قبل عدة أسابيع عرضت مؤسسة التلسكوب هابل صورة جديدة بديعة – كعادة صديقنا العجوز – لسديم السرطان، لكنها هذه المرة كانت صورة مختلفة، حيث يمكن لنا أن نلاحظ خطًا أبيض متقطعًا، في شكل قوس، يتقدم من أسفل يسار الصورة للأعلى إلى منتصفها، ليس ذلك مجرد خطأ في المعالجة أو عيب في الكاميرا الخاصة بالتلسكوب هابل، لكنه إحدى كويكبات المنطقة الرئيسية لحزام الكويكبات الذي يدور بين المريخ والمشتري.

الكويكب 2001 SE101 في حزام الكويكبات
الكويكب 2001 SE101 في المنطقة الرئيسية لحزام الكويكبات

يسمى بالكويكب 2001 SE101، وتم التقاط الصورة قبل عدة سنوات بينما كان يمر أمام كاميرا التلسكوب هابل، على مسافة بعيدة، أثناء التقاطها صورة للسديم. يظهر الكويكب كخط لأن هابل لا يلتقط الصورة في لحظة واحدة، بل يوجه نفسه لفترة قد تطول أو تقصر ناحية السديم ويلتقط له صورًا كثيرة بتقنية التعريض الطويل ثم يجمعها معًا.

الفتاة التي وجدت أقدم النجوم

لكن الأكثر إثارة للانتباه هو الاسم الإضافي الذي تراه في خانة حقوق الملكية الخاصة بالصورة (ESA/Hubble, M. Thévenot)، فبجانب وكالة الفضاء الأوروبية والتلسكوب هابل تجد اسم فتاة، إنها ميلينا تيفينو، وهي هاوية فلك ألمانية كانت السبب في ظهور تلك الصورة على منصة هابل من الأساس، وذلك لأن الصورة كانت واحدة من عدد هائل من الصور موجود في قاعدة بيانات لعبة تابعة لعالم Zoo Universe.

اكتشفت ميلينا وجود الكويكب في إحدى صور هابل أثناء أداء بعض المهام في لعبة Hubble Asteroid Hunter، حيث كان عليها – بالمشاركة مع آلاف المتطوعين – البحث بين آلاف الصور عن خط طفيف يمثل عبور أحد الكويكبات. وحينما وجدت ميلينا الكويكب، قامت بضبط الصورة وتحريرها ومن ثم كان من الضروري أن يذكر اسمها في حقوق ملكية الصورة، فلولاها ما كنا رأينا هذا الكويكب يمر أمام سديم السرطان.

ليست هذه المرة الأولى التي يظهر فيها اسم ميلينا في الأوساط العلمية، في الواقع كانت ورقة بحثية قد صدرت قبل عدة أشهر في دورية «ذا أستروفيزيكال جورنال ليترز» قد ضمت اسمها كمؤلفة، حيث تمكنت من اكتشاف أبرد وأقدم قزم أبيض نعرفه إلى الآن – سمي LSPM J0207+3331 – لكن الأكثر لفتًا للانتباه في هذا النجم هو أنه محاط بقرص، أو مجموعة أقراص، من الغبار البارد نسبيًا، إنها أول مرة نرصد فيها حالة كتلك.

تصميم تخيلي لنجم القزم الأبيض محاط بحلقات متعددة
تصميم تخيلي لنجم القزم الأبيض محاط بحلقات متعددة

وجدت ميلينا هذا النجم في أثناء بحثها خلال أرشيفات التلسكوب «جايا» التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، كانت تبحث بالأساس عن نوع أكثر خفوتًا من الأجرام يسمى «الأقزام البنية»، لكنها اكتشفت أن عندما الأشعة تحت الحمراء الصادرة من أحد الأجرام كانت كثيفة جدًا وبعيدة عن أن تكون قزمًا بنيًا، بعد ذلك قدمت ميلينا نتائجها إلى فريق مبادرة أخرى تشبه «صيد الكويكبات» وهي مشروع العوالم الخلفية الذي يبحث عن الكوكب التاسع الكبير في المجموعة الشمسية Backyard Worlds: Planet 9، ومن تلك النقطة تطورت الأحداث.

