ما يحدث في معهد البحوث العربية التابع لجامعة الدول العربية واستهداف مديرته الأستاذة الدكتورة نيفين مسعد أمر محزن للغاية. فبدلا من وضع كافة الإمكانات المادية والمعنوية لتعزيز رسالة المعهد وتدعيمه بكافة معايير العمل الأكاديمي والبحثي، تم استهدافه وضرب أبجديات الحريات الأكاديمية من خلال التنقيب عن آراء سياسية لمديرته وعزلها عن منصبها في سابقة لا مثيل لها.

لا يجب أبدا محاسبة الأكاديميين عن آرائهم السياسية، ولا يجب إقحام المؤسسات التعليمية، من معاهد وجامعات ومراكز بحثية، في الخلافات السياسية أو الشخصية، ولا يجب أن تكون هذه المعاهد والجامعات والمراكز ساحة لتصفية الحسابات أو مكافأة الموالين ومعاقبة المعارضين.

من لا يحترم رغبة الشعوب واختياراتها فيمن يحكم وفي السياسيات التي تعتمد، لا يحترم الأكاديميين ولا يقدر أعمالهم

حوكمة المعاهد العلمية والجامعات ومراكز البحوث لابد أن تعتمد حصرا على مدى الإنجاز التي تقوم به في إطار رسالتها التعليمية والبحثية والمجتمعية وبالاحتكام إلى أسس علمية محددة وقوانين ولوائح معتمدة وقواعد حاسمة للنزاهة الأكاديمية والأمانة العلمية. ولا يتحقق هذا إلا باستقلال الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية إداريا وماليا بشكل تام عن السلطات التنفيذية القائمة.

للأسف لا تزال كل مؤسساتنا التعليمية والجامعية والبحثية بعيدة كل البعد عن هذه الحالة، بل ويتم استهدافها واستهداف الأكاديميين بشكل دوري من قبل السلطات الحاكمة دون أدنى اعتبار لتاريخ هذه المؤسسات ولا مستقبلها.

لكن هذا الوضع هو نتيجة طبيعية لنوعية نظم الحكم القائمة في دولنا العربية منذ الاستقلال. فمن لا يحترم رغبة الشعوب واختياراتها فيمن يحكم وفي السياسيات التي تعتمد، لا يحترم الأكاديميين ولا يقدر أعمالهم، ويستخدمهم في تدعيم سلطة الفرد أو القلة ويستهدفهم متى شعر بخطورتهم.

إن الحريات الأكاديمية جزء لا يتجزأ من الحريات العامة ولن تتحقق جزئيا. فليس هناك دولة واحدة يتمتع فيها الأكاديميون بالحريات الأكاديمية بينما تخترق السلطات الحاكمة أبجديات الحريات العامة والحقوق الأساسية كل يوم.

ولهذا فقد حان الوقت أن يصطف كل أساتذة الجامعات العربية وكل المثقفين العرب مع الحريات والحقوق ودولة القانون في كل قطر عربي، وحان الوقت للتخلي عن النظرة الضيقة لقضايا التعليم والحريات الأكاديمية والتصور أنه يمكن إصلاح التعليم فقط بدون معالجة صلب مشكلاتنا والسبب الأول لتراجعنا الحضاري وهو نوعية نظم الحكم القائمة وقضية الحريات العامة.

إن أسباب الربط بين الحريات الأكاديمية والحريات العامة وأولوية السياسة أسباب متعددة، أهمها:

أولا: إن معظم حالات النهضة المعاصرة كان التعليم ركيزة أساسية فيها، لكن النهضة عملية معقدة وتتطلب رؤية كلية وشاملة من قيادات ونخب واعية ومسؤولة، وتحتاج إلي وعي ويقظة من قطاعات واسعة من الجماهير، وتستلزم موارد بشرية ومالية وأجواء ثقافية لا يسيطر عليها الخوف والقمع ومحاربة العلم وسيادة الجهل. ولهذا لا أعرف نهضة واحدة قامت في ظل نظام سياسي إقصائي واستعلائي تديره عقليات تفكر بمنطق متقادم. والاستثناءات هنا قليلة للغاية ولكن معظمها أيضا لا يستقيم إذا كانت غايتنا هي نهضة شاملة وحقيقية تمس كافة الفقراء والمهمشين والضعفاء وتعالج مثالب الحضارة الغالبة اليوم، ولا تقتصر على بناء الناطحات والمنتزهات والمنتجعات وإثراء الأثرياء ورمي الفتات للفقراء.

ثانيا: حققت القوى الوطنية في أكثر من بلد عربي بعض الإنجازات على طول تاريخها الوطني في التعليم وفي غيره، لكن المنتج النهائي لهذه الإنجازات ظل ضئيلا ولم يتقدم إلى الأمام في ظل الانقطاعات الحادة التي تشهدها السياسة مع كل رئيس أو ملك جديد، وفي ظل طبيعة النظام السياسي التسلطي الذي يغيب فيه أي عقل جمعي مدبر لشؤون البلد وأهدافها الوطنية وأولوياته العليا والذي لا يمكن أن يستمر إلا مع منطق التجهيل ومحاربة العلماء والنابهين وتقريب المنافقين والمستفيدين.

وفي مصر، على سبيل المثال، كل ما حققه بعض الشرفاء من أساتذة الجامعات في عهد مبارك لم يصب في النهاية في صالح نهضة تعليمية حقيقية وظل جزرا منعزلة وسط جسم تعليمي كبير يعلي من شأن المصالح الخاصة والشخصية، ويقنن الفساد، ويقتل الإبداع، ويزرع اليأس، ويبيع شهادات لا قيمة لها تقريبا لملايين من الطلاب.

