قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها” أخرجه أبو داود

في عام 1930، صدر كتاب “تجديد الفكر الديني في الإسلام” للفيلسوف والشاعر الباكستاني محمد إقبال رحمه الله. ومنذ ذلك الوقت، لم يتوقف ترديد ذلك الشعار الذي ملأ الدنيا وطرح تلك القضية التي شغلت الناس. وقد صدرت أعمال كثيرة تحمل عناوين متقاربة أو متطابقة مع ذلك الشعار منها “تجديد الفكر الإسلامي” للمفكر السوداني حسن الترابي 1982، و “تجديد الفكر الإسلامي” لمجموعة من العلماء عن مجمع الملك عبد العزيز 1989، فضلا عن المشروع الضخم للمفكر المصري حسن حنفي “التراث والتجديد” والذي بدأه عام 1980.

ومع تصاعد وتيرة الصراع بين الجماعات الإسلامية المسلحة وبين الدولة في ختام الثمانينات، انتقلت القضية وشعارها من التداول الثقافي إلى ساحة المجال العام، حيث تبنت الدولة متمثلة في مؤسساتها الدينية (وزارة الأوقاف والأزهر) الدعوة إلى “تجديد الخطاب الديني”، وكان هذا هو التحول الأول الذي طرأ على الشعار.

لم يعد الحديث عندئذ عن فكر يتجدد، وإنما عن تجديد يتعلق بالخطاب أي بالأشكال التي يطرح فيها هذا الفكر؛ ولذا فإنها كلمة أكثر مناسبة لغايات الدولة التي تتعلق بالخطاب الذي يؤثر مباشرة في المجال العام دون الفكر الذي تبدعه وتتحاور حوله النخب، كما كانت أنسب لغايات الجماعات الإسلامية في الوقت نفسه التي تسعى إلى تجديد أشكال الاستقطاب والتجنيد الجماهيري.

كان أبرز من أدخل مفهوم الخطاب الديني في السياق العربي هو د. نصر حامد أبو زيد حين أصدر كتابه “نقد الخطاب الديني” عام 1990. لم يتحدث الكتاب عن تجديد خطابي وإنما عن نقد الخطاب الديني بالمعنى الفوكوي للخطاب (نسبة إلى ميشيل فوكو الفيلسوف الفرنسي الذي درس مفهوم “الخطاب)، أي تلك المعرفة التي تصنعها وتتبناها مؤسسة سلطوية كتعبير عن قوتها وأداة من أدواتها. رفض المؤلف التفريق بين خطاب معتدل وآخر متطرف بخلاف دعوة المؤسسة الدينية أو محاولات الجماعات الإسلامية، بل رأى أن كل تلك الخطابات تشترك في بنية واحدة تقوم على عنصري النص والحاكمية. رفض نصر الخطاب الديني كله، إسلاميا أو غير إسلامي، وكان صريحا في دعوته إلى خطاب علماني أو خطاب العقل الذي يعيد قراءة الدين كظاهرة تاريخية.

كان هذا الخلط في مفهوم الخطاب إحدى الإشكاليات الكامنة التي جعلت من تجديد الخطاب الديني، قضية لا يمكن حسم الحديث حولها ولا يمكن في الوقت نفسه الشروع فيها أبدا.

لا يسعى إذن، من يتعامل مع الخطاب الديني وفقا للمنظور الفوكوي الذي سبقت الإشارة إليه، إلى تجديد ذلك الخطاب، بل يسعى إلى تجاوزه بوضعه في سياقه التاريخي ومن ثم تجريده مما له من سلطة.

لا يتعامل المتدينون مع الخطاب الديني وفقا لهذا المنظور الفوكوي، وإنما يرونه معبرا عن مضمون الدين نفسه، أو عن الأشكال التي يؤدى فيها هذا المضمون كما ذكرنا من قبل. ومن ثم يرى المتدينون أن الخطاب الديني لا بد من الحفاظ عليه ولكن يمكن تجديده وفقا لرؤية معينة. ففي كتابه (رسالته للدكتوراه) “التجديد في الفكر الإسلامي” يحدد د. عدنان محمد أمامة المحاور الثلاثة لذلك التجديد كما يراها، وهي:

1- إحياء ما انطمس واندرس من معالم السنن.

2- قمع البدع والمحدثات.

3- تنزيل الأحكام على ما يجد من وقائع وأحداث.

هذه المحاور تقابل الدوائر الثلاثة للتجديد (المشروع) كما رآه وكما حددها الشيخ محمد شاكر الشريف في كتابه “تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف” وهي:

1- نشر العلم بين الناس.

2- إزالة كل ما علق بالدين.

3- التمسك بما ورد في الشرعة كله.

لكن المحاور أو الدوائر السابقة لا تشمل أي إضافات نظرية (جديدة) على النسق القائم بالفعل، مما يطرح السؤال حول حقيقة التجديد ما هو؟ هل يتوقف التجديد عند حدود الإحياء ونفي الجديد، أم أنه يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك؟ إن مفهوم التجديد يبدو حينئذ مفهوما خاويا لا يمكن أن يتحقق في مقابل واقعية التقويض العلماني أو الإحياء السلفي.

في تحديده معنى التجديد، يحافظ د. يوسف القرضاوي على تلك النظرة السابقة إلى التجديد، حين يرى أن التجديد ينبغي أن يعنى أولا بالحفاظ على جوهر البناء القائم وترميم أركانه؛ لكنه يضيف بعدا ثالثا للتجديد يتمثل في إدخال تحسينات على هذا البناء، لكنها تحسينات لا تبدل طبيعته ولا تغير صفته.

أما محمد أبو القاسم حاج حمد المفكر السوداني، فيرى أن التجديد يعني الانتقال من دورة حضارية ونسقها المعرفي إلى دورة حضارية جديدة ذات نسق معرفي جديد. ولذا فإن التجديد لا يعني أن تؤوَّل آيات القرآن تأويلا جديدا مناسبا للمعايير الحضارية الحديثة، وإنما يعني أن يُكتشف من مكنون القرآن ما لم تتمكن الأدوات المعرفية التراثية من التوصل إليه، وما سمحت لنا مكتسبات المعرفة البشرية من محددات نظرية جديدة (كالصيرورة والتشيؤ والتحليل)؛ حيث نتمكن بتلك الأدوات الجديدة من اكتشاف مكنون القرآن الذي يستوعب “المتغيرات النوعية” في الحياة الإنسانية والتي لم يعالجها أسلافنا. فالتجديد عند حاج حمد له طابع جذري نسقي لا يعرف الإحياء وإنما يسترجع التراث “استرجاعا نقديا” يستوعب صوابه ويتجاوزه في الوقت نفسه.

“تجديد الخطاب الديني” شعار غير محرر يحمل تناقضات داخلية ويحتاج إلى تحليل وتحرير يعطيه الإمكان الواقعي الجدي.


المراجع:

1- نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، ط3 2007.

2- التجديد في الفكر الإسلامي، عدنان محمد أمامة، دار ابن الجوزي، ط1 1424ه.

3- تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف، محمد شاكر الشريف، مجلة البيان، ط1 2004.

4- الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، ط2 1999.

5- العالمية الإسلامية الثانية، محمد أبو القاسم حاج حمد، دار الساقي، ط3 2012.

6- الإسلام ومنعطف التجديد، محمد أبو القاسم حاج حمد، محاضرة مصورة على اليوتيوب، 2003.