عطارد هو حتماً الابن الأصغر في المجموعة الشمسية، فاهتمام الجميع منصب إما على الأرض كونها كوكبنا الأم، إما على المريخ كونه ملجأنا الوحيد في حال تم ابتلاع الأرض من قِبل الشمس أو تدميرها من قِبل البشر (أيهما أقرب).

ونسي أو تناسى الجميع أهمية دراسة كوكب عطارد، فعطارد هو أقل الكواكب استكشافاً من قِبل البشر، و لا أملك عذراً كافياً على هذا الإهمال فسأكتفي بالاعتذار لعطارد وإهداء هذا المقال له. فأهمية دراسة كوكب عطارد تنبع من حاجتنا لمعرفة بداية وتطور تكوين الكواكب الصخرية، الذي بدوره سينعكس بشكلٍ أو بآخر على فهمنا لتكوين كوكب الأرض.


تاريخ من زاروا عطارد

آخر مركبة زارت عطارد كانت «Messenger»،التي أُطلقت من خمسة عشر عاما، تسبقها «Mariner 10» عام 1973. وقد تعلمنا كل ما نعرفه عن عطارد من هاتين المركبتين؛ فمركبة «Mariner» التي عبرت بكوكب الزهرة وكوكب عطارد معاً، أخبرتنا أن ما يبلغ من 80% من كتلة عطارد تحتوي على المعادن كما أكدت أن عطارد كوكب بلا غلاف جوي. وأيضاً يعود الفضل إلى «Mariner 10» لالتقاط أول صورة لسطح الكوكب الذي اتضح أنه شبيه بالقمر إلى حد كبير.

صورة لسطح كوكب عطارد أُخذت بواسطة مركبة Mariner 10.

أما مركبة Messanger، فلها إنجازات عديدة أيضاً، فلقد عبرت بالكوكب ثلاث مرات ودخلت التاريخ كونها أول مركبة فضائية تدور حول عطارد. وبالإضافة إلى اكتشافاتها العلمية المختلفة، أكدت Messanger وجود جليد داخل حفر الكوكب العميقة التي لا يصل إليها ضوء الشمس.

صورة تخيلية للمركبة Messanger و هي تدور حول كوكب عطارد

عطارد، نعود إليك من جديد

بعد مرور خمسة عشر عاماً على آخر مهمة فضائية إلى عطارد، أخذت وكالة الفضاء الأوروبية البادرة للعودة إليه مرة أخرى بالمهمة الفضائية BepiColombo. اسم المهمة هو تخليدًا لذكرى العالم Giuseppe (Bepi) Colombo الذي عُرف بإسهاماته في فهم كوكب عطارد، وأيضاً في مهمة Mariner 10 باقتراحه لأول مرة استخدام جاذبية أحد الكواكب (الزهرة في هذه الحالة) لتغيير سرعة المركبة الفضائية.

من ضمن أهداف المهمة دراسة نشأة كوكب عطارد و إن كان قربه من الشمس قد أَثَّر في كيفية تكوينه، والتباحث في أمر انكماش حجم عطارد الذي أكدته مهمة Messanger من قبل، ودراسة انحراف المجال المغناطيسي عن مركز الكوكب، وتتضمن المهمة الدوران فوق قطبي الكوكب، مما يتيح الفرصة لدراسة أمر وجود الجليد على عطارد بشكل أكثر وضوحاً من ذي قبل.


أجزاء المهمة

مهمة «BepiColombo» هي في الواقع تعاون بين وكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء اليابانية، فالمهمة تتكون من ثلاثة أجزاء:

1.المسبار الأوروبي المسمى بـ «Mercury Planetary Orbiter»: على متن هذا المسبار إحدى عشرة تجربة علمية؛ فمن خلال دورانه في مسارٍ قطبي حول عطارد سيجري المسبار الأوروبي عدة قياسات تتعلق بدراسة مخطط سطح الكوكب، بنيته الداخلية ومجال الجاذبية حوله. كما سيقوم بدراسة نواة الكوكب وحجمها ومكوناتها. 2. المسبار الياباني المسمى «Mercury Magnetosphere Orbiter»: على متن هذا المسبار خمس تجارب علمية، فالمسبار الياباني سيدور حول عطارد في مسار بيضاوي قطبي، ومن مكانه هذا سيهتم بالدراسات المتعلقة بطاقة الكوكب؛ كمجاله المغناطيسي وجزيئات البلازما المشحونة حوله، وأيضاً دراسة طبقة الإكسوسفير وتركيز الصوديوم فيها.

