أنت في مصر وإن كان جسمك في سيلان، فذكرك في الألسن ورسمك في الأعيان يذكرك بالماضي العظيم، سرى صوتنا في البلاد، وتنبه الناس من الرقاد، وتبعنا الوطن أمشاج، وتوارد علينا زمر وأفواج.

ربما تذكر عبد الله النديم وهو يكتب هذه الرسالة من مخبئه في مصر إلى صديقه ورفيق كفاحه أحمد عرابي في منفاه بعيدًا عن وطنه، ربما تذكر ذلك المساء البعيد الذي كان يجلس فيه لأول مرة، هناك في إحدى المقاهي العتيقة بالقاهرة، كان يجلس بجوار أحمد عرابي أمام أستاذهما الأفغاني.

الله وحده يعلم الحديث الذي دار بينهما في ذلك اللقاء الأول، لكن يمكننا القول إن النديم وعرابي قد دشنا بذلك اللقاء الفصل الأول للثورة العرابية التي كادت تقضي على عرش أسرة محمد علي.

وهو ما يدفعنا للتركيز على الحديث عن حياة هذا الثنائي الذي غيَّر من تاريخ مصر، كيف نشآ؟ وكيف تصادقا؟ ومَن أقنعهما بالثورة؟

صعاليك وذوات

لم يكن عرش مصر هو الإرث الوحيد الذي ورثه الخديو إسماعيل عن محمد علي، لكنه ورث معه شيئًا آخر يكمن في ذلك الحلم القديم الذي راود محمد علي حين أتى إلى مصر جنديًّا عثمانيًّا، وهو أن يلحق مصر بموكب الحضارة الأوروبية.

كان من الأقوال المأثورة للخديو إسماعيل قوله الشهير: «أريد أن تكون بلادي قطعة من أوروبا»، كان ذلك الحلم وهوس إسماعيل بأوروبا يمثل الجسر للأجانب الذين جاءوا عبره بكل ثقلهم وأموالهم إلى مصر، فالرجل الذي أراد أن يحول مصر قطعة من أوروبا – ظاهريًّا فقط – أغرق البلاد في ديون لا طائل من ورائها، وهؤلاء الدائنون الأجانب أصحاب رءوس الأموال الأجنبية، الذين عجت بهم البلاد أصبحوا يزاحمون الشعب في قوته ومصدر رزقه.

فتري مراسل مجلة (التايمس) في القاهرة يقول: «إن أكثر كبار الموظفين من الأجانب، ويظهر أن المرتبات الضخمة لا بد منها لتخفيف حنينهم إلى أوطانهم»، ومراسل آخر في الإسكندرية: «مما يلهو به الزوار ويتهكمون أن يحصوا الموظفين الأوروبيين القاعدين، الذين يتقاضون اَلاف الجنيهات في الوقت الذي لا يستطيع فيه مئات من موظفي الحكومة الوطنيين الحصول على مرتبات قليلة متأخرة من العام الماضي».

كان المرابون في ذلك الوقت يقدمون للدولة أموالهم بفوائد باهظة، وما إن يضيق الحال بالحكومة يسدد الفلاحون هذه الأموال في صورة الضرائب التي تجبى منهم، ولا يكتفون بذلك بل يطلبون تعيين وزراء أجانب يمثلونهم.

من الشواهد التي تحمل دلالة واضحة على التناقضات التي سادت ذلك العصر، في حقبة من الزمن وفي أحد شوارع مدينة جاردن سيتي كانت هناك لافتة تحمل اسم (أفراح الأنجال) نسبة لحدث استمر أربعين ليلة عندما أراد إسماعيل أن يحتفل بزواج أربعة من أبنائه. أربعين ليلة أضيئت فيها القاهرة كلها وصُرفت ألوف الجنيهات، كان ذلك يشكل استفزازًا صريحًا لهؤلاء الذين يعانون وحدهم من كارثة الديون ويتكبدون الأوبئة والمجاعات، حيث هناك في الصعيد من يموت من الجوع حرفيًّا لا مجازيًّا.