ميلينا ليست متخصصة في علم الفلك، إنها فقط متطوعة في تلك المشروعات العلمية والتي تشبه الألعاب الإلكترونية، لذلك قد تتعجب حين تجد اسمها على ورقة بحثية في دورية متخصصة، فطلاب علم الفلك أنفسهم لا يتمكنون ببساطة من الوصول لتلك المرحلة، لكن ميلينا – ورفاقها في مشروعات كتلك – ينضمون لفئة من المهتمين بالعلوم تسمى «المواطن العالم Citizen Scientist».

مواطن عالم!

الفكرة ببساطة هي أن الباحثين المختصين بالتلسكوب «هابل» لا يمكن لهم فحص كل الصور القادمة منه، وكذلك فإن آليات الحوسبة الدقيقة التي تفحص صور هابل لا يمكن لها ملاحظة التغيرات الدقيقة في كل الصور. لذلك تستعين المؤسسات الفلكية بمؤسسة Zoo Universe، وهي كيان يهدف إلى الدفع بالمواطنين من كل أنحاء العالم للمشاركة في عملية البحث العلمي عبر عدد كبير من المشروعات، كل واحد منها يعلمك – عبر خطوات بسيطة – كيفية الولوج إلى عالمه والتعامل معه.

على سبيل المثال، في لعبة Galaxy Zoo يمكن أن تلتقي بمليون صورة راديوية للمجرات مأخوذة من «ماسح سلون الرقمي للسماء»، الهدف ببساطة هو تحويل ذلك الكم من المجرات للعبة تقوم خلالها بعمل تصنيفات ظاهرية للمجرات على حسب أشكالها في الصور، حصلت اللعبة على 70 ألف تصنيف خلال الساعات الأولى من انطلاقها، وعلى 50 مليون تصنيف خلال العام الأول، على يد 150 ألف لاعب، ظهر من تلك اللعبة ثلاث عشرة نسخة، تعتبر الأخيرة هي اللعبة العلمية الأكثر شهرة بين الناس في العالم كله.

تعلمك اللعبة عن أنواع المجرات وأشكالها من خلال دروس وتمارين أولية بسيطة، كل ما تحتاجه بعد ذلك هو أن تمسك بهاتفك الذكي، وتصنف تلك المجرة التي في الصورة، هل هي بيضاوية، حلزونية، إهليلجية، أم شاذة؟ هل تقف وحيدة أم تتداخل مع مجرة أخرى؟ انتقلت اللعبة بعد ذلك لتفاصيل متخصصة أكثر عمقًا كعدد الأذرع، وحجم المجرة، وميلها، ثم في النسخة الأخيرة تطلب منك استكشاف ثقوب سوداء في صور راديوية لعدد ضخم من المجرات، كذلك سوف تهتم برصد تأثيرها على الأجرام المحيطة، وسوف تدرس تلك النفاثات الراديوية الضخمة المنطلقة من مركز المجرة.

كل ذلك يُقدم لك في شكل لعبة، سوف تسجل حسابًا باسمك وتبدأ اللعب بين آلاف المتنافسين لتحصل على نقاط إضافية مع كل مجرة تنجح في تصنيفها، يزداد الأمر في التعقد حتى تحتاج لبذل عدد ساعات متتالٍ في التعرف على مجرة ما ومقارنة صورها من ترددات مختلفة لتلاحظ اعوجاجًا بسيطًا هنا أو هناك. نعم يا صديقي، أنت الآن تمارس البحث العلمي، بالضبط كالباحثين في المعامل والمراصد الضخمة.

في مايو 2016، وفي أثناء محاولتهما لفهم شكل مجرة «راديوية» ضخمة عبر مقارنة صور تحت حمراء بأخرى راديوية، تمكن الروسيان «إيفان تيرينتيف» و«تيم ماتورني» اللاعبان في Galaxy Zoo من رصد تجمع ضخم للمجرات يبتعد عنا ما يقرب من مليار سنة ضوئية ويحتوي على 40 مجرة، فقط عبر الجلوس في المنزل، واللعب على الويب. ثم بعد ذلك نُشرت ورقة علمية بالاكتشاف عبر النشرة الشهرية لجورنال الجمعية الملكية الفلكية. مثل ميلينا، فإن كلاً من تيرينتيف وماتورني غير متخصصين في علم الفلك.

