حظي التصوف باهتمام الباحثين في الشرق والغرب على السواء، ولكن تمتع بمكانة خاصة لدى المستشرقين الأوروبيين، فقدموا دراسات متنوعة بين الترجمة والنشر والتحقيق لكتب التراث الصوفي، بالإضافة إلى دراسات تناولوا فيها قضايا التصوف وشخصياته، للكشف عنها بموضوعية أحيانًا، وبغير موضوعية أحيانًا أخرى. وبين هذا وذاك فلا انتقاص من قدر جهود المستشرقين في هذا الصدد.

ومن القضايا التي أولى المستشرقون العناية والاهتمام بها، هي قضية «تأصيل ونشأة التصوف الإسلامي». وقد تباينت آراؤهم في هذه القضية بسبب اتجاهاتهم الفكرية واختلاف مدارسهم، فهناك من أصدر حكمًا موضوعيًا، والعكس.

ومن أهم مدارس الاستشراق في أوروبا، والتي تناولت قضية تأصيل التصوف ونشأته، هي المدرسة الإنجليزية والمجرية ومن أبرز مُمثلي الاستشراق الإنجليزي «إدوارد براون» وتلميذه «رينولد نيكلسون». أمّا المدرسة المجرية فقد تمثلت في جهود أكبر وأخطر مستشرقيها «أيجناس جولد تسيهر»، المعروف بنزعته العصبية في دراسته للتصوف.

وفيما يلي عرض لأبرز آرائهم.

المدرسة الإنجليزية في دراسة التصوف

تمثلت مصادر التصوف عند أعلام هذه المدرسة -الإنجليزية- في ثلاثة: المصدر المسيحي، والهندي، واليوناني.

فيما يتعلق بالمصدر المسيحي، فقد أكد نيكلسون أن زهد وتصوف المسلمين الأوائل كان أقرب لما كان عند الرهبان النصارى، فكانوا يولون النصح والإرشاد لزُهّاد المسلمين، فضلاً عن أن أقوال الصوفية والزُهّاد مقتبسمة من أقوال المسيح عليه السلام،[1] وهذا ما جعله يرد مقام التوكل إلى المسيحية. [2]

أما فيما يتعلق بالفلسفة اليونانية، فقد ردّ «إدوارد بروان» (عام 1926) أصل التصوف إلى فلسفة اليونان، حيث قال: «من المحتمل أنه ما دام التصوف لم يكن على الإطلاق مظهرًا مستقلاً عن مظاهر العرفان، وأنه شيء فطري في نظر البعض، فالواجب أن يكون من بين الطرق والمسالك الأخرى – مدينًا إلى حد كبير لمسلك الأفلاطونية المُحدّثة وطريقتها». [3]

وكذلك ردّ «رينولد نيكلسون» أصل التصوف إلى الأصل اليوناني فيقول:

قد نقلت إلى العربية كتب لا حصر لها من الفلسفة والطب وسائر العلوم اليونانية الأخرى، التى عكف المسلمون على دراساتها، فقد كانت أساسًا قامت عليه علومهم الجديدة، خاصة الفلسفة، حتى لتكاد العلوم والفلسفة الإسلامية تكون مُؤسَسة على حكمة اليونان وحدها. [4]

وذلك أيضًا ما ذهب إليه المستشرق الإنجليزي «أوليري» حينما قال إن كتاب «أثولوجيا أرسطو طاليس» في مقدمة التأثير المباشر، لأنه من أشهر الكتب تأثيرًا على الفكر الصوفي الإسلامي. [5]

ولم يتوقف نيكلسون عند حدود المصدرين المسيحي واليوناني كمصادر للتصوف، فراح يبحث في المصدر الهندي عن الأثر الذي أحدثته في الصوفية الإسلامية، حتى عدّه مصدرًا ثانويًا على العكس من آراء بعض مستشرقين آخرين جعلوا المصدر الهندي أصلاً أساسيًا في الحياة الروحية في الإسلام، وهذا ما قال به المستشرق «فون كريمر» (عام 1889).

