كلما أثير موضوع اجتماعي يتعلق بالتدين والعلمانية _ كمواضيع خلع الحجاب، أو تفكيك منظومة الزواج بعلاقات الصداقة الجنسية وما تستتبعه من مسائل شائكة كالإجهاض والنسب وخلافه، أو المجاهرة بالمحرمات الدينية في المجال العام وحدود سلطة الدولة في المنع، أو أبعاد منظومة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التعاطي مع ذلك _ يُناقَش الموضوع من زاوية حقوقية فحسب، سواء أكانت حقوقية دينية، تنطلق من الفقه والشريعة، أو حقوقية علمانية، تنطلق من مقولات حقوق الإنسان والحريات الفردية والقانون.

لكن الأبعاد الاجتماعية للظاهرة، سواء الصيرورة التي تسببت فيها، أو التعاطي الاجتماعي المركب معها، تُنفى في زاوية منسية، يشار إليها دون تصريح، عن قصد، بسبب الخوف من مصارحة الذات بما قد لا يلائم توقعاتها، أو من دون وعي، بسبب قصر النظر والتشنج الأيديولوجي لدى طرفي النقاش كليهما؛ المتدين المحافظ من جهة، والعلماني التقدمي من جهة أخرى.

تعبر تلك الحالات عن انحسار المرجعية الدينية عن توجيه السلوك الاجتماعي للأفراد أو للمؤسسات، وهي الظاهرة التي يُطلَق عليها «العلمنة»، وهي ظاهرة اجتماعية قبل أن تكون مسألة فلسفية، فهي مجموعة من التغيرات الاجتماعية في نمط الإنتاج وبنية المؤسسات وبنى الثقافة تتسبب في خروج الأفراد تدريجيًا عن التزام المرجعية الدينية.

بالانتقال للمدينة، تنهار الأسرة الممتدة الريفية، وتنشأ الأسرة النووية، ويضطر الفرد لمواجهة أعباء حياته اليومية وضرورات الأمان والضمان الاجتماعي وحده كفرد مستقل.

في البداية كان وصف تلك العملية، الذي يُفترض أنه تحليل موضوعي وصفي يقوم به علم الاجتماع البنائي والوظيفي، يختلط بنزوع أيديولوجي معياري لاعتبار العلمنة انتصارًا للإنسان، واعتبار الدين عدوًا له، أو مخلفات من عصر بائد يجب التخلص منها. لكن التحرر من هذه النظرة الأيديولوجية العلمانية مؤخرا لم يحدث لصالح الانتقال للتحليل الوصفي، بل تحقق هذا التحرر على يد نظرة أيديولوجية ومعيارية أخرى أرادت أن تعتذر عن العجرفة العلمانية التي اتسمت بها طموحات الأسلاف، أو أن تدافع بتشفٍ عن الدين الذي أثبت أن العلمانية التي ادعت أنه سيندثر، ليست أقل خرافية من كل ما عادته. ظل التحليل الموضوعي الوصفي لعملية العلمنة منسيا، عن وعي، أو عن لاوعي.

لكن العلمنة بعيدًا عن التعلق الإيماني بها أو احتقارها، عملية متضمنة في التطور والتحديث الاجتماعي، فالاجتماع البشري الذي يبدأ كبنية عضوية لا تتميز عناصرها عن بعضها _ كما في حالة القبيلة التي يكون فيها الفرد بالأساس عضوًا في البنية أكثر منه عنصرًا مستقلا عنها _ يتعرض مع تطور أدوات الإنتاج بفعل التقدم العلمي وتراكم الثروة، لتغير في نمط الإنتاج داخله متضمنًا تغيرات في البنية الاجتماعية.

فمع نشوء المجتمع الحديث عبر عدة عمليات متقاطعة _ منها تمركز السلطة والسيادة في الدولة وتنظيم مهمات الدولة وأدواتها في أجهزة بيروقراطية تعمل على تقويض البنى الاجتماعية العضوية حتى تصل إلى الفرد مباشرة، وتطور التصنيع وحلوله محل الزراعة من جهة أخرى، واتساع المدن بالتوازي مع تقلص الريف والبداوة _ تحدث تغيرات في نمط حياة الفرد تستتبع بالضرورة تغيرًا في نمط تدينه.

