دعنا نبدأ كالعادة بسؤال رئيسي ثم نتفرع: إلى أي درجة يمكن لفوضى ما أن تتعقد؟

الإجابة السريعة: لدرجة الانتظام! بالطبع سوف نحتاج في البداية لأن نفهم معانيَ مصطلحاتٍ هامة كـ فوضى، انتظام، منظومة، علاقة، …إلخ؛ لكن دع كل هذا جانبًا، قبل أن تبدأ عشرات الأسئلة في الانهمار على أدمغتنا كشلالٍ ضخم من أثر تلك الإجابة العجيبة قليلاً؛ دعني أحكي لك قصةً خفيفة اعتدت أن أحكيها لزوجتي قديماً قبل زواجنا، كانت تحب تلك القصة لسبب ما لا أعرفه، وكنت أحكيها كما هي، هكذا:

كان فيه ولد اسمه حسام، بيدرس الطب في جامعة بنها، اتصلوا بيه علشان يروح المستشفى بسرعة لأن جده عمل حادثة بالعربية، راح ، ساب دراسته، وفضل مع جده 15 يوم في المستشفى، هناك اتعرف على بنت جميلة اسمها لبنى، كانت بتيجي تزور أختها الممرضة كل سبت و تلات بعد الجامعة، جد حسام مات بعد معاناة ، وده ساب أثر عظيم في الولد؛ لدرجة إنو كان ييجي المستشفى كل كام يوم يقعد شوية، لبنى لاحظت ده واتشدت لحسام، اتقابلوا بالصدفة كام مرة، اتشدوا لبعض وحبوا بعض و اتجوزوا وخلفوا أحمد، كان طفل ذكي، أبوه لمح ده من أول يوم واهتم بيه، الولد وقع في عشق الرياضيات وفضل من وهو عنده 3 سنين يدرسها، لحد ما وصل لجامعة برينستون، وظهرت مواهبه في خوارزمية جديدة انشأها للتعامل مع أكواد معينة، في البداية كان الموضوع بسيط بس مع تطور الفكرة استخدمتها فرقة هاكرز وضربت بيها سيستم أكواد الأسلحة النووية في عدة دول وقامت حرب، كانت الحرب في البداية بين باكستان و دولة صغيرة جنبها، دخلت أمريكا جنبها، دخلوا روسيا والصين، العالم كله انهار والأمطار الحمضية والرياح النووية ضربت كل أخضر و يابس على الكوكب؛ الارض انتهت!
و الآن، اختر الإجابة الصحيحة:

لمَ انتهت الحياة على سطح الأرض؟

  1. بسبب حرب نووية.
  2. بسبب خوارزمية أحمد.
  3. لأن أحدهم مات جدّه في حادثة سيارة.

إن كان من الممكن أن ندعوَ القرن التاسع عشر بـ قرن الحتمية؛ فالقرن العشرين هو – بلا شك – قرن اللاحتمية. يمكن أن نعتبر قوانين نيوتن الثلاثة للحركة، التي ضمّنها في كتابه (الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية)، هي قلب العلم الحديث النابض، تلك القوانين التي تحكي حياتك اليومية؛ اتزان كوب الماء على طاولة الإفطار، قوة اندفاع المياه من فتحات الدُشّ الصغيرة، سرعة نزولك على سلالم البيت، حادثة بسيطة أثناء قيادتك إلى عملك، تستطيع توقع مواعيد وصول الطائرات وكمّ الطاقة المبذول في مُحرك سيارتك وما تحتاجه من وقت للوصول إلى القمر، والمريخ، وألفا قنطورس، بمركبةٍ ذات قدراتٍ محددة. مع قوانين نيوتن، كل شيءٍ واضحٌ ومحددٌ ويمتاز بصفتيْن أساسيتيْن كانتا منارتين للعلم في القرن التاسع عشر:

1. الحتمية Determinism، والتي أدت لظهور:

2. الاختزالية Reductionism


الحتمية Determinisim

تقول الحتمية إن تسلسل الأحداث في الكون يخضع لتسلسل آخر منطقي سببيّ، محدّد مُسبقًا عبر قوانين الطبيعة، في كل مرة تركب فيها سيارتك و تقودها بسرعة متوسطة تساوي 60 كم/ساعة سوف تصل لعملك الذي يقع على بعد 15 كيلومتر بعد ربع ساعةٍ فقط، في كل مرة، سوف تصل بعد ربع ساعة مهما كررنا التجربة، أو دعنا نقولها بطريقة أخرى: (حتماً) سوف تصل بعد ربع ساعة. الكون هنا عبارة عن ساعة Clockwork universe، ساعة ضخمة للغاية تحتوي على ملايين، وربما تريليونات التروس التي تعمل بسرعةٍ معينة، وبقوة معينة، واحتكاكاتٍ محددة، حتى تعطي نتائج محددة من خلال علاقةٍ خطيّة بين السبب والنتيجة.