وكل الانجازات الجزئية ضاعت هباءً منثورا في ظل نظام إداري متخلف، وإطار دستوري وقانوني معوق، ونظام إعلامي فاسد يروج للتفاهات ويمكن من خلاله لمذيع غافل أو مسلسل تافه أو فيلم ساقط أن يطيح بما زرعته المدارس والجامعات من قيم إيجابية لسنوات وسنوات.

الثورة حاكمة لنا جميعا، وهي بوصلتنا، وفساد السياسة هي أساس كل مشكلاتنا الاقتصادية والتعليمية والصحية وغيرها

ثالثا: تعيش عدة دول عربية منذ أواخر عام 2011 حالة ثورية كبرى، لكن النخب السياسية التقليدية لم تدرك أهمية هذه الحالة وراحت تدير المرحلة بعقول تقليدية في غاية المحافظة، وتم قمع الغالبية العظمى من الأفكار التي قدمها الشباب والشيوخ، هذا ناهيك عن الإلتفاف علي هذه الثورات ومحاولة احتوائها بكل الطرق الممكنة.

وفي مصر، تحديدا، لم يتقدم ملف التعليم خطوة واحدة إلى الأمام بعد الثورة في ظل فشل المسارات السياسية لبناء دولة القانون والحريات والمؤسسات، بل وامتدت قبضة الدولة إلي الجامعات والمراكز البحثية. كما صدّر الصراع الصفري العدمي بين القوى السياسية العنف إلى الجامعات مما عقد الكثير من الأمور. والسبب الأساسي هنا هو استمرار نفس العقليات التقليدية في إدارة شؤون الكليات والجامعات والتمسك بمنطق «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ» (من الآية 22/ الزخرف) أو بمقولة شائعة مفادها ليس بالإمكان أبدع مما كان وذلك من جهة، وبقاء كافة العقبات الهيكلية والحكومية والقانونية بحكم أن الثورة لم تغير شيئا في ظل فشل السياسيين وذلك من جهة أخرى.

رابعا: ولهذا وفي ظل حالة عدم الإستقرار المصاحبة لكل الثورات، فإنه لا يمكن تصور أنه من الممكن إصلاح قطاع هنا أو هناك بينما تستمر المعارك السياسية الكبرى ويعلو أصوات أشباه المتعلمين في كل مكان.

إن منطق الثورة يفرض أولويات الثورة، والأولوية هنا هي لتغيير نمط ممارسة السلطة، بالتركيز على بناء النظام السياسي البديل، بكافة قيمه ومؤسساته وضوابطه وضماناته،النظام الذي يُمكّن فئات واسعة من ممارسة السلطة (بدلا من منطق الإقصاء والإستعلاء الذي حكمنا ويحكمنا بأشكاله المختلفة) ويحمي الكرامة والحقوق والحريات ويقيم دولة القانون والمؤسسات المدنية والمواطنة. وذلك على اعتبار أن مثل هذا النظام سيفرز حكومات ومؤسسات منتخبة قادرة على وضع المصلحة العامة فوق أي اعتبار آخر، وقادرة في ذات الوقت على التصدي – بشكل جذري وعلمي – للقضايا العادلة الأخرى كقضايا التعليم والعدالة الاجتماعية والصحة والفساد، وقادرة أيضا على الاستفادة من أفكار التطوير والإصلاح ووضعها ضمن خطة وطنية شاملة ودون أي أهواء شخصية أو مصالح فئوية.

الثورة حاكمة لنا جميعا، وهي بوصلتنا، وفساد السياسة هي أساس كل مشكلاتنا الاقتصادية والتعليمية والصحية وغيرها.ولهذا أرى أن على أساتذة الجامعات والمثقفين العرب وكافة من يشغله الهم العربي الانضمام إلى منطق الثورة قولا وفعلا، وذلك من خلال: (أولا) التمسك بمبدأ الدفاع عن الحريات والقانون والتخلي عن أي معايير مزدوجة في هذا المقام، ومقاومة كافة الأفعال التي ترسخ دولة الوصاية وقمع الحقوق واستمرار الأوهام التي تخير الناس بين الأمن والحرية، و(ثانيا) التخلي عن الصراعات التاريخية والعدمية والمذهبية والتكتل وراء هدف وطني جامع هو الاتفاق على قواعد التنافس السياسي أي على بناء الأطر الدستورية والقانونية والمؤسسية والحقوقية العادلة والفعالة كمقدمة طبيعية لتهيئة المجال العام لإصلاح التعليم وإعادة بناء معاهدنا وجامعاتنا ومراكزنا البحثية.

كتب عبدالرحمن الكواكبي قبل أكثر من مائة عام كلمات لا زالت صالحة لأوضاعنا الراهنة. قال: «إن الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها، هو يقلب القيم الأخلاقية رأسا على عقب ليغدو طالب الحق فاجرا وتارك حقه مطيعا، والمشتكي المتظلم مفسدا، والنبيه المدقق ملحدا، والخامل المسكين صالحا أمينا. وتصبح تسمية النصح فضولا والغيرة عداوة والشهامة عتوا والحمية حماقة والرحمة مرضا، وأيضا يغدو النفاق سياسة والتحايل كياسة والدناءة لطفا والنذالة دماثة، وأنه – أي الاستبداد – يُرغم حتى الأخيار من الناس على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غيِّ نفوسهم آمنين من كل تَبِعة، ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح».


* أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة الإسكندرية والباحث الزائر بجامعة دنفر الأمريكية.