يرقد الطفل الصغير في فراشه، وبالرغم من أنه اختبأ أسفل غطاءٍ سميك فإنه لم يستطع أن يُخفي رأسَه تحته، وراح يمدُّ عينيه ما بين ساعة الحائط ونافذة غرفته، ينتظر تحقُّق القصة التي سمعها اليوم في الفصل؛ ما إن تنتهي الدقائق المتبقية من العام، سيزوره سانتا كلوز ويمنحه هدية سخية مكافأة له على تقديراته العالية طوال الشهر، فهل سيأتي حقًا؟

فلننتظر…

تحكي الأسطورة المتداولة عن رجلٍ عجوز اختار الانعزال عن البشر في القطب الشمالي، ولا يظهر إلا مع نهاية كلِّ عامٍ، بصحبة زلاّجاته وحيوانات الرنّة الثمانية. ينزلق إلى داخل البيوت عبْر المداخن، ويترك حفنة سخية من الهدايا تضمن لأصحابها فور استيقاظهم أن يبدؤوا عامهم الجديد بسعادةٍ وبِابتسامة عريضة على الوجوه.

أما عن الشخصية المنبع التي خرجت من تحت عباءتها كل هذه الحكايات الخرافية، فهو نيكولاس الذي وُلِد عام 270 ميلاديًا في مدينة باتارا ومنها انتقل إلى ميرا (ديمر حاليًا)، وجميعها تقع حالياً في تركيا. وفي الأخيرة، تم انتخابه أسقفًا، وعاش حتى مات بين العامين 326 و341 ميلاديًا بعد ما كثرت روايات كرمه وكراماته.

ربما أشهر هذه الحكايات، عندما عَرفَ أن رجلاً نبيلاً، ضيّق الحال، عجز عن تدبير مهر بناته الثلاث فتسلّل نيكولاس إلى داره وألقى عبْر نافذته ثلاث حقائب مملوءة بالذهب. وبخلاف تلك القصة، فإن الرجل كرّس حياته وثروته التي ورثها عن والديه اللذين ماتا في وباء، لمساعدة الفقراء، واعتاد أطفال القرية أن يستيقظوا ليجدوا العملات الذهبية داخل أحذيتهم فتعمدوا ترك نوافذ منازلهم مفتوحة، ووضع أحذيتهم على حوافها: طمعًا في الذهب.

وعلى الرغم من أن أسقف ميرا آثر الصمت عن أعماله الصالحة، فإن سرَّ خيرِه انكشف لاحقًا، وعرفَ الأهالي أن الهدايا الثمينة المجهولة التي كانوا يتلقونها مصدرها نيكولاس الطيب، فخلّدوا ذِكره باحتفالات شعبية بسيطة تُقام في 6 ديسمبر من كل عام كلما حلّت ذكرى وفاته.

القديس نيكولاس

تعرّض الرجل للسجن والتعذيب مرارًا بسبب اضطهاد السُلطات الرومانية للمسيحيين، في وقتٍ كانت تُعتبر فيها ديانتهم فِعلاً مارقًا محظورًا، واكتسب شهرة ذاعقة بسبب مقاومته لموجة التنكيل التي تعرّض لها المسيحيون عام 303 ميلاديًا، وبطبيعة الحال فإنه كلما لمع نجم الرجل وسط العامة تزايدت الأساطير الخارقة عنه فنسبت له بعض الأدبيات المسيحية معجزة إحياء الموتى، علاوة على معارضته العنيفة للهرطقات، فيُروى عنه جداله القوي مع آريوس في مجلس نيقية عام 325م، وهو النقار الذي خلّدته بعض الأيقونات بتجسيد نيكولاس وهو يؤدِّب الكافر الأعظم بصفعة.

كل هذه الأمور أضافت لمسة سحرية لسيرة رجل الهدايا فتحول إلى أيقونة «محبة وصمود» بنواحي أوروبا، لدرجة دفعت لتسميته قديسًا، يتشاجر الناس على رفاته وإقامة كنائس التبجيل له، والعناية بسيرته والاهتداء بها بعد وفاته.

أصبح قبره وِجهة رسمية لكافة الحجاج المسيحيين الأوروبيين خلال طريقهم إلى الأراضي المقدسة، وفي عام 1087 ميلاديًا سرق 62 بحارًا إيطاليًا الرفات وحملوها معهم على متن سفينتهم إلى موطنهم؛ مدينة باري (جنوب شرقي إيطاليا)، حيث أقيمت على شرفه بازيليكا استوعبت عظامه وحملت اسمه حتى اليوم، وفي عام 1950 ميلاديًا تمَّ فحص جمجمته بالأشعة السينية لتكشف عن ملامح شرق أوسطية؛ بشرة قمحية وعينين بنيتين، كما أكدت الفحوصات أن أنفه كان مكسورًا بشدة.. فهل كانت هذه الإصابة آخر أشكال التنكيل الروماني به؟

على كلٍّ، بفضل هذا الرجل ترسّخت عادة يوم الهدايا بأنحاء القارة العجوز، بعض البلدان احتفظت بهذه العادة في تاريخ وفاة نيكولاس، وأخرى نقلتها لمواقيت أخرى كيومي 24 و25 ديسمبر، واستمرت لمئات السنين.

