هل العولمة ستؤدي إلى نهاية الرأسمالية بنهاية المطاف؟

حتى نستطيع الإجابة عن هكذا سؤال، علينا أن نوضح في البداية ما المقصود بالرأسمالية التي يشملها حديثنا الآن؟ إننا لا نتحدث هنا عن نظم الاقتصاد السياسي واتجاهاتها على مستوى علاقات الإنتاج وتوزيع الثروة داخليًا في مختلف بلدان العالم؛ ولكننا نتحدث في المقابل عن التجارة الحرة الدولية وعلاقات الإنتاج وتوزيع الثروة على المستوى العالمي، أي بالأحرى عن الرأسمالية في نطاقها الدولي الذي تنزاح فيه الرأسمالية تدريجيًا من مراكز التصنيع، وتتحول علاقات الإنتاج بين دول المركز والأطراف في الوقت الراهن.

نفهم هنا الرأسمالية ليس كفلسفة اقتصاد سياسي علي المستوى النظري المجرد وحسب، ولكن كشكل من أشكال العلاقات الدولية يرتبط بالأساس بالغرب والحقبة الاستعمارية وتحولات مرحلة ما بعد الاستعمار.

نتج هذا الشكل من العلاقات تاريخيًا على إثر الثورة الصناعية وتراكم رأس المال من خلال العلاقة الكولنيالية بين المتروبول (المركز الاستعماري) وبلدان الأطراف التي كانت تبيعه موادها الخام بثمن بخس، والتي كانت في الوقت ذاته هي نفسها أسواق بضائعه؛ أسواق قد تُشنّ حروب من أجل فتحها بالقوة تحت شعار ومبدأ «حرية التجارة»،كحرب الأفيون بين الصين وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر.

الرأسمالية هنا هي تطور تاريخي للميركنتالية الغربية التي تطورت مع الكشوف الجغرافية والاستعمار والثورة الصناعية في إنجلترا. هنا الرأسمالية أو المركنتالية هي أوصاف أو عناوين لعلاقة الغرب بالعالم. اكتسبت صفة العالمية في التأريخ السائد للاقتصاد الدولي نتيجة للمركزية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

هنا يتشكل معنى الرأسمالية التي نتحدث عنها في إطار جيوسياسي، يرتبط بالغرب وسيادته العالمية التي تتعرض حاليًا لتحدي ميزان متغير بشكل متسارع للقوة والثروة بين الغرب والصين ودول شرق آسيا، على نحو قد يدفعها جديًا للتفكير في إعادة صياغة قواعد اللعبة على النطاق الدولي.


الغرب والعالم: موازين القوة المتغيرة

في كتابه الشهير «صدام الحضارات»، يقول عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتجنتون إن انتصار الغرب في الحرب الباردة لم يسفر عن فوز بل إنهاك، فأوروبا الغربية والولايات المتحدة رغم سيطرتهما الطاغية على الصعيد الدولي، واستمرار ذلك على الأرجح في القرن الحادي والعشرين، صارت تهتم بدرجة متزايدة بمشاكلها واحتياجاتها الداخلية، من نمو اقتصادي بطيء وضعف لمعدلات النمو السكاني وبطالة وعجز مالي حكومي ومعدلات ادخار منخفضة، وانعكاس ذلك كله في انخفاض نصيب الغرب من مجمل الناتج الاقتصادي العالمي.

بينما كان يحدث كل هذا في الغرب، ازدادت في المقابل شعوب العالم الأخرى من حيث التعداد السكاني وارتفاع معدل الأعمار وارتفاع نسبة المتعلمين ونسبة سكان المدن، على نحو أدى إلى تشكيل كتل سكانية كبيرة معبأة اجتماعيًا لديهم إمكانيات وقدرات متنامية قادرة على التأثير، وتطلعات أعلى يمكن أن تنشط من أجل أغراض سياسية في أي وقت.

فبعد أن كانت سيطرة الغرب التي بلغت ذروتها في عشرينيات القرن الماضي، تبلغ حوالي 49% من مساحة العالم، بمشاركة تصل إلى 70% من مجمل الناتج الاقتصادي العالمي، وتعداد سكاني يشكل 48% من سكان العالم، سيصبح الغرب في عام 2020 أي بعد مرور حوالي مائة عام على تلك الذروة، يمثل جغرافيًا 24% من مساحة العالم، بمشاركة تبلغ 30% من مجمل الناتج الاقتصادي العالمي، وتعداد سكاني يمثل 10% من نسبة سكان العالم.


من الغرب إلى الشرق

بحسب عالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل فالرشتاين، تعود المنظومة الرأسمالية العالمية السائدة في وقتنا الراهن إلى القرن السادس عشر في أوروبا. تقوم هذه المنظومة تاريخيًا على تقسيم للعمل بين المركز والأطراف يعبر عن حالة من اللامساوة الجوهرية تمثل أصل هذا النظام وأساس بنيته.

