استدعى العرب من تاريخهم التليد سلاحًا جديدًا يواجهون به خوارزميات موقع «فيسبوك»، والتي تعادي أي منشور ينصر فلسطين، تمثل هذا السلاح في قرارهم بالارتداد بلغتهم عدة قرون إلى الوراء وكتابتها بحروفٍ غير منقطة مثلما كانت تُكتب في عصور اللغة العربية الأولى، قبل أن تخضع بحكم الزمن لتطورات متتالية وصلت بها إلى الشكل الذي نعرفه الآن.

كتب المئات من مستخدمي «فيسبوك» منشورات بلغة عربية بدت غريبة بعض الشيء في أعين المتابعين، وبالطبع كانت غريبة على وسائل التتبع التي يتقصى بها الموقع الأزرق كلماتنا ويقتصُّ منها ما شاء.

يقول عبدالستار الحلوجي في كتابه «المخطوط العربي»، إن بداية العصر الأموي شهدت تطور الكتابة العربية في مرحلتي الشكل والإعجام، ما يعنينا هنا هو مرحلة الشكل فلقد بدأ العلماء في وضع النقاط على أواخر الكلمات، ومن ثم امتدت إلى بقية الحروف وكانت النواة الرئيسة لنشأة الحركات الإعرابية بمعانيها التي نعرفها اليوم.

وكان السبب الرئيس في هذا الحرص المُطلق على ضبط الكلمات، وتحديدًا آيات القرآن، هو أن المصاحف التي كانت خالية من أي علامات ضبط وتنقيط لما وردت على الأمصار عجزوا عن قراءتها كما يجب.

يقول أبو عمرو الداني في كتابه «المحكم في نقط المصاحف»، إن أهل السلف من هذا الزمان خافوا على القرآن بسبب ما «مَا شاهدوه من أهل عصرهم مَعَ قربهم من زمن الفصاحة ومشاهدة أَهلهَا من فَسَاد ألسنتهم وَاخْتِلَاف ألفاظهم وَتغير طباعهم وَدخول اللحن على كثير من خَواص النَّاس وعوامهم وَمَا خافوه مَعَ مُرُور الْأَيَّام وتطاول الْأَزْمَان من تزيد ذَلِك وتضاعفه».

إن الله بريء من المُشركين ورسوله

على الرغم من الشهرة الكبيرة التي يتمتّع بها أبو الأسود الدؤلي (توفي سنة 69هـ) في علم اللغة العربية بسبب اعتباره «المُنقِّط الأول» للحروف العربية، فإن الروايات التاريخية لا تُجمع على هذه المقولة، فبعضها نسبت هذا الفضل إلى العالم اللغوي نصر بن عاصم الليثي (تُوفي 89هـ) أو حتى إلى الفقيه اللغوي البصري المتأخر يحيى بن يعمر العدواني (توفي سنة 129هـ)، وهي الاختلافات التي حاول الداني التوفيق بينها بقوله «يُحتمل أن يكون يحيى ونصر أول من نقطاها (يعني الحروف) في البصرة، وأخذا ذلك عن أبي الأسود، فهو السابق إلى ذلك، والمبتدئ به».

هنا يجب التنويه إلى أن الاستخدام الأول لكلمة «التنقيط» ترادف ما نعتبره اليوم «التشكيل»، لأن الظهور الأول لعلامات التشكيل في اللغة العربية اتخذت فيه سمتْ النقط، قبل أن تتطوّر لاحقًا إلى الأشكال التي نعرفها اليوم؛ الضمة والفتحة والكسرة.

اختلفت الروايات حول واضع النُقط الأول، لكنها تجمع سببها في أن أعرابيًا دخل إلى المدينة في عهد الخليفة الثاني عُمر بن الخطاب، وفي أحد دروبها استمع إلى قارئ نطق آية من سورة التوبة تقول «إن اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولَه»، أخطأ القارئ ونطق كلمة «رسوله» مجرورة معطوفة على المشركين، وهو ما أثار غضب الأعرابي وقال «إن يكن الله بريء من رسوله فإني أبرأ منه»! وما أن بلغ هذا الفعل مسامع عُمر استدعى الأعرابي، الذي أكد له أنه استمع أنه لا علم له بآيات القرآن، وأن ما فعله مجرد استجابة للآية التي قُرئت عليه بالخطأ، وبسبب هذا الموقف أمر عُمر ألا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة كما كانت هذه الحادثة بداية لوضع قواعد علم النحو.

