1219 م أُحضر ينال خان بين يديه، فأمر بسَبْك الفضة، وقلبها في أذُنيه وعينيه، فقُتل تعذيبًا، بل أُسرت أُمُّ السلطان «تُركان خاتون» – الملقبة لعلو منزلتها بـ«خداوند جهان»، أي صاحبة العالَم – وبناتُه، ومات السلطان شريدًا طريدًا في جزيرةٍ نائية ببحر قزوين، تاركًا دولته المترامية لقمة سائغة للمغول، فكان «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا»، بل إنه قال لما تناهت به الحال إلى هذا المكان:

لم يبقَ لنا ممَّا ملكناه من أقاليم الأرض قدر ذراعين، يُحفر، فنُقبر فيه.

فمات حُزنًا وكمدًا، ولم يجدوا ما يكفنونه به، فكُفِّن في قميص بعض أصحابه سنة 617 هـ = 1220 م. والأنكى أن ابنه «جلال الدين مَنْكَبُرْتِي» نقل تابوته من الجزيرة إلى قلعة أَرْدَهْن من أعمال مازَنْدَرَان لحين الانتهاء من بناء تربته ومدرسته بأصفهان.

فحاصر المغول هذه القلعة، وأخرجوا جثته، وسيروها إلى الخاقان «أوكتاي بن جنكيزخان» (626- 639 هـ)، فأحرقها في أواخر سنة 628 هـ، وقد كان حرق عظام الملوك ديدانًا متبعًا عند المغول، معتقدين أنهم بنو أب يجمعهم أصل واحد؛ فقد أخرجوا عظام يمين الدولة «محمود بن سُبُكْتِكِين»، وأحرقوها، ولكن – كما قيل – لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها.

أما المثل الثالث للتهور السياسي، فهو لـ«أبي الحسن علي بن سعد» – أحد ملوك بَني الأحمر، حكام مملكة غَرْنَاطَة، ووالد «أبي عبدالله محمد الصغير» آخر ملوكها – كان شجاعًا وقويًّا، إلا أنه كان ضعيف الرأي، متهورًا؛ إذ رأى أن يبدأ الملك «فرديناند» و«إيزابيلا» بالحرب قبل أن يناجزوه، وفي تلك الأثناء كان فرديناند ملك أَراجُون قد تزوج من إيزابيلا ملكة قَشْتَالَة في سنة 879هـ = 1474م، واتحدت المملكتان سنة 884هـ = 1479م.

فكان حري بأبي الحسن أن يهتم بتحصينات غرناطة، وأن لا يدخل في صراعٍ لا قِبَل له به في ظل اتحاد عدويه، غير أنه طوى عن ذلك كشحًا؛ فامتنع عن دفع الإتاوة التي كان يؤديها لهما، وردّ على رسول فرديناند الذي جاء يلح في طلبها بقوله: «قل لمولاك: إنَّ سلاطين غرناطة الذين اعتادوا أداء الإتاوات قد ماتوا، وإنَّ دار الضرب بغرناطة لا تطبع الآن غير السيوف»، ثم شنَّ غارةً شعواء على قلعة الصخرة (Zahara) الواقعة على حدود الأندلس الغربية في شمال غربي مدينة رندة، وذلك في سنة 886هـ = 1481م؛ ليتبع قوله ذاك بالعمل.

وقد كانت غارته هذه عنيفة لدرجةٍ أن الكاتب الأمريكي «واشنطون إيرفنج» وصفها في كتابه «آخر حروب العرب بإسبانيا» وصفًا يصور ما امتلأت به الصدور من الحقد والكراهية بين الفريقين، ما يبعد الرحمة من القلوب والشفقة من النفوس؛ إذ بدد أبو الحسن حامية القلعة، واستاق نساءها وأطفالها ومَنْ بقي من رجالها، وليس عليهم من الثياب ما يقيهم قارص البرد وعاصف الأنواء، مثل قطيعٍ من البقر، وسدّ أذنيه عن كلّ توسلٍ ورجاء، وأغلق قلبَه دون العطف والرحمة، حتى لقد تألم أهل غرناطة لهذا المشهد والمنظر القاسي، وشعر عقلاؤهم بمغبة هذا التهور، وسمُّوه بداية النهاية، وصاح أحدهم في وجه أبي الحسن قائلًا:

ويل لنا! لقد دنت ساعتك يا غرناطة، ولسوف تسقط أنقاض الصخرة فوق رءوسنا، وقد حلَّت نهاية دولة الإسلام بالأندلس.

وكان هذا التصرف غير المدروس ضغثًا على إبَّالة؛ إذ سرعان ما استولى الإسبان على حصن الحَمَّة – أو ألحامَّة (Alhama) – من أعمال مالقة بجنوب غرب غرناطة في مفتتح سنة 887 هـ = 1482 م، وبهذا الاستيلاء تمكنوا من وضع حامية قوية في داخل مملكة المسلمين، وعلى مقربةٍ من غرناطة، وأصبح هذا الحصن شوكةً في جنب المسلمين، فحاول أبو الحسن جاهدًا أن يسترده، ولكن أنَّى له هذا!

وتبادل الفريقان بعد ذلك الغارات الانتقامية، وفي إحداها أُسر ابنه الأمير أبو عبدالله محمد الصغير، وظل في الأسر خلال سنتي 888- 890هـ = 1483- 1485م، وكان أسره ضربةً شديدة لحكم المسلمين في الأندلس؛ إذ خرج من الأسر مسخًا آخر، وغدا آلةً في أيدي فرديناند وإيزابيلا، وأخذ يشنّ على أبيه حربًا ضروسًا، وما فتئ يشاققه حتى مات أبوه المتهور همًّا وكمدًا، ويُقال:

بل مات مسمومًا بعد أن تنازل عن الملك إلى أخيه أبي عبدالله محمد بن سعد، المعروف بالزَّغَل (أي الشجاع الباسل)، إلا أن ابنه أبا عبدالله الصغير نازع عمَّه ملكَه، وكان عونًا لملكي النصارى عليه، فاضطر الزَّغَل بعد أن ضافت به السُّبل إلى ترك غرناطة لينزل في تِلِمْسان بالجزائر سنة 895هـ = 1489م.

فالحقُّ، أن الأقدار إذا حكمت على مملكة بالزوال، ملأت رءوس أصحابها بالسخف والغرور، «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا»، وهكذا بدد أبو الحسن بتهوره وابنه أبو عبدالله بطمعه قُوَى المسلمين حتى سقطت غرناطة سنة 897 هـ = 1492 م. فكما قال «أبو الطيب المتنبي»:

الرأي قبل شجاعة الشُّجعان .. هي أولٌ وهي المحلّ الثاني.

والمثل المصري الدارج يقول: «قبل ما تحارب دَارِجْ، وما تقلش قبيح، وامشي تحت الجَرْف زَي القارب لمَّا يطيب الريح»، أي قبل أن تقاتل دارِ عدوك، ولا تظهرْ له عداوة، ولا تقلْ فيه قبيحًا حتى تثق بمساعدة الزمان لك، وكنْ في ذلك كالقارب يسير جنب الجرف، ولا يخوض غمار التيار حتى تطيب له الريح رُخَاءً.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.