هذا النظام الرأسمالي يحمل تناقضات تؤدي إلى سيرورة أو سلسلة من الإيقاعات الدورية التي تعمل على احتواء تلك التناقضات، من أبرزها دورات كوندراتييف، وهي دورات من النمو والانحسار الاقتصادي بالتبادل، تمتد كل دورة منها من 40 إلى 60 سنة، وفق عالم الاقتصاد الروسي نيكولاي كوندراتييف. يقول فالرشتاين إن تلك الإيقاعات الدورية أدت إلى زحزحة منتظمة بطيئة لكنها مهمة، في المواقع الجغرافية للتراكم والنفوذ. وعبر هذه الديناميات، يمكن أن نفهم اتجاه مركز القوة في النظام الاقتصادي العالمي للتحول نحو آسيا.

على سبيل التوضيح، وفق كوندراتييف، يميل كبار الرأسماليين إلى تحويل أنشطتهم التي تستهدف الربح إلى مجالات المضاربة المالية، على نحو تنخفض معه تعداد العمالة المأجورة، وتنخفض معه أيضًا مستويات الأجور. عندئذ يحدث تنافس تجاري حاد بين البلدان التي تمثل مراكز التراكم، ويحدث تقلب مستمر في أسعار العملات. حينها تبدأ مراكز التصنيع في الانتقال، وهذا ما جرى في تسعينيات القرن الماضي، وكان شرق آسيا هو المنتفع الرئيسي من إعادة الهيكلة العالمية.


معدلات نمو الصين والنمور الآسيوية

يمثل النمو الاقتصادي الذي جرى في شرق آسيا أحد أهم التطورات التي جرت في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين. فبعد أن بدأت تلك العملية في اليابان في خمسينيات القرن الماضي، انتقلت بعد ذلك على نحو متسارع إلى ما يعرف بدول النمور الآسيوية: هونج كونج، تايوان، كوريا الجنوبية، سنغافورة؛ ثم اتسعت بعد ذلك وانضم إليها الصين والهند وعدد آخر من دول جنوب شرقي آسيا.

حافظت تلك الدول، كما يقول هنتجنتون، على معدل تنمية سنوي بين 8 و10% أو يزيد، في مقابل نمو متواضع لاقتصاد أوروبا والولايات المتحدة. تشير هذه المعدلات إلى تحولات علي الصعيد العالمي تحدث بسرعة مذهلة. ففي مقابل حاجة بريطانيا وأمريكا 58 سنة و47 سنة على التوالي، لمضاعفة متوسط دخل الفرد فيهما كما يقول البروفسور كيشور محبوباني، وزير خارجية سنغافورة الأسبق، استطاعت اليابان تحقيق ذلك في 33 سنة، وإندونيسيا في 14 سنة، وكوريا الجنوبية في 11 سنة، والصين في 10 سنوات.

تبني الصين اليوم على أنقاض طريق الحرير القديم أكبر مشروع بنية تحتية في التاريخ البشري ألا وهو مشروع الحزام والطريق الذي تسعى من خلاله الصين لربط اقتصادها بالعالم من خلال شبكة من الطرق والسكك الحديدية والموانئ الكبرى. الصين أيضًا بصدد بناء حاملة طائرات ثالثة تعزيزًا لأسطولها البحري لمنافسة القوة الإمبراطورية البحرية الأمريكية المنتشرة في جميع بحار ومحيطات العالم، كما أنها أرسلت أكثر من مسبار هبط على سطح القمر منذ عام 2007، وتستعد لإرسال أشخاص إلى هناك كما أعلنت في عام 2017.

بعيدًا عن الإسلاموفوبيا والزينوفوبيا (العداء للمهاجرين أو الأجانب) كأسباب جرى الحديث عنها كثيرًا لتحليل الصعود السياسي الراهن لليمين المتطرف في أوروبا، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ووصول شخص مثل دونالد ترامب لسدة الرئاسة في أمريكا، تشكّل قضية مستقبل حرية التجارة وعجز الميزان التجاري المتنامي بين الصين والغرب سببًا جوهريًا لفهم تحولات السياسة الاقتصادية العالمية وتوجهها نحو الحمائية، وفهم الجذور الأكثر عمقًا لصعود الشعبوية بين الطبقات العاملة البيضاء في أوروبا والولايات المتحدة المتضررة من انتقال مصانع الشركات الغربية الكبرى إلى الصين وبلدان شرق آسيا.

يجعلنا هذا نفهم أيضًا بعض أسباب الملاحقة الأمريكية لعملاق الهواتف الحواسيب اللوحية الصيني «هواوي» مؤخرًا، ويساعدنا كذلك على فهم تعقيدات العقوبات التجارية وحرب التعريفات الجمركية الشرسة والمتبادلة بين حكومتي الصين والولايات المتحدة .

الشعبوية والحمائية هنا يعيدان العالم إلى أجواء مشابهة تقريبًا لأجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية التي انتشرت بها الحماية الجمركية على نطاق واسع على إثر «الكساد العظيم» في عام 1929، وسادها كذلك صعود سياسي كبير للفاشية والنازية في أوروبا، على نحو يتشابه من بعض أوجهه مع صعود اليمين المتطرف هذه الآونة.

يخلق هذا العديد من الهواجس أمامنا، ويضع العالم اليوم أمام خطر تحول أي صراع إقليمي محتمل في مضيق تايوان أو شبه الجزيرة الكورية أو بحر الصين الجنوبي الذي تتنازع السيادة على مياهه الإقليمية الصين مع فيتنام والفلبين وتايوان وماليزيا وبروناي، إلى حرب عالمية ثالثة،ستكون بين الصين والغرب هذه المرة.