الشكل البدائي الأول في التنقيط، تمثل في أن أبا الأسود أُتي برجلٍ وطلب منه الاستماع إليه وهو يقرأ القرآن، وطُلب منه أن يأتي بالمصحف ويستمع إليه وهو يقرأ القرآن، ثم يكتب وراءه بلونٍ مختلف عن لون المداد الذي كُتبت به الآيات، وأوضح له «إذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله فإن أتبعت شيئًا من هذه الحركات غُنّة فانقط نقطتين».

القصة نفسها رُويت بتفاصيل مختلفة قليلاً جعلتها تحدث في ظل خلافة معاوية بن أبي سفيان وليس عمر، لكن تلك النسخة لا تحظى بإجماع المؤرخين مثلما هو الحال مع نسخة عُمر.

يؤكد الحلوجي: تنقيط/ ضبط آيات القرآن الكريم كان خطوة جريئة؛ لأن الرعيل الأول من المسلمين كانوا يعتبرون النقط دخيلاً على الكتابة ويتحرّجون من أن يدخلوا على القرآن ما ليس منه، وكأني بعُمر قد خشي أن يتزايد اللحن بمرور الأيام، وأن يتسبب في وقوع الخلافات والفتن بين المسلمين، فأقدم على نقط المصحف غير هيَّاب ولا وَجل.

ولا غرابة في عدم الشعور بالراحة من التنقيط فالعرب كانوا ينطقون الكلمات طبقًا لأوضاعها، من غير حاجة إلى ما يدل على بنية الكلمة وإعرابها، لما هو متأصل في نفوسهم من سليقة الفصاحة والبلاغة، لذلك كانوا يعدون تشكيل الكلمات أحد أنواع «سوء الظن»!

ومن المدينة خرج التنقيط إلى البصرة ومنها إلى بلاد المغرب وبلاد الأندلس، واستمرت عادة أن يكون التنقيط بلون مُخالف للون الكتاب مستمر لفترة طويلة، على الرغم من كراهة بعض العلماء لذلك وخوفهم من أن تكون سببًا في أي تحريف مستقبلي قد يُصيب النصَّ مستقبلاً.

تنقيط الإعجام

يقول خليل يحيى نامى في كتابه «أصل الخط العربي»، إن عملية تنقيط الحروف للتفريق بين المتشابه منها حدث في عهد بني أمية «لأن العرب كانت في أول عهدها بالكتابة لا تعرف التنقيط كما يظهر من النقوش العربية القديمة»، وهو ما يظهر في العديد من النقوش العربية التي تعود إلى عصور الجاهلية مثل نقشي زبد وحران أو حتى إلى أزمنة الإسلام الأولى. ويظهر في نقش سد معاوية الذي كُتب سنة 58هـ:

هذا السد لعبد الله معويه (معاوية) أمير المؤمنين بنيه (بناه) عبد الله بن صخر بإذن الله لسنة ثمن (ثمان) وخمسين اللهم اغفر لعبد الله معويه (معاوية) أمير المؤمنين وثبته وانصره ومتع أمير المؤمنين به كتب عمر بن جناب.
نقش سد معاوية

بخط مجازي منقط، كُتبت هذه الأسطر الستة على بعد 12 كلم جنوب شرقي الطائف، لوحة احتفالية بالانتهاء من تدشين سد معاوية، أو ما يُعرف بـ«سد سيسد» الذي أقيم لحجب مياه الأمطار والاستفادة بها، ويُظهر أن عملية تنقيط الحروف لم تكن قد اكتملت بعد حتى في هذا العصر، فالنقش يكاد يخلو من التنقيط في معظم حروفه.