صورة توضح الفرق بين مسار دوران كل من: المسبار الأوروبي (المسار القطبي الداخلي) والمسبار الياباني (المسار البيضاوي الخارجي)

3. الحامل لكلا المسبارين المسمى «Mercury Transfere Module»: الحامل لكلا المسبارين من بناء وكالة الفضاء الأوروبية أيضاً، وهو بمثابة وسيلة المواصلات للمسبارين الأوروبي والياباني إلى عطارد.

إن كنتم تظنون أن ذهاب البشر إلى قلب المجموعة الشمسية (الشمس) وإلى أقصاها (بلوتو) سيجعل من الذهاب إلى عطارد أمراً سهلاً، فأنتم مخطئون! فالذهاب إلى عطارد في واقع الأمر يتطلب طاقة أكبر من تلك المبذولة في الذهاب إلى بلوتو! أعلم أن هذا أمر صعب التصديق، ولكن دعونا ننظر إلى الرحلة بشكل مفصل أكثر.


الرحلة: تحديات وعوائق

عطارد، ناسا، المجموعة الشمسية

انطلقت المهمة في العشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018، ومن المُقَدر لها أن تصل في الخامس من ديسمبر من عام 2025. ولكن، إن كان عطارد في الباحة الخلفية لمجموعتنا الشمسية، لماذا يتطلب الذهاب إليه حوالي سبع سنوات؟

صورة توضح انطلاق مهمة BepiColombo من على متن الصاروخ اريانا 5

الذهاب في مهمة باتجاه الشمس يعتبر تحدياً كبيراً، فالمركبة الفضائية حينها تخوض حرباً مستمرة بين البقاء على مسارها والاستسلام لجاذبية الشمس المستعدة لابتلاعها في أي وقت. لذلك، يتم استخدام تكنيك يسمى gravity assist وهو الدفع والتوجيه باستخدام الجاذبية ويعمل هذا التكنيك باستخدام جاذبية كوكب ما لتساعد على تغيير سرعة المركبة الفضائية.

المهمة BepiColombo ستستخدم هذا التكنيك تسع مرات! حيث سيتم استغلال جاذبية الأرض والزهرة و عطارد نفسه لتغيير سرعة المركبة الفضائية وإبقائها على مسارها قبل الوصول إلى مسار دوراني مستقر حول عطارد. حينها سينفصل المسباران عن الحامل ليستعدا للوصول إلى مساراتهما المنفصلة.

مسار المهمة منذ الانطلاق من الأرض وحتى وصولها إلى عطارد مروراً بكوكب الزهرة.

مرة أخرى تعود الشمس لترمي تحدياً آخر في وجه المهمة؛ ألا وهو درجة الحرارة! ستتعرض المهمة خلال الطريق لدرجات حرارة تتعدى 400 درجة سيليزية. قد تظنون أن مثل هذه الحرارة المرتفعة تعني أننا ليس علينا القلق بشأن توفير الطاقة للمركبة؛ فالألواح الشمسية ستمتص كل هذه الحرارة وتحولها إلى طاقة. ولكن في واقع الأمر، هذه الحرارة تثير القلق أكثر من الراحة! فالألواح الشمسية ليست مصممة للعمل عند درجات حرارة مرتفعة بهذا الشكل، ولكن مهندسي وكالة الفضاء الأوروبية توصلوا إلى حل، هو أن يتم دوران الألواح الشمسية حتى لا تواجه الشمس مباشرة مما يستلزم صنع ألواح شمسية بمساحة كبيرة، حتى تستطيع تجميع أكبر قدر من حرارة الشمس وهي بعيدة عنها، فتُقَدر مساحة الألواح الشمسية لحامل المسبارين بـ42 مترًا مربعًا. وبالطبع، هذه الحرارة تستلزم وجود طبقات حماية ضد الشمس والإشعاع لجميع مكونات المركبة.

صورة توضح أحد أذرع الألواح الشمسية لحامل المسبارين أثناء القيام باختبارها

بالرغم من كل هذه التحديات وبذل طاقة أكبر من تلك الأزمة للذهاب إلى بلوتو، ما زلنا نريد زيارة عطارد مرة أخرى حتى إن كلفنا الأمر استخدام جاذبية ثلاثة كواكب وسبع سنوات! نريد زيارة عطارد مرة أخرى لنسد الثغرات في فهمنا له ولأن عطارد يستحق.

إلى عطارد: ما زلنا نهتم.