محتوى مترجم
المصدر
The conversation
التاريخ
2019/04/08
الكاتب
مارك فتحي مسعود

يحاول المشرعون اليمينيون في عشرات الولايات الأمريكية حظر الشريعة الإسلامية، مُحذرين من أن المتطرفين الإسلاميين يريدون فرض حكم ديني أصولي على مجتمعات أمريكية.

هذه الجدالات السياسية – التي تستدعي صورة الإرهاب والعنف السياسي في الشرق الأوسط لتجادل بأن الإسلام يرفض المجتمع الحديث– تعزز الصورة النمطية عن غياب التحضر عن العالم الإسلامي.

تعكس هذه الجدالات أيضًا جهلًا بالشريعة؛ فهي ليست نظامًا قانونيًا صارمًا. فالشريعة – اصطلاحاً- تعني «الصراط» أو «الطريق»، وهي بناء واسع من القيم والمبادئ الأخلاقية المستمدة من القرآن وسنة النبي محمد، ومن هنا يفضي الاختلاف بين الأفراد وبعضهم والحكومات وبعضها إلى الاختلاف في تفسير الشريعة.

وتلك ليست المرة الأولى التي يحاول فيها العالم تبين المواضع التي تلائم الشريعة في النظام العالمي. ففي الخمسينيات والستينيات، وبينما كانت بريطانيا العظمى وفرنسا ودول أوربية أخرى تنسحب من مستعمراتها في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، وجد زعماء الدول حديثة التشكل ذات الأغلبية الإسلامية أنفسهم في موقف اختيار ذي تداعيات مصيرية: هل يبنون حكوماتهم على أساس من القيم الدينية الإسلامية، أم يتبنون القوانين الأوروبية الموروثة من العهد الاستعماري؟


الجدال الحامي

أظهر بحثي التاريخي أن زعماء الدول حديثة التشكل تلك اختاروا الاحتفاظ بالمنظومات القضائية الاستعمارية، عوضًا عن تطبيق قوانين دينية.

في دول حديثة الاستقلال مثل: السودان ونيجيريا وباكستان والصومال ودول أخرى، يقتصر تطبيق الشريعة على منازعات الزواج والمواريث داخل العائلات المسلمة، تمامًا كما كان الحال في عهد الإدارات الاستعمارية، وما تبقى من نظم قانونية لم تزل مشتقة من القوانين الأوروبية.

ولفهم السبب الذي حدا بزعماء الدول المسلمة حديثة الاستقلال إلى سلوك هذا المسار، تتبعت عملية صناعة القرار في السودان، كونها أولى دول إفريقيا جنوب الصحراء نيلًا للاستقلال عن بريطانيا، عام 1956.

أثناء تجوالي في الأرشيف الوطني ومكتبات العاصمة الخرطوم، ومن واقع مقابلات مع محامين ومسئولين سودانيين، اكتشفت أن قضاة وسياسيين ومثقفين بارزين دفعوا باتجاه تأسيس دولة ديمقراطية إسلامية في السودان.

لقد تصوروا نظامًا قانونيًا تقدميًا يتوافق مع مبادئ الدين الإسلامي، وفيه يتمتع جميع المواطنين – بغض النظر عن الدين أو العرق– بحق ممارسة معتقداتهم الدينية بحرية وانفتاح.

وفي مذكرة رسمية عثرت عليها في مكتبة السودان بالخرطوم، كتب رئيس المحكمة العليا السودانية «حسن مدثر»، عام 1956، مقتبسًا من النبي محمد: «الناس سواسية كأسنان المشط. لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود». لكن حكام حقبة التحرر الوطني في السودان رفضوا هذه الدعاوى، واختاروا الإبقاء على تقاليد القانون الإنجليزي العام قانونًا وطنيًا.


لماذا الاحتفاظ بقوانين المستعمر؟

انتهى بحثي إلى عوامل ثلاثة دفعت السودان المستقل إلى تهميش الشريعة: السياسة والبراجماتية والتركيب السكاني (الديموجرافيا).

أفضت المنافسات بين الأحزاب السياسية في سودان ما بعد الاستعمار إلى جمود برلماني، عطّل إصدار تشريعات ضرورية، ولذا أبقى السودان ببساطة على سريان القوانين الاستعمارية المطبقة بالفعل.

وثمة أسباب عملية أيضًا للاستمرار بتطبيق القانون الإنجليزي العام، تلك أن قضاة السودان اكتسبوا خبراتهم العملية على يد مسئولين استعماريين بريطانيين، ثم استمروا بتطبيق أحكام القانون الإنجليزي العام على المنازعات التي فصلوا فيها.

وقد واجه الآباء المؤسسون للسودان تحديات ملحة، مثل بناء الاقتصاد والتجارة الخارجية وإنهاء الحرب الأهلية، وأدركوا أنه ليس من اليسير تبديل نظام الحكم المُطبق بسلاسة في الخرطوم.