هذا النحو تؤكده الوثائق البردية التي استعملت في هذه الفترة وأبرزها بالطبع رسائل النبي التي بعث بها إلى أبرز الملوك المحيطين به عام 6هـ، وكذلك الكتب التي وُضعت في المرحلة التأسيسية الأولى من زمن الإسلام وعلى رأسها المصاحف، وعلى الرغم من تشكيك بعض المؤرخين في مدى صحبة نسبة هذه الوثائق إلى أصحابها إلا أنها تكفينا دليلاً واضحًا على أن التنقيط لم يكن موجودًا خلال هذه الفترة سواء كانت هذه الأعمال خاصة بأصحابها فعلاً أو مدسوسة عليهم.

رسالة الرسول إلى هرقل
مصحف عثمان

يخالف هذا الرأي صالح الحسن في كتابه «الكتابة العربية من النقوش إلى الكتاب المخطوط»، والذي اعتبر فيه أن التنقيط كان معروفًا في العهد النبوي بِاسم «الرقش»، حتى وإن لم يكن سلوكًا شائعًا، ومن أبرز الأمثلة على ذلك اختلاف قراءة كلمة الآية السادسة من سورة الحجرات هل هي «تبينوا» أو «تثبتوا»، وما ورد في قصة هذا الاختلاف بأن الصحابي عبدالله بن مسعود كان يكتبها منقوطة في مصحفه.

ويعتبر أن عدم وجودها في النقوش الصخرية القديمة إنما يرجع لصعوبة التنقيط على الحجر، كما أنها لم تكن سلوكًا شائعًا في لغة العرب حينها بسبب كراهتهم لأي علامات ضبط على الحروف.

لا يتمتّع هذا الرأي الأخير بذيوع كبيرٍ، لكننا في جميع الأحوال نعرف أن صاحب قرار «تنقيط الإعجام» على نطاقٍ واسع، فكان هو الحجاج الثقفي الذي أمر كُتابه بأن يضعوا للحروف المتشابهة في الرسوم علامات تُميز بعضها عن بعض، وذلك بسبب شيوع اللحن في القراء بعصره، وهي المهمة التي قام بها باقتدار يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، لكن هذه المرة كتبوا النقط بنفس لون مداد الحروف وليس بلون مختلف، لأنهما اعتبرا أن النقاط المضافة هي جزء لا يتجزأ من الحروف.

وأغلب الظن أن العالمين اللغويين العراقيين تأثرا في هذا السلوك اللغوي بجيرانهم من السريان، والذين كانوا يكتبون بحروفٍ سريانية منقطة.

تسبب شيوع هذه الخطوة في قدرٍ من الإرباك في الكتابة العربية، بعد ما كثرتُ النقط حول الحرف ما بين واحدة تحمل دلالة إعرابية وأخرى للتفرقة بين الحروف المتشابهة، وتحفظ دار الكتب في القاهرة مصحفًا صغيرًا كُتب بهذه الطريقة يعود إلى الربع الأخير من القرن الأول الهجري، والخلاف الوحيد بين شكل أنواع النقط هو أن «تنقيط الإعجام» لم يكن ملونًا مثل «تنقيط التشكيل».

هذه المشكلة حُلت على يدي العالم اللغوي الشهير الخليل بن أحمد، الذي عاش في العصر العباسي الأول، والذي غيّر من هيئة «تنقيط التشكيل» فأصبح يعتمد على صور الحروف، فالضمة أصبحت واوًا صغيرة في أعلى الحرف، والكسرة ياء تحت الحرف، والفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف، ولم يكتفِ الخليل بذلك وإنما أضاف أيضًا خمس علامات أخرى تُكتب فوق آيات القرآن، هي السكون والشدة والمدة وعلامة الصلة والهمزة، وبهذا أمِنَ الخليل ألا يقع التباس على قارئ القرآن بسبب كثرة علامات التنقيط، وهو نفس النهج الذي نسير عليه حتى اليوم.