بعد نجاح Galaxy Zoo نشأت Zooniverse كمحاولة لتفريع التجربة لنطاقات أكثر اتساعًا، على سبيل المثال كانت مبادرة «صائدو الكواكب» (Planet hunters) ملفتة جدًا للناس في كل أنحاء العالم، تضم الآن حوالي 350 ألف عضو، وظيفتهم هي البحث بين بيانات آلاف النجوم، التي التقطها التلسكوب الشهير كيبلر، عن انخفاض طفيف في كم الضوء الصادر عن تلك النجوم، في إشارة إلى وجود كوكب يدور حولها.

صائدو الكواكب

تبدأ اللعبة بطريقة تفاعلية في تعليمك بعض القواعد الأساسية السهلة لعالم الكواكب خارج المجموعة الشمسية، وكيفية اصطياد تلك الكواكب، لا يستغرق الأمر دقائق معدودة حتى تبدأ في التعرض لبعض اللوحات البيانية لبعض النجوم، وتبدأ فعليًّا مهمتك في البحث عنها، يمكن لك كذلك الدخول في حلقات من النقاش الطويل مع آلاف آخرين حول مشكلة ما، خاصة بمجموعة الأشكال البيانية الخاصة بنجم محدد.

في 2014 أنهى المتطوعون في «صائدو الكواكب» أكثر من 20 مليون تصنيف للنجوم، وخرجوا بثلاثين مرشحًا من ضمنها، مع تأكيد على وجود كوكبين خارج النطاق الشمسي، اكتشف الكوكبَ الأول، وهو بحجم يقع بين زحل وأورانوس، ويدور حول نجم شبيه بالشمس، كل من روبرت جاجليانو من أريزونا وكيان جيت من كاليفورنيا بالولايات المتحدة، والكوكب الآخر اكتُشف على يد اللاعب رافال هيريسكوفسكس من بولندا، وكان بقُطر 10 مرات قدر الأرض، ويدور حول نجم بحجم الشمس، كذلك تنوعت استكشافات رواد تلك اللعبة بين النجوم المتغيرة الجديدة، والنجوم المزدوجة، والانفجارات النجمية.

الآن، Zooniverse أكبر من ذلك، تخطى عدد المتطوعين بها مليون ونصف شخص، وتفرعت في مختلف العلوم، الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، تتنوع بين الحاجة إلى التصنيف والترتيب ووضع الملاحظات والحواشي وتتبع الأنماط، ويمكن من الموقع الرسمي للمنصة أن تشارك في أية مهمة علمية تحبها، وبينما تفعل ذلك فأنت تسهم في تقدم البحث العلمي بصورة لا تتخيلها، ومن يدري؟ يمكن يومًا ما أن تسجل اكتشافًا باسمك!

ادخل من هنا وشارك: https://www.zooniverse.org/

ما نقف أمامه هنا هو تمثيل جيد لما نسميه بـ حكمة الحشد، تلك التي تساعدنا في استكشاف الأنماط بقدرات أعلى من أفضل حواسيبنا. قدم المتطوعون في تلك الأنواع من الألعاب أفكارًا وطرقًا، ربما غير عقلانية، لكنها غاية في الإبداع، غاية في التنوع والغرابة، لحل مشكلة ما. يشبه الأمر ما يحدث في عوالم النمل والنحل عالية التنظيم والقادرة على خلق ذكاء واحد أكبر من ذكاء المجموعة ككل، ها نحن ذا أمام عالم جديد جريء حقًّا، مستقبل مفتوح لجميع البشر كي يساهموا بعقل واحد معًا في حل مشكلات كوكبنا، يقربنا ذلك من بعضنا البعض كبشر ويعلمنا أن الإجابة الرئيسية عن كل المشكلات هي أن نعمل معًا وليس ضد بعضنا البعض، عسى أن يعطينا ذلك بعضًا من السلام في أرواحنا، يومًا ما.