دعنا هنا نقترب قليلاً مما يعنيه مصطلح (العلاقة الخطية Linear Relation)، حينما نقول: خطّي، فنحن نعني – بالفعل – خطًّا، قطعةً مستقيمة، أقرب مسافة بين نقطتين، كما يقولها الأمريكان: No Games، علاقة مباشرة بين سببٍ ونتيجة، لو ضاعفنا قيمة السبب سوف تتضاعف قيمة النتيجة، ذاكر؛ تنجح، اضغط بدرجةٍ أكبر على دواسة البنزين؛ تزداد سرعة السيارة. الآن، دعنا نتعمق أكثر في فهم العلاقة الخطية من خلال الأمثلة السابقة. الأنظمة الخطية تعتمد في الأساس على مركبتين منطقيتين ندعوهما (قوانين التراكب أو التطابق Superposition Rules):

1. الخطّية تعني أن هناك تناسبًا مباشرًا بين (المُدخلات Inputs)، و (المُخرَجات Outputs)، لتر بنزين يساوي عشرة كيلومتراتٍ بسرعة كذا في سيارة ماركة كذا، لتران يصنعان 20 كيلومتر، 5 تسمح لك بالقيادة 50 كيلومتر، وهكذا.

2. كذلك تعني أنه حينما نجمع منظومتين فسوف نحصل على نتائج مجموعهما، لا أكثر ولا أقل؛ عند دمج مصنعَيْن لإنتاج الملابس الجاهزة، كل منهما ينتج 5000 قطعة في اليوم فالمجموع بعد الدمج هو 10000 قطعة، وهكذا.

هنا نلاحظ أن الخطية Linearity هي جزءٌ طبيعي من المنظومة الحتمية، والاختزالية.


الاختزالية Reductionism

يعني ما سبق أن فهم عمل تروس تلك الساعة الكونية هو سر اللعبة؛ بالتالي يمكن فهم عمل ساعةٍ ضخمةٍ للغاية من مجرد فهم كيفية عمل تروسها و العلاقات فيما بينها، دعنا نكتبها بلغة أخرى: يمكن لنا أن (نختزل) عمل تلك الساعة من خلال فهمنا لعمل التروس، وعلاقاتها فيما بينها، وتلك هي الاختزالية: يمكن فهم أي نظام بتفصيص أجزائه والعمل على فهم جزءٍ واحدٍ منها، وأن أي نظام هو مجموع خصائص أجزائه.

الترس1 يعمل بالشكل ع1

الترس 2 يعمل بالشكل ع2

الترس س يعمل بالشكل عس

قدرة الساعة ككل = ع1 + ع2 + ع3 + ع4 ……. + عس

الكون يتكون من مجرات، كلّ مجرة تحتوي على نجوم، وسدم، وكواكب، وتجمعاتٍ نجميةٍ باختلاف أنواعها، كل منها يحتوي على جزيئاتٍ أصغر حجماً، كل منها يحتوي على ذرات. إذن؛ دعنا نفهم كل شيء في الذرة و عن الذرة وبالتالي سوف نفهم كل شيء في الكون.

سنة 1900 صرح ديفيد هيلبرت إنه لا يوجد في الرياضيات ما يمكن أن ندعوه: لا نعرف ولن نعرف، كلّ شيءٍ يمكن نمذجته رياضياتيًّا ووضع حلولٍ له، كل شيءٍ على الإطلاق، نفس الفترة التي كتب الرياضياتي العظيم بيير سيمون لابلاس في (مقال فلسفي في الاحتمالات):

يمكن أن نعبّر عن الحالة الراهنة للكون على أنها أثرُ ماضيه وسببُ مستقبله، المُفكر الذي من شأنه في لحظة معينة
أن يعرف كل القوى التي تحرك الطبيعة، وكل أماكن العناصر التي تتكون منها الطبيعة، إن كان عقله واسعاً بما فيه الكفاية لتحليل كل هذا الكم من البيانات سوف يبني في صيغة واحدة حركة أعظم الأجرام في الكون و أصغر ذراتها؛ بالنسبة لهذا المفكر لن يكون هناك شيء (غير يقيني) وسوف يكون المستقبل موجودًا كالماضي قبالة أعيننا.

كانت تلك هي رؤية لابلاس للكائن الكلّي صاحب القدرة على معرفة كل شيء في الكون، إن توقع المستقبل بالنسبة لـ لابلاس هو كتحليل الماضي، إنها نفس الصور للمعادلة الرياضية الصارمة لا أكثر. سُمي هذا الكائن بـ عفريت لابلاس Laplac Demon أو رجل لابلاس الخارق Laplac Superman.

المراجع
  1. Order out of chaos: man's new dialogue with nature – Ilya Prigogine
  2. Complexity Theory Course: Complexity academy
  3. what is complexity science, really? By Steven E. Phelan – Emergence Magazine – May2001
  4. map of complexity science – Brian Castellani
  5. شوية علم من فضلك لـ د. السيد نصر الدين السيد
  6. البساطة العميقة لـ جون جريبن