لقد عكس الاستمرار بتطبيق القانون الاستعماري بعد الاستقلال التنوع العرقي واللغوي والديني في السودان. يتحدث السودانيون لغات عدة، وينحدرون من عشرات المجموعات العرقية. ومنذ الاستقلال، يقيم مسلمو السودان الشعائر السنية والصوفية، الحية في مناطق الشمال بشكل خاص، أما في الجنوب فتحتل المسيحية مساحة لا بأس بها.

إن تنوع المجتمعات الدينية في السودان عنى من ضمن ما عنى أن الاحتفاظ بمنظومة قانونية أجنبية –وهي القانون الإنجليزي العام– كان أقل إثارة للمشاكل والحزازات من اختيار شريعة جماعة معينة وفرضها.


لماذا انتصر المتطرفون؟

انتهى بحثي إلى أن غياب الاستقرار عن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اليوم يعود في جزء منه إلى رفض تطبيق الشريعة في حقبة ما بعد الاستعمار؛ فالسودان وبقية الدول ذات الأغلبية الإسلامية التي سلكت الدرب نفسه كانت، بإبقائها على نظم قانونية استعمارية، تسترضي قوى الغرب، التي كانت تدفع مستعمراتها القديمة باتجاه العلمانية.

بيد أن الدول المسلمة حديثة الاستقلال تلك أهملت التعاطي مع مسألة العلاقة بين الهوية الدينية والقانون، وأفضى ذلك إلى فجوة بين الشعوب وحكوماتها. وعلى المدى الطويل، غذت هذه القطيعة نزوعًا إلى التمرد لدى المواطنين المتدينين، الذين رفعوا شعار توحيد الدولة والدين مرة واحدة وإلى الأبد. انتصر هذا التفسير للدين في إيران والسعودية وأجزاء من الصومال ونيجيريا، وتسلّطت نسخة متزمتة من الشريعة على رقاب الملايين.

وبعبارة أخرى، همّشت الدول ذات الأغلبية المسلمة الممكنات الديمقراطية في الشريعة، من خلال رفضها كمفهوم قانوني رئيسي في الخمسينيات والستينيات، وهنا سقطت الشريعة في حجر المتطرفين.

على أنه ما من عداء متأصل بين الشريعة وحقوق الإنسان وحكم القانون، وكأي علاقة بين أي دين والسياسة، يعتمد تطبيق الشريعة على من يطبقها وغرضه من ذلك.

في دول مثل السعودية وبروناي، اختار زعماؤها تقييد حريات النساء وحقوق الأقليات، لكن العديد من علماء الإسلام والجمعيات الأهلية يتبنون تفسيرًا للشريعة باعتبارها نسقًا أخلاقيًا مرنًا يراعي الحقوق وينتصر للمساواة.


الدين والقانون حول العالم

الدين مكون أساسي في النسيج القانوني لعديد من الدول المتحررة من الاستعمار، وتختلف النتائج من دولة إلى أخرى لجهة الديمقراطية والاستقرار.

بعد نشأة «إسرائيل» عام 1948، انفتح نقاش كبير حول دور الشريعة اليهودية في المجتمع الإسرائيلي، وفي النهاية حسم رئيس الوزراء ديفيد بن جوريون وحلفاؤه الخيار لصالح منظومة قانونية هجينة من الشريعة اليهودية والقانون العام الإنجليزي.

وفي أمريكا اللاتينية، قيّدت الكاثوليكية التي جاء بها الغزاة الإسبان الإجهاض والطلاق والمثلية الجنسية. وحتى في الولايات المتحدة نفسها، طبّق القضاة خلال القرن التاسع عشر بانتظام المبدأ القانوني القائل إن «المسيحية جزء من القانون العام»، ولا يزال المُشرعون يستندون إلى الدين المسيحي في تأييدهم أو معارضتهم لقانون معين.

وفي دول الغرب تلك، يندر أن يُفسر التطرف السياسي أو انتهاك حقوق الإنسان باعتبارهما نقائص متأصلة في أديانها، أما في الدول ذات الأغلبية المسلمة، فيتم تحميل الشريعة وزر القوانين الرجعية، ويفلت الأشخاص الذين مرّروا هذه القوانين والسياسات باسم الدين.

وبعبارة أخرى، فإن الأصولية والعنف هما نتاج حقبة ما بعد الاستعمار، وليسا حتمية كامنة في الأديان. وفي العالم الإسلامي، لن يكون من السهل إيجاد نظام حكم يجمع بين القيم الإسلامية وتعزيز الديمقراطية، بعد أكثر من خمسين عامًا من الحكم العلماني الفاشل، لكن هذا ضروري لبناء السلام.