المدرسة المجرية في دراسة التصوف

تناول «جولد تسيهر» مقام التوكل عند الصوفية المسلمين، حيث بيّن أنه ناحية خلقية برزت بصورة واضحة جلية في زُهّاد هذا العصر، وكانت تعني المبالغة في التوكل على الله والثقة به، وهذه العاطفة هي التي دفعت بهم إلى أقصى درجات الطمأنينة النفسية القانعة، فأصبحوا لا يبالون بشيء، وأهملوا الدنيا مُطلقًا ونبذوا كل تصرف ذاتي يحملهم على الاهتمام بمصالحهم الخاصة، بل تركوا أنفسهم لعناية الله وقضائه. [6]

وقد رأى «تسيهر» أن المصدر المسيحي هو أحد أهم مصادر التصوف في الإسلام، فنجده يقول:

إن أولئك المسلمين الذين قوي في نفوسهم المجافاة القوية لمتع الدنيا، أخذ بلبهم في البداية نسك رهبان المسيحية، وتأثروا بهؤلاء السائحين التائبين تأثرًا قويًا، وهم التائبون الذين ورد ذكرهم في الشعر العربي القديم قبل عهد النبي، هذا الشعر الذي صوَّر للعرب حياة النسك، وبيّنها لهم. [7]

ثم حاول «تسيهر» إثبات أن المصدر الهندي هو المصدر الثاني للتصوف في الإسلام، وقد تم ذلك عن طريق الرهبان الرُحّل من الهنود، الذين كانوا عن كَثَب من المسلمين في العراق في عهد الخلفاء الأوائل من بني عباس، كما بلغ السائحون الهنود بلاد الشام في العصر الأموي [8]. وقد دلّل تسيهر على أثر البوذية من خلال قصة بوذا التي كثر الاستشهاد بها في المؤلفات الصوفية الإسلامية، فذكر قصة أحد أئمة الصوفية الكبار في الإسلام التي تشبه السمات البارزة في سيرة بوذا، وهي قصة الولي «إبراهيم بن أدهم» (162ه). [9]

وأخيرًا ذكر تسيهر المصدر اليوناني في الصوفية الإسلامية، حيث حدد الأثر القوي الذي أحدثته الفلسفة الأفلاطونية المُحدَّثة، إذ نفذت تعاليمها إلى نطاق الحياة العقلية في الإسلام. كما أحدث بعد ذلك آثارًا عميقة في نمو الفكر الإسلامي وترقيه، وأوجد أساسًا فلسفيًا واعتقاديًا بُنيَت عليه تقاليد الزهد وطقوسه. [10]

كيف يمكن دحض ما قاله المستشرقون؟

أولاً:

فيما يتعلق برد الزهد في الإسلام للرهبنة المسيحية، فإن الزُهد في الإسلام لا يعني بالضرورة نبذ الدنيا كلية إلا بقدر يستغرق الإنسان بكليته في تلبية مطالبها الدنيوية، ويهمل القدر الذي يوصله للحياة الأخروية، إذ ليس على الإنسان من حرج في طلب الدنيا ولكن بالقدر الذي يقيم به شئون حياته، وفي حدود ما أحلّه الله، وبحيث لا يصرفه هذا عن عبادته وطاعته لله في الوقت نفسه، لأنه يوقن أن الآخرة خيرٌ له من الأولى. [11]

ونتبيّن من هذا أن زهد المسلمين يختلف عن «الرهبنة»، التي هي انقطاع عن الدنيا كليةً، وبالتالي لا يمكن أن يكون الرُهبان مُعلمين وموجهي النصح لزُهّاد المسلمين، لأن في القرآن والسنّة ما يكفي لحثهم لهذه الحياة الزهدية، وأخذ موقف من الدنيا، ففي قوله تعالى:

«فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى»
سورة النازعات – آية 39:36.
«وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»
سورة النازعات – آية 41:40.
«قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى»
سورة الأعلى – آية 17:14.
«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور»
سورة الحديد – آية 20.