وسط هذا الجو الخانق الذي تميز بهوة سحيقة تفصل بين طبقتين، طبقة ذوات وأتراك متخمة بقوت طبقة أخرى تموت جوعًا، كان محتمًا أن تنمو فئة من المتسولين والصعاليك الذين يبحثون عن الفتات بالعمل عند هؤلاء الذين لا يتزحزحون عن مكانهم في أعلى الهرم الطبقي، ومن رحم هؤلاء القابعين في أسفل الهرم جاء عبد الله النديم. 

وُلِد النديم لأب خباز في إحدى حارات مدينة الإسكندرية، المدينة الكوزموبوليتانية التي احتوت جموعًا غفيرة ذات خلفيات اجتماعية وطبقية مختلفة؛ وطنيون فقراء وخواجات أغنياء يهبون عليهم كوابل من رصاص، وربما يكمن في ذلك أول ما شهد النديم من تناقضات عصره.

يكبر النديم ويرسله أبوه إلى الكتَّاب ليتعلم اللغة والدين ولكنه ينصرف مبكرًا عن هذه الدروس التي يتلقاها أقرانه في المدارس ليخرج إلى المدرسة الأكبر، وهي الحياة والشوارع التي سيستقي منها خبرته ورؤيته الخاصة لوجدان ذلك الشعب، فيعمل زجالًا أو «أدباتيًّا» حسب الاصطلاح الذي كان سائدًا في ذلك العصر، ينشد الأزجال في المقاهي ويلقي النوادر في مجالس الأغنياء، ثم يشد الرحال إلى القاهرة حيث يعمل في التلغراف في القصر العالي الذي كانت تسكنه والدة الخديو إسماعيل، وهناك سيتعرف على نوعٍ آخر من البشر ونوعٍ آخر من الحياة، حياة الملوك والباشوات والنخبة الحاكمة، ولكن سرعان ما تدبر له مكيدة داخل القصر من العاملين ويطرد منه شر طردة.

وجد النديم مبتغاه أخيرًا بعد سنوات الصعلكة هذه عندما تعرف على مجلس جمال الدين الأفغاني، المفكر الثوري الذي شكل بآرائه البشائر الأولى للثورة العرابية. يقول الإمام محمد عبده في مذكراته إن الأفغاني «أخذ يحمل من يحضر مجلسه من أهل العلم وأرباب الأقلام على التحرير وإنشاء الفصول الأدبية والعلمية في مواضيع مختلفة لا تخرج جامعتها عن إصلاح الأفكار وتهذيب الأخلاق». منذ تعرف النديم على ذلك المجلس خلع  رداء الأدباتي ولبس رداء الأديب، وراح يعمل بالصحافة المعارضة متوجهًا بمقالاته إلى مختلف الفئات من عمال وفلاحين ومثقفين، ومن يؤدي ذلك الدور أفضل منه وهو الذي عاش بين أفراد ذلك الشعب في سنوات صعلكته، فكان أقدر الناس على مخاطبتهم؟

فلاحون وأتراك

كان المد الأجنبي قد طال إلى كل شيء، فلم يسلم الفلاح المصري والأرستقراطية الزراعية من الرأسمالية الأوروبية التي سحقت نظراءهم في المدينة من الموظفين والتجار المصريين، فالمرابون الأجانب كانوا يقومون بأعمال الرهونات بأموالهم التي تسيل لعاب الإقطاعيين الزراعيين الغارقين في حياتهم الاستهلاكية، فينتهي بهم الأمر إلى بيع الأرض للأجنبي الذي يغري عينيه، وبالتبعية يباع عرق الفلاح إلى الأجنبي.

الفلاح الذي كانت دنياه تتمحور حول قطعة الأرض التي يعمل بها وتدر عليه قوت يومه، قد استيقظ يومًا ليجد أن الأرض قد ضاقت عليه بما رحبت.

في كتابه المعنون الثورة العرابية أورد «صلاح عيسى» ما قاله الكاتب الإنجليزي «دونالد ماكينزي والاس» في كتابه «مصر والمسألة المصرية»، فيقول إنه عندما يعلم مدير المديرية أن الفلاح لا يملك أي نقود لسداد الضرائب كان يأتيه بالمرابي اليوناني لرهن أرض الفلاح، ويحدد شروطه لإقراض الفلاح، ثم يجلس المدير مع المرابي الأجنبي ليقتسما الغنيمة، وعندما تضطرهما الظروف يكرران نفس الأمر مع فلاح اَخر، وبالتالي فالفلاح كان يكدح لا ليسد رمقه ولكن لكي يجمع أموال الضرائب وليعطي الدائن الأجنبي دينه بفوائده.

امتدادًا لذلك التعسف الذي يقع على الفلاح الذي يعمل بشكل أقرب إلى السخرة، كان حال الفلاحين الذين التحقوا بالجيش أشبه بحال أقرانهم في الرقعة الزراعية، ولكن هذه قصة أخرى.

السياسة التي انتهجها محمد علي في تعامله مع الفلاحين الذين ألحقهم بالجيش يمثل قاعدة من القواعد الراسخة التي أرساها محمد علي وسار على دربه بعد ذلك أحفاده من الأسرة العلوية، فعندما اضطر إلى الاستعانة بالفلاحين لبناء الجيش سعى لسدِّ أي باب يمكن أن تأتيه الريح منه، فعمل على بقائهم في أدنى الرتب العسكرية، وأبعدهم تمامًا عن تولي مناصب قيادية في الجيش حتى لا يشكلوا أي خطر على السلطة.

لكن سعيد اعتبر الوحيد في عائلته الذي كسر هذه القاعدة، ففي عهده فتح باب الترقي أمام المصريين في الجيش، وبذلك القرار قد فتح سعيد لعرابي بوابة الدخول إلى ساحة عابدين.

لم يكن عرابي كسائر الفلاحين بالجيش، فقد صهرته عوامل أخرى شكلت ملامح الزعامة به مبكرًا. 

ولد عرابي في إحدى قرى مدينة الشرقية، وكان أبوه أحد مشايخ تلك القرية، وذلك المنصب هو ما عادله فيما بعد منصب العمدة، وكان أبناء المشايخ هؤلاء بحكم المناصب الرسمية التي يشغلها آباؤهم يلقون معاملة مختلفة في نشأتهم عن أقرانهم أبناء الفلاحين الذين يعملون في الأرض، وكانت المعاملة التي يرون آباءهم يعاملون بها من توقير وتبجيل زرعت في نفوسهم مبكرًا شيئًا من الأنفة والاعتزاز بالنفس؛ لذلك عندما التحق عرابي بالجيش ورأى غطرسة العنصر الشركسي وتعاملهم مع الفلاحين على أنهم بشر أدنى منهم وبشكل يشبه التعامل العنصري لم يستكن مثل أقرانه الفلاحين أبناء الكادحين في الأرض الزراعية، فهؤلاء ومنذ عهد محمد علي قد سحقت بداخلهم كل أسباب الثورة والشجاعة، فكان لا بد لهم من رجل ملهم كعرابي يعقدون الآمال عليه.

ويتضح لمن يلقي نظرة على مذكرات عرابي، التي أرسلها إلى صديقه مستر بلنت، علاقة الود التي كانت قائمة بينه وبين سعيد باشا، والتي أثرت به تأثيرًا بالغًا في بواكير حياته بسبب نزعة سعيد إلى تخليص المصريين من ظلم الشراكسة ورغبته في ترقيهم في جيش بلدهم، وحسب بلنت فإن عرابي قد كوَّن آراءه السياسية الأولى خلال هذه العلاقة بينه وبين سعيد. 