فبالانتقال للمدينة، تنهار الأسرة الممتدة الريفية، وتنشأ الأسرة النووية، ويضطر الفرد لمواجهة أعباء حياته اليومية وضرورات الأمان والضمان الاجتماعي وحده كفرد مستقل. حينها تحتاج المرأة إلى الخروج إلى العمل لمساعدة زوجها، أو لتأمين معاش مستقل حال تخلي الزوج عن إعالتها. ويستتبع ذلك بالضرورة تقلصًا في سلطة الرجل في المنزل.

يتحول التعليم كذلك من ميزة يحرص عليها الأعيان والأذكياء لأبنائهم، الذكور تحديدًا، إلى ضرورة لضمان مكان مرموق أو حتى عادي في الأجهزة الحكومية أو في المصنع والشركة ذوي المتطلبات المعقدة. ويتعلمن التعليم نفسه ليواكب تلك المتطلبات، فتتسع مساحة العلوم الوظيفية وتتقلص مساحة المعارف الدينية والأدبية؛ فتدفع الأسر آنذاك ببناتها إلى التعليم لضمان مستقبل أفضل لهن، بما في ذلك ضمان زيجة مناسبة.

تتمظهر الحداثة في كل ذلك لا كموقف معياري، بل كواقعة، فهناك حداثة، أو بالأوْلى تحديث، يحتاج إلى تعاطٍ قيمي ومؤسسي مُبرمَج لجعل هذا الواقع الجديد أفضل.

لاحقًا، يزداد الاختلاط بين الجنسين في التعليم والعمل، كما يزداد الشعور بالفردانية لدى الشاب والفتاة، بما يؤدي إلى زيادة العلاقات العاطفية غير الممأسسة أسريًا، لكن المتطلبات المادية للزواج تتعقد في المقابل، فالأسرة النووية ليس بمقدورها استيعاب أسر أبنائها كما في بيوت الأسر الريفية الممتدة، كما أن تلك العلاقات على الرغم من توهجها العاطفي، لا تتحلى بالنضج اللازم لاتخاذ قرار الزواج. تنشأ آنذاك الحاجة إلى توسيع الحرية الجنسية، وما تنتجه تلك العلاقات من إشكاليات اجتماعية جديدة.

تتمظهر الحداثة في كل ذلك لا كموقف معياري، بل كواقعة، فليس هناك حداثة عظيمة تقابلها رجعية دميمة، وإنما هناك حداثة، أو بالأوْلى تحديث، هو واقعة قائمة بغض النظر عن اعترافنا بها، يحتاج إلى تعاطٍ قيمي ومؤسسي مُبرمَج لجعل هذا الواقع الجديد أفضل من منظور مرجعية معينة أو أخرى.

لا تقدم أولئك اللاتي يخلعن حجابهن، أو تلك الفتاة التي حاولت أن تقدم نفسها كمناضلة اجتماعية في حيلة دفاعية واضحة لإنقاذ نفسها من مآساة شخصية، خطابا تحليليًا من هذا النوع، ولا يفترض بهن ذلك، لكن وراء اختياراتهن ومبرراتها المزعومة سواء أكانت مبررات حقوقية أو دينية أو غيرها، تكمن تلك التغيرات الاجتماعية التي تفرض نفسها؛ فهذه السلوكيات هي أعراض علمانية على هامش تحديث محموم.

هل يعني ذلك أن علينا أن نستسلم لما لا بد منه؟ ما يميز الإنسان هو قدرته على التعامل الواعي والمخطط مع التطور الاجتماعي والمادي الصلب. هكذا أنتجت البشرية العديد من تقنيات التكيف الاجتماعي مع عملية التحديث، وكانت دولة الرفاه ومؤسسات المجتمع المدني والحركات السياسية وأنماط من الإنتاج الفني والأيديولوجي نموذجًا لتلك التقنيات، التي جمعت بين حداثيتها الموضوعية، أي كونها ظواهر حديثة تنتمي إلى بنية المجتمع الحديث، وبين احتفاظها بأهداف واعية في توجيه التحديث نحو أوضاع أكثر تلاؤمًا مع مراجع قيمية محددة. وهذا ما علينا أن نفكر فيه.