ثانيًا:

فيما يتعلق بالمصدر اليوناني القائلين به، فلا شك أن هناك أثرًا للفلسفة اليونانية والمصادر التي تم ذكرها على التصوف الإسلامي، ومع ذلك لا يمكن رد التصوف كله إلى المصدر اليوناني، بل وجعله أساسًا قام عليه، فالصوفية الأوائل لم يكونوا مُقبلين على الفلسفة اليونانية كإقبال المتكلمين أو الفلاسفة، ولم تقبل الصوفية هذه الفلسفة إلا في وقت متأخر، حينما عمدوا إلى مزج الفلسفة بالتصوف، وذلك لم يكن إلا في القرن السادس الهجري وما بعده. [12]

ثالثًا:

أمّا المصدر الهندي، فحياة الزُهد التي عاشها الزُهّاد الأوائل كانت من خلال اتباع القرآن والسنة، وليست تأثرًا بحياة الرهبان الهنود، ذلك لأن العبادة الكاملة في الإسلام لا تقتضي حرمان النفس من كل شيء، حتى من الطيبات التي أحلها الله للمسلم. [13]

وردًا على ما دلّل عليه تسيهر بقصة بوذا وتشابهها مع أحد أئمة الصوفية في الإسلام (إبراهيم بن أدهم) فقد ذكر «علي سامي النشّار» أنه لا يعرف في الإسلام أن ملكًا أو أميرًا تولى إمارة خراسان، فكان «إبراهيم بن أدهم» ثريًا من أثرياء مُسلمي خراسان، فزهد في الدنيا حين استمع لآية قرآنية تدعوه إلى الله، فتخلى عن قصره وترك الدنيا. لذلك ما إن دعا داعٍ إلى الجهاد فأسرع للثغور للمرابطة والجهاد في سبيل الإسلام، وتلك سُنّة أخذ بها منْ جاء من بعده، فشتان بينه وبين الحكيم الهندي الذي تخلى عن كل مطمع وخرج هائمًا لا شأن له بالدنيا تمامًا. [14]

رابعًا:

أما فيما يتعلق بـ «التوكل عند الصوفية»، ودعوى المستشرقين بأن جوهره من المسيحية، فيمكن القول إن في القرآن والسنة شواهد كثيرة حثت على التوكل على الله، وهي الشواهد التي استند عليها الصوفية المسلمون، فقد قال تعالى:

«فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»
سورة آل عمران – آية 159.
«وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»
سورة الشورى – آية 36.
«وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»
سورة الأنفال – آية 49.

إلى جانب أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) مثل: «لو أنَّكم توكَّلتُم على اللهِ حقَّ توكُّلِه، لَرزَقَكم كما يرزُقُ الطيرَ؛ تَغْدُو خِماصًا، وترُوحُ بِطانًا» [صحيح ابن ماجه رقم 3377].

المراجع
  1. نيكلسون (رينولد ألن)، “صوفية الإسلام”، ترجمة: نور الدين شريبة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2012، ص 14-15.
  2. نيكلسون (رينولد ألن)، “في التصوف الإسلامي وتاريخه”، ترجمة: أبو العلا عفيفي، لجنة التأليف والترجمة بالقاهرة، 1965، ص 55.
  3. براون (إدوارد جرنفيل)، “تاريخ الأدب في إيران”، ترجمة: أحمد كمال الدين حلمي، المركز القومي للترجمة، ط1، م2، القاهرة، 2005، ص 313.
  4. نيكلسون (رينولد ألن)، “في التصوف الإسلامي وتاريخه”، مرجع سبق ذكره، ص 14.
  5. أوليري (دي سي)، “الفكر العربي ومركزه من التاريخ”، ترجمة: عادل البيطار، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ١٩٨٢، ص 18.
  6. جولد تسيهر (أجناس)، “العقيدة والشريعة في الإسلام”، ترجمة: محمد يوسف موسى وعلي حسن عبد القادر وعبد العزيز عبد الحق، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 2014.، ص 150.
  7. المرجع السابق، ص 147.
  8. المرجع السابق، ص 159.
  9. المرجع السابق، ص 160.
  10. المرجع السابق، ص 153.
  11. الجزار (أحمد محمود)، “فخر الدين الرازي والتصوف”، دار نهضة الشرق، القاهرة، 1996، ص 47-48.
  12. التفتازاني (أبو الوفاء)، “مدخل إلى التصوف الإسلامي”، دار الثقافة للنشر، القاهرة، 1969، ص 34.
  13. الجزار (أحمد محمود)، “الإمام المجدد ابن باديس والتصوف”، دار منشأة المعارف، الإسكندرية، 2000، ص89.
  14. النشار (علي سامي)، “نشأة الدين: النظريات التطورية والمؤلهة”، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، 2009، ص 57-58.