يحكي جيري بولر في كتابه «سانتا كلوز.. سيرة ذاتية»، أن بعض المتعصبين المسيحيين حاولوا نقل الزخم الذي لاحَق شخصية نيكولاس إلى «المسيح» نفسه، عبْر جعله بطلاً لذات الأسطورة، فنسجوا حكاية جديدة عن الطفل المُعجِز الذي يُكرّم أقرانه الأطفال في يوم ميلاده، إلا أن أحدًا لم يقتنع بها ولم تنتشر بين الناس، ولكنها ربطت لأول مرة بين توزيع الهدايا ويوم عيد الميلاد.

ولكن كيف صار هذا الرجل النحيل، شاحب الوجه، أيقونة عالمية للاحتفال بهذا اليوم؟ الإجابة لم تكمن في موطنه الأصله بأوروبا، وإنما علينا السفر آلاف الكيلومترات لنعرفها.. في رحاب بلاد العمّ سام.

البروتستانت: فلنستبدل نيكولاس بالمسيح

حارب أوائل البروتستانت فكرة إقامة عيد الميلاد بدعوى أنه «بدعة كاثوليكية» بعيدة عن روح المسيحية. ففي يوم الميلاد من عام 1550م، خطب عالم اللاهوت والقس الفرنسي جون كالفن John Calvin في جمهور الكنيسة مُعربًا عن استغرابه قدوم هذا العدد الكبير للمكان على غير العادة، واعتبر أنهم جاءوا لـ «تكريم نويل» وليس من أجل المسيح.

كاد علماء الدين البروتستانت يُفلحوا في كفِّ الناس عن الاحتفال بهذه المناسبة، لولا أن زعيمهم مارتن لوثر عدّل مسار ثورته الإصلاحية بنفسه وحافظ على هذه الذكرى من الضياع، فلم يرفض الاحتفال باليوم ولم يعتبره بدعة، وشجّع على تبادل الهدايا بين الناس، لكنه شدّد على أهمية تحويل الانتباه من تكريم القديس نيكولاس الكاثوليكي إلى المسيح نفسه، وهو المقترح الذي يتكرر معنا للمرة الثانية، ويفشل أيضًا مجددًا، وبقيت شخصية نيكولاس بطلة وحيدة لعيد الميلاد، واستمرت جزءًا شعبيًا من تقاليد احتفال الأمريكان ببداية العام.

وهكذا أنقذت الثورية اللوثرية رقبة القديس نيكولاس من الانزواء، ولكن ما ضمن لها الخلود من بعده، لم يكن دعوة دينية ولا مجتمعية.. وإنما زجاجة مياه غازية.

فتّش عن أمريكا

خلال القرنين 17 و18، عبرت حكايات القديس نيكولاس المحيط الأطلنطي ووصلت أمريكا عبر المستوطنين الهولنديين الذين كانوا يعيشون في ولاية نيويورك، وإذا علمنا أن الاسم الأول للمدينة كان «نيو أمستردام» (إشارة إلى أمستردام، عاصمة هولندا)، لأمكننا تخيُّل حجمهم ومدى تأثيرهم في وعي الولاية البِكر، ويُمكن اعتبار أن وصول صيت الرجل إلى الولايات المتحدة كان نقطة حاسمة في خلود سيرته، بفضل تعطش المجتمع الوليد لأي دعائم فلكلورية يقيم عليها بنيانه الآخذ في التصاعد.

بالطبع لم تكن هيئة القديس نيكولاس كالتي نراها الآن في الأفلام والإعلانات، وإنما اقتصرت أسطورته بالمخيلة الأوروبية على رجلٍ نحيل، يرتدي ملابس الأساقفة التقليدية وعباءة حمراء بسيطة، له مُساعدِان كَنَسيان، يستخدمون جميعًا الخيول لتوصيل النَفَحات لأهالي الديار.

رسم القديس نيكولاس

صبغت أمريكا صورتها الخاصة على الأسطورة، فغيّرت من وجهه ووِجهته، وتقريبًا لم يشترك الأصل والصورة في الهيئة إلا باللحية البيضاء والرداء القاني، كما عدّلت اسمه «سينتر كيلاس» Sinterklaas (لقبه الهولندي) فظهر لقبه الجديد «سانتا كلوز» لأول مرة عام 1773م بإحدى الصحف المحلية.

يقول بولر، إن الأمريكان استعانوا بهدايا نيكولاس لتحويلها إلى «احتفال اجتماعي»، مجردين إياه بالتدريج من أي خاصية دينية وتحويله لمناسبة (أمريكية / علمانية / اجتماعية) بحتة.

خاف الهولنديون من الانصهار في المستعمرات الإنجليزية ومن أن يذوبوا وسط سكانها، وكوسيلة للحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم كوّن المثقفون من أنفسهم جماعات مقاومة سموها Knickerbockers، أحدهم هو المؤلف واشنطن ايرفينغ الذي وضع كتابه «تاريخ نيويورك» عام 1809، وتضمَّن قدرًا كبيرًا من القصص الأسطورية الهولندية، وبالطبع لم يغفل عن التعريض بسيرة الرجل، وقدّم به وصفًا بدائيًا له بأنه «سمين، ويدخن البايب»، ويقدّم الهدايا للأطفال الجيدين.

أما البداية الحقيقية لترسيخ الرجل بالعقلية الأمريكية، فكانت مع قصيدة شهيرة كتبها الدكتور كليمنت مور، أستاذ الدراسات اليونانية بالمدرسة اللاهوتية العامة في نيويورك، بعنوان «زيارة من القديس نيكولاس» عام 1822، والتي لعبت دورًا حاسمًا في ترسيخ صورة الرجل الجديدة، فظهرت لأول مرة حيوانات الرنّة والمزلقة السحرية، وأن سانتا ضخم الجثة معدته مُستديرة كـ «وعاء مليء بالهُلام» وغيرها من التشبيهات الطريفة التي رسّخت مظهر الرجل في عقول القرّاء.

هذه القصيدة اعتمد عليها رسام الكريكاتير الأمريكي توماس ناست حين رغب في تقديم الرجل مرسومًا للمرة الأولى، وعلى يديه تجسّدت أشعار كليمنت ورأى القارئ الأمريكي القدِّيس ثنائي الأبعاد لأول مرة عام 1874م، عبر افتتاحية مجلة «هاربر» النيويوركية.

وبمجرد ذيوعها على هذا الشكل، أعادت أمريكا هدية أوروبا لها، فصدَّرت إليها النسخة الجديدة المُشذبة من أسطورة نيكولاس، وألف سكان القارة العجوز سيرة وصورة رجل الهدايا الطاعن بالسن، وحمل أسماءً محلية؛ بير نويل Père Noël في فرنسا أو الأب كريسماس Father Christmas في بريطانيا.

قديس كوكاولا

مع دخول القرن العشرين عقده الثلاثين، سعت شركة كوكاولا لزيادة مبيعاتها في فصل الشتاء، فاعتمدت على رسام الكاريكاتير هادون ساندبلوم Haddon Sundblom، الذي استرجع أبيات قصيدة كليمنت، ليُقدِّم لنا صورة سانتا كلوز التي نعرفها الآن، معتمدًا على اللونين التجاريين الرئيسيين لعملاق المياه الغازية، وهما الأبيض والأحمر، وارتكز على تيمة الرجل الذي يزور الأطفال ويقدّم لهم النصائح ويسلمهم زجاجات الكوكولا كهدايا تجلب السعادة، وبالتأكيد لا ينسى أن يُذكِّر الجميع أنهم يمكنهم شُرب المياه الغازية طوال العام وليس في ديسمبر فقط.

حملة كوكاكولا وبابا نويل

امتدَّت رسومات ساندبلوم من العام 1931 إلى 1964 وجسّد بها «ديس كوكاولا»، على أنه رجل ضخم الجثة، ذو لحية بيضاء، وحُلة فرو حمراء سميكة، مع حزام وحذاء أسودين، وقبعة حمراء ناعمة مزودة بفرو أبيض، وفي سبيل الدقة استعان بصديقه رجل المبيعات المتقاعد لو برينتيس كموديل زوّده باللحية والزي الملائم، ثم يقوم برسمه، وعقب وفاته استعان بنفسه، فكان يرتدي حُلة بابا نويل ويرسم انعكاسه وهو واقف أمام المرآة.

حققت إبداعاته نجاحًا مذهلة، ونال هادون مقابل ذلك ألف دولار للوحة الواحدة، وهو رقم باهظ إذا علمنا أن حينها كان يُمكنك أن تبتاع سيارة مقابل 700 دولار وحسب، وهنا لم تمنحه كوكاولا أكثر من حقه، فصوره تداولها عشرات الملايين من البشر حول العالم، وساهمت الترسانة الإعلانية في ترسيخ قيمة بابا نويل كأيقونة إعلانية للشركة، فبات مجرد ظهوره بأي محفل إعلامي مرادف لها، وإلى الآن لا تزال عربات الشركة تجوب الشوارع، وربما لو بُعث القديس نيكولاس الآن من مرقده ورأى واجهة إحداها، لن يُصدق أن هداياه للأطفال الجيدية اقتصرت على بعض زجاجات الكوكاكولا.