كان بين ما كتبه عرابي في مذكراته واقعة كاشفة وذات دلالة بالغة، فقد أهدى سعيد باشا لعرابي كتاب (تاريخ نابليون) وهو غاضب بسبب تمكن نابليون من دخول مصر، وعندما تناول عرابي الكتاب لم ينم حتى قرأه كاملًا، فعاد لسعيد وقال له إن نابليون استطاع ذلك لأن له جيش منظم ومدرب، وأنه – سعيد – يستطيع أن يبني لمصر ذلك الجيش، قال عرابي ذلك معربًا عمَّا يمور في نفسه من انفعال لحظي، ولم يعلم وقتها أن ذلك الخاطر الذي راوده سيكون إلهامه الأول ليقود ثورته بعد سنوات من ذلك.

كان حلم عرابي الذي ولد من رحم علاقته مع سعيد قد ضرب في مهده بسبب سياسة إسماعيل ومن بعده توفيق، فاستدعى الاثنان سيرة محمد علي في سياسته مع الفلاحين، فحالا دون ترقيهم إلى المناصب القيادية، فقد كانت هذه المناصب يشغلها الأتراك والشراكسة، كما أن الديون دفعتهم إلى التخلص من الضباط والجنود المصريين بالاستيداع لتوفير مرتباتهم.

كانت هذه الحياة قد أوجدت السخط في أحشاء الوطنيين بالجيش تجاه الخديو والشراكسة، أخذ يتراكم على مدى سنين منتظرًا الوقت المناسب للانفجار.

التقاء الصعلوك والزعيم

في غمرة التطور الفكري الذي استمر سنوات وعقودًا قبل الثورة العرابية برزت أسماء وتيارات كان لها دور رائد في الحياة الثقافية، على رأس هذه الشخصيات كان جمال الدين الأفغاني الذي بدأت ثورته الفكرية قبل الثورة العرابية بسنين قلائل، وقد أطلق بأفكاره ذات الطابع السياسي الشرارة الأولى للحراك السياسي بعد ذلك، فمن عباءة الأفغاني خرج سعد زغلول ومحمد عبده وخرج أيضًا قطبان من أقطاب الثورة العرابية، هما عبد الله النديم وأحمد عرابي، تشربا فكره معًا والتقيا لأول مرة في مجلسه وهما لا يعرفان أن مصيرهما قد تحدد ربما منذ ذلك اللقاء.

قبل الثورة بشهور أصدر النديم صحيفة «التنكيت والتبكيت»، فسلطت الضوء على الأوضاع المزرية بشكل غير مباشر لا يثير غضب النخبة الحاكمة، ولكن بعد الثورة أشار عرابي إلى ضرورة تغيير الاسم إلى «الطائف»، ومنذ ذلك الحين أصبحت الطائف الجريدة الرسمية للثورة، وأصبح النديم ملازمًا لعرابي أينما حل وارتحل، وكان ما يكتبه هو لسان حال الثورة، فيشن بمقالاته انتقادات لاذعة ضد الخديو حينًا والأجانب حينًا آخر.

هُزم عرابي في التل الكبير ودخل الإنجليز مصر، وبدأ احتلال استمر ما يزيد عن سبعين عامًا، على أثره نفي عرابي على سفينة مع ستة آخرين من رجال الثورة وقلوبهم تقطر دمًا، وعندما عاد بعد سنوات بقي وحيدًا في وطنه، فرفقاء الكفاح القدامى قد رحلوا واحدًا تلو الآخر، وما حاربه قد استوطن واستشرى تمامًا.

أما النديم فبقي في أواخر حياته كما بدأها، صعلوكًا مطاردًا لتسع سنوات في طول البلاد وعرضها، إلى أن رحل بمرض السل متخليًا عن رفيق دربه في محنته ليواصل عذابه وحيدًا حتى رحل هو الآخر عن الدنيا.

المراجع
  1. كتاب أيام لها تاريخ، أحمد بهاء الدين
  2. كتاب هوامش المقريزي، صلاح عيسى
  3. الثورة العرابية